حِوَارٌ حَوْلَ حُكْمِ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدٍ فِيهِ قَبْرٌ

(النُّسخةُ 1.76 - الجُزءُ السابِعُ)

 

جَمعُ وتَرتِيبُ

أَبِي ذَرٍّ التَّوحِيدِيِّ

AbuDharrAlTawhidi@protonmail.comانقر هنا للتواصل عبر البريد الإلكتروني

 

حُقوقُ النَّشرِ والبَيعِ مَكفولةٌ لِكُلِّ أحَدٍ

 

اِنتَقِلْ إلى المُقَدِّمةِ أو إلى الجُزءِ:

 

 

تَتِمَّةُ المسألة الثامنة والعشرين

 

زيد: وَهَلْ حالُ التعليمِ في المدارس الغير أَزْهَرِيَّةِ (في المجتمَعاتِ المُنْتَسِبةِ للإسلامِ) أَحْسَنُ مِن حالِ التعليم في المدارس الأَزْهَرِيَّةِ، أَمْ هو أَسْوأُ؟.

 

عمرو: بَيَانُ ذلك يُمْكِنُك التَّعَرُّفُ عليه مِمَّا يَلِي:

 

(1)قالَ الشيخُ عَبْدُالرّحمن المُعَلِّمِيّ اليَمَانِي (الذي لُقِّبَ بـ "شيخِ الإسلامِ"، وبـ "ذَهَبِيِّ العَصْرِ" نِسبةً إلى الإمامِ الحافظِ مُحَدِّثِ عَصْرِه مُؤَرِّخِ الإسلامِ شَمْسِ الدِّينِ الذَّهَبِيِّ الْمُتَوَفَّى عامَ 748هـ، وَتَوَلَّى رئاسةَ الْقَضَاءِ في "عسير"، وتُوُفِّيَ عامَ 1386هـ) في تَعلِيقِه على قولِ ابْنِ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيِّ (ت974هـ) في (تُحْفَةِ الْمُحْتَاجِ) {إنَّمَا هُوَ عِنْدَ صَلَاحِ الأَزْمِنَةِ بِحَيْثُ يَنْفُذُ فِيهَا الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَقَدْ تَعَطَّلَ ذَلِكَ مُنْذُ أَزْمِنَةٍ}: أَقُولُ، وهذا صحيحٌ، وقد مَضَتْ عِدَّةُ قُرونٍ لا تَكادُ تَسمَعُ فيها بعالِمٍ قائمٍ بالمعروفِ لا يَخافُ في اللهِ لَوْمةَ لائمٍ، بَلْ لا تَجِدُ رَجُلًا مِن أهلِ العلمِ إلَّا وهو حافِظٌ لِحَدِيثِ {حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ هَوًى مُتَّبَعًا وَشُحًّا مُطَاعًا [قالَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وإيَّاكُمْ والشُّحَّ، فإنَّه دَعَا مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ فَسَفَكُوا دِماءَهُمْ، ودَعَا مَنْ كان قَبْلَكُمْ فَقَطَّعُوا أَرْحامَهُمْ، ودَعَا مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ فاسْتَحَلُّوا حُرُماتِهِمْ} صَحَّحَه الألباني في (صحيح الترغيب والترهيب). وقالَ المناوي في (فيض القدير): (شُحٌّ مُطَاعٌ) أَيْ بُخْلٌ يُطِيعُهُ النَّاسُ، فَلَا يُؤَدُّونَ الْحُقُوقَ؛ وَقَالَ الرَّاغِبُ {خَصَّ الْمُطَاعَ لِيُنَبِّهَ أَنَّ الشُّحَّ فِي النَّفْسِ لَيْسَ مِمَّا يُسْتَحَقُّ بِهِ ذَمٌّ، إِذْ لَيْسَ هُوَ مِنْ فِعْلِهِ، وَإِنَّمَا يُذَمُّ بِالانْقِيَادِ لَهُ}. انتهى] وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخُوَيْصَةِ نَفْسِكَ وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَامَّةِ} يَعتَذِرُ به عن نَفْسِه، ويَعْذِلُ [أَيْ ويَلُومُ] به مَن رَآه يَتَعَرَّضُ لإنكارِ شيءٍ مِنَ المُنكَرِ؛ وقد وُجِدَ ذلك في آخِرِ عَصْرِ الصَّحابةِ، بعدَ الثَّلَاثِينَ سَنَةٍ، فكان أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ واحِدَ عَصْرِه في التَّجَاسُرِ على إنكارِ المُنكَرِ (بقَدْرِ الإمكانِ)، حتى شَدَّدَ في ذلك عَبْدُالْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ [هو خامِسُ حُكَّامِ الدولةِ الأُمَوِيَّةِ، وهو الذي وَلَّى الْحَجَّاجَ الْعِرَاقَ]، خَطَبَ على مِنْبَرٍ وقالَ {واللهِ لا يَقُولُ لِي أَحَدٌ (اِتَّقِ اللهَ) إِلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَهُ}، ثم تَوَارَثَها المُلوكُ والأُمَراءُ إلَّا مَن شاءَ اللهُ، ولهذا عَظُمَ عند الناسِ ابْنُ طَاوُوسٍ وعَمْرُو بْنُ عبيدٍ وغيرُهما مِمَّن كان يَتَجاسَرُ على النَّهيِ عنِ المُنكَرِ، وعلى كُلِّ حالٍ فالمعروفون مِنَ العلماءِ بذلك أفرادٌ يُعَدُّون بالأصابِعِ والجُمهورُ ساكِتون؛ وأَمَّا في القُرونِ المُتأخِّرةِ فشاعَتِ المُنْكَراتُ بين المُلوكِ والأُمَراءِ والعُلَماءِ والعامَّةِ، ولم يَبْقَ إلَّا أفرادٌ قَلِيلون لا يَجْسُرون على شيءٍ، فإذا تَحَمَّسَ أحدُهم وقالَ كَلِمةً قالَتِ العامَّةُ {هذا مُخالِفٌ للعلماءِ ولِمَا عَرَفْنا عليه الآباءُ}، وقالَ العلماءُ {هذا خارِقٌ للإجماعِ مُجاهِرٌ بالابتداعِ}، وقالَ المُلوكُ والأُمَراءُ {هذا رَجُلٌ يُرِيدُ إحداثَ الفِتَنِ والاضْطِراباتِ، ومِنَ المُحالِ أنْ يكونَ الحَقُّ معه، وهؤلاء العلماءُ ومَن تَقَدَّمَهم على باطِلٍ، وعلى كُلٍ فالمصلحةُ تَقتَضِي زَجْرَه وتَأدِيبَه}!، وقالَ بَقِيَّةُ الأفرادِ مِنَ المُتَمَسِّكِين بالحَقِّ {لقد خاطَرَ بنَفْسِه وعَرَّضَها للهَلاكِ، وكان يَسَعُه ما وَسِعَ غيرَه}!، وهكذا تَمَّتْ غُرْبةُ الدِّينِ، فإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المُعَلِّمِيّ-: وقد جَرَّبْتُ نَفْسِي أنني رُبَّما أَنظُرُ في القَضِيَّةِ زاعِمًا أنه لا هَوَى لِي، فيَلُوحُ لي فيها مَعْنًى، فأُقَرِّرُه تَقرِيرًا يُعْجِبُنِي، ثم يَلُوحُ لي ما يَخْدِشُ في ذاك المَعْنَى، فأَجِدُني أَتَبَرَّمُ بذلك الخادِشِ، وتُنازِعُنِي نَفْسِي إلى تَكَلُّفِ الجَوابِ عنه وغَضِّ النَّظَرِ عن مُناقَشةِ ذاك الجَوابِ، وإنَّما هذا لأنِّي لَمَّا قَرَّرتُ ذاك المَعْنَى أَوَّلًا تَقرِيرًا أَعْجَبَنِي صِرْتُ أَهْوَى صِحَّتَه، هذا مع أنه لم يَعْلَمْ بذلك أَحَدٌ مِنَ الناسِ، فكيف إذا كنتُ قد أَذَعْتُه في الناسِ ثم لاحَ لي الخَدْشُ؟، فكيف لو لم يَلُحْ لي الخَدْشُ ولكنَّ رَجُلًا آخَرَ اعتَرَضَ عَلَيَّ به؟، فكيف لو كان المُعتَرِضُ مِمَّن أَكرَهُه؟!؛ هذا، ولم يُكَلَّفِ العالِمُ بأنْ لا يكونَ له هَوًى، فإنَّ هذا خارِجٌ عنِ الوُسْعِ، وإنَّما الواجِبُ على العالِمِ أنْ يُفَتِّشَ نَفْسَه عن هَوَاها حتى يَعرِفَه، ثم يَحتَرِزَ منه، ويُمْعِنَ النَّظَرَ في الحَقِّ مِن حيث هو حَقٌّ، فإنْ بانَ له أنَّه مُخالِفٌ لِهَوَاه آثَرَ الحَقَّ على هَوَاه... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المُعَلِّمِيّ-: والعالِمُ قد يُقَصِّرُ في الاحْتِراسِ مِن هَوَاه، ويُسامِحُ نَفْسَه، فتَمِيلَ إلى الباطلِ، فيَنْصُرَه وهو يَتَوَهَّمُ أنه لم يَخْرُجْ مِنَ الحَقِّ ولم يُعَادِه، وهذا لا يَكادُ يَنْجُو منه إلَّا المعصومُ، وإنَّما يَتَفاوتُ العلماءُ، فمنهم مَن يَكْثُرُ منه الاسْتِرْسالُ مع هَوَاه ويَفْحُشُ حتى يَقْطَعَ مَن لا يَعرِفُ طِبَاعَ الناسِ ومِقدارَ تأثيرِ الهَوَى بأنَّه مُتَعَمِّدٌ، ومنهم مَن يَقِلُّ ذلك منه ويَخِفُّ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المُعَلِّمِيّ-: وقد كان مِنَ السَّلَفِ مَن يُبالِغُ في الاحْتِراسِ مِن هَوَاه حتى يَقَعَ في الخَطَأِ مِنَ الجانِبِ الآخَرِ، كالقاضِي يَختَصِمُ إليه أَخُوه وعَدُوُّه، فيُبالِغُ في الاحْتِراسِ حتى يَظلِمَ أَخَاه، وهذا كالذي يَمْشِي في الطَّرِيقِ ويكونُ عن يَمِينِه مَزِلَّةٌ، فيَتَّقِيها ويَتَباعَدُ عنها فيَقَعَ في مَزِلَّةٍ عن يَسَارِه!. انتهى مِن (آثارُ الشيخِ المُعَلِّمِيّ). وقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي (شَرْحُ الإِلمَامِ بِأَحَادِيْثِ الأَحَكَامِ): وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيمَ أَرْجَحِ الظَّنَّيْنِ عِنْدَ التَّقَابُلِ هُوَ الصَّوَابُ، غَيْرَ أَنَّا نَرَاهُمْ إذَا اِنْصَرَفُوا إلَى الجُزئيَّاتِ يَخرُجُ بَعْضُهُمْ عن هَذَا الْقَانُونِ، وَمِنْ أَسْبَابِ ذلك اِشْتِبَاهُ الْمَيْلِ الْحَاصِلِ بِسَبَبِ الأدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْمَيْلِ الْحَاصِلِ عنِ الإلفِ وَالْعَادَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ، فَإِنَّ هَذِهِ الأُمُورَ [أيِ الإلفَ وَالْعَادَةَ وَالْعَصَبِيَّةَ] تُحْدِثُ لِلنَّفْسِ هَيْئَةً وَمَلَكَةً تَقْتَضِي الرُّجْحَانَ فِي النَّفْسِ بِجَانِبِهَا [أيْ بِجانِبِ الإلفِ وَالْعَادَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ] بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ النَّاظِرُ بِذَلِكَ وَيَتَوَهَّمُ أَنَّهُ رُجْحَانُ الدَّلِيلِ، وَهَذَا مَحَلُّ خَوْفٍ شَدِيدٍ وَخَطَرٍ عَظِيمٍ يَجِبُ عَلَى الْمُتَّقِي اللَّهَ تَعالَى أَنْ يَصْرِفَ نَظَرَهُ إلَيْهِ وَيَقِفَ فِكْرُهُ عَلَيْهِ. انتهى باختصار. وقالَ اِبْنُ الْقَيِّمِ فِي (الطُّرُقُ الْحُكْمِيَّةُ): وَالْمُتَأَخِّرُونَ كُلَّمَا اِسْتَبْعَدُوا شَيْئًا، قَالُوا {مَنْسُوخٌ، وَمَتْرُوكٌ الْعَمَلُ بِهِ}!. انتهى. وقالَ اِبْنُ الْقَيِّمِ أيضًا في (إعلام الموقعين): وَمَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، رَأْيٌ أَنَّ أَكْثَرَ مَنْ يُشَارُ إلَيْهِمْ بِالدِّينِ هُمْ أَقَلُّ النَّاسِ دِينًا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَأَيُّ دِينٍ وَأَيُّ خَيْرٍ فِيمَنْ يَرَى مَحَارِمَ اللَّهِ تُنْتَهَكُ، وَحُدُودَهُ تُضَاعُ، وَدِينَهُ يُتْرَكُ، وَسُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْغَبُ عَنْهَا، وَهُوَ بَارِدُ الْقَلْبِ، سَاكِتُ اللِّسَانِ، شَيْطَانٌ أَخْرَسُ (كَمَا أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِالْبَاطِلِ شَيْطَانٌ نَاطِقٌ)؟!، وَهَلْ بَلِيَّةُ الدِّينِ إلَّا مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ إذَا سَلِمَتْ لَهُمْ مَآكِلُهُمْ وَرِيَاسَاتُهُمْ فَلَا مُبَالَاةَ بِمَا جَرَى عَلَى الدِّينِ؟!... ثم قالَ -أَيِ ابنُ القيم-: وَهَؤُلَاءِ -مَعَ سُقُوطِهِمْ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ وَمَقْتِ اللَّهِ لَهُمْ- قَدْ بُلُوا فِي الدُّنْيَا بِأَعْظَمَ بَلِيَّةٍ تَكُونُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَهُوَ مَوْتُ الْقُلُوبِ، فَإِنَّ الْقَلْبَ كُلَّمَا كَانَتْ حَيَاتُهُ أَتَمَّ كَانَ غَضَبُهُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَقْوَى وَانْتِصَارُهُ لِلدِّينِ أَكْمَلُ. انتهى. وقالَ الشيخُ مُقْبِل الوادِعِي في (تحفة المجيب): ونحن في زَمَنٍ تُقْلَبُ فيه الحَقائقُ كما أَخْبَرَ النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأهلُ العِلْمِ الذِين كانَ يُظَنُّ أنَّهم سَيُدافِعون عنِ الإسلامِ وسيَحْمون حِمَاه، إِذَا الإسلامُ يُؤْتَى مِن قِبَلِهم، وما كُنَّا نَظُنُّ أنْ يَبْلُغوا إلى هذا الحدِّ، وأنْ يدافِعوا عن الكُفْرِ حتى يَجْعَلوه واجِبًا، دَعْ عنك أنَّهم يَجعَلون البِدعةَ سُنَّةً، والضَّلالَ هُدًى، والغَيَّ رُشْدًا، وصَدَقَ النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ذِكْرِ الفِتَنِ، إذْ يقولُ {سَتَكُونُ فِتَنٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، فَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ}، ونحن في زَمَنِ الفِتَنِ لا يُنكِرُ هذا إلَّا مَن أَعمَى اللهُ بَصِيرَتَه، فنقولُ، إنَّ لهم أَسْلَافًا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}، {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، أولئك [الأسْلَافُ] نَزَلَ بَعْدَهم قرآنٌ ففَضَحَهم، ونحن الآنَ لا يَنْزِلُ قرآنٌ، وإلَّا لَرَأَيْتَ أنَّ بعضَ أصحابِ العَمَائمِ واللِّحَى المُحَنَّاةِ والثَّوبِ الذي إلى وَسَطِ الساقِ، يُمْكِنُ أنْ يَفْضَحَه اللهُ كما فَضَحَ عَبْدَاللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ [هو عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولَ الذي أَنْزَلَ اللهُ تَعالَى فيه {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}]، وثَبَتَ عن النبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنَّه قالَ {إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ}، ويقول أيضًا {إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الأَئِمَّةُ الْمُضِلُّونَ} [قالَ الشيخُ صالح آل الشيخ في (التمهيد لشرح كتاب التوحيد): الأَئِمَّةُ الْمُضِلُّونَ هُمُ الذِين اتَّخَذَهم الناسُ أئمَّةً، إمَّا مِن جِهَةِ الدِّينِ، وإمَّا مِن جِهَةِ وِلَايَةِ الحُكْمِ. انتهى. وقالَ ابنُ تيميةَ في (مجموع الفَتَاوَى): الأَئِمَّةُ الْمُضِلُّونَ هُمُ الأُمَرَاءُ. انتهى.]، فهؤلاء حَذَّرَنا منهم رسولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فتَارةً يُمَثِّلُه اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بالكَلْبِ [قالَ تَعالَى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث}] تَنفِيرًا مُنَفِّرًا، وأُخرَى يُمَثِّلُه بالحِمَارِ {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}، ولا تَظُنُّوا أنَّ هذا في أَهْلِ الكتابِ فَقَطْ، بَلْ إنَّه في مَن زاغَ وانحرفَ مِنَ الأئمَّة المُضِلِّين. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ عليُّ بنُ محمد الصلابي (عضو الأمانة العامة للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين) في كتابه (الدولة العثمانية، عوامل النهوض وأسباب السقوط): فأَيْنَ كان العلماءُ في تلك الفَتْرَةِ [يعني أواخرِ الدولةِ العثمانيةِ] التي نحن بِصَدَدِها مِنَ التاريخِ؟، هل كانوا في مكانِ القيادةِ الذِي عَهِدَتْهم الأُمَّةُ فيه؟، هل كانوا حُمَاةَ الأُمَّةِ مِنَ العُدْوانِ؟، وحُمَاتَها مِنَ الظُّلْمِ الواقعِ عليهم مِن ذَوِي السلطانِ؟، هل كانوا هُمُ الذِين يُطالِبون للأُمَّةِ بحُقوقِها السياسيَّةِ وحُقوقِها الاجتماعيَّةِ وحُقوقِها الاقتصاديَّةِ؟، هلْ كانوا هُمُ الذِين يَأمُرون بالمعروفِ ويَنْهَون عنِ المُنْكَرِ، ويَقومون إلى الإمامِ الجائرِ فيَأمُرونه ويَنْهَونه، قَتَلَهم أَمْ لم يَقْتُلْهم؟، أمْ كان كثيرٌ منهم قد اسْتَعْبَدوا أَنْفُسَهم للسلطانِ، ومَشَوْا في رِكَابِه، يَتَمَلَّقُونه ويُبارِكون مَظَالِمَه فيَمُدُّونَهُ فِي الْغَيِّ؟!، بينما البَقِيَّةُ الصالحةُ منهم قد قَبَعَتْ في بُيُوتِها، أوِ اِنْزَوَتْ في الدَّرْسِ والكِتابِ تَحْسَبُ أَنَّ مُهِمَّتَها قَدِ اِنتَهَتْ إذا لَقَّنَتِ الناسَ العِلْمَ، وما نُريدُ أنْ نَظْلِمَهم فقد كان منهم -ولَا شَكَّ- مَن صَدَعَ بِكَلِمةِ الحَقِّ، ومنهم مَن أَلْقَى بالمَنْصِبِ تحتَ قَدَمَيه حين أَحَسَّ أنَّه يَسْتَعْبِدُه لأُولِي السلطانِ أو يَلْجُمُه عن كلمةِ الحقِّ، ولكنَّهم قِلَّةٌ قليلةٌ بين الكَثْرةِ الغالبةِ التي راحَتْ تَلْهَثُ وَرَاءَ المَتَاعِ الأَرْضِيِّ، أو تَقْبَعُ داخلَ الدَّرْسِ والكِتابِ. انتهى باختصار.

 

(2)وفي فتوى صَوتِيَّةٍ للشيخِ مُقْبِل الوادِعِي مُفَرَّغةٍ على موقعِه في هذا الرابط، سُئِلَ الشيخُ: لِمَاذا اِختَرْتُمْ مَنهَجَ الجَرْحِ والتعديلِ طَرِيقًا؟، مع أنَّه في نَظَرِ كثيرٍ مِنَ الدُّعاةِ والمُصلِحِين يَعُدُّونه سَبَبًا في تَفَكُّكِ الأُمَّةِ وسَبِيلًا إلى بُغْضِ مَن يَنْحُو هذا المَنْحَى؟، مُحتَجِّين بأنَّ زَمَنِ الجَرْحِ والتَّعدِيلِ قد اِنتَهَى مع زَمَنِ الرِّوايَةِ؟. فأجابَ الشيخُ: إذا تَرَكْنا الجَرْحَ والتَّعدِيلَ صارتْ كَلِمةُ الشيخِ الإمامِ القُدوةِ الشيخِ ابنِ باز [مُفْتِي الدِّيَارِ السُّعُودِيَّةِ] وكَلِمةُ عَلِيٍّ الطنطاويِّ [وهو القاضِي في المَحكَمةِ الشَّرعِيَّةِ بِدِمَشْقَ، وهو مِن أعلامِ (جَماعةِ الإخوانِ المُسلِمِين) في سُورِيَا، وقد تُوُفِّيَ عامَ 1999هـ. وقد قالَ الشيخُ الألباني في مَقْطْعٍ صَوتيٍّ مُفَرَّغٍ على هذا الرابط: الطنطاويُّ يُفْتِي ببعضِ الفَتاوَى يُخالِفُ فيها السُّنَّةَ الصحيحةَ، فالمُقَدَّمُ عنده -كما هو مُصِيبةُ كثيرٍ مِنَ الناسِ اليومَ- هو تَرجِيحُ التَّيسِيرِ على الناسِ أو أنَّ المَصلَحةَ هكذا تَقتَضِي، ويُلحَقُ بهذا محمد الغزالي... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الألباني-: هذا [يَعْنِي الغزالي] رَجُلٌ كَيْفِيٌّ [أَيِ اِعتِباطِيٌّ مُتَحَكِّمٌ]، لا أُصولَ له ولا مَراجِعَ، فَلَا هُوَ سَلَفِيٌّ، لأنَّ السَّلَفِيَّ يَرجِعُ إلى الكِتابِ والسُّنَّةِ وعلى مَنهَجِ السَّلَفِ الصالحِ، وَلَا هُوَ خَلَفِيٌّ، لأنَّ الخَلَفِيَّ يكونُ مُتَمَذهِبًا بمَذهَبٍ، فليس هو مُتَمَسِّكًا، فهو تارَةً تَرَاه مع الحَنَفِيِّ، تارَةً مع الشافِعِيِّ، فهو حَيْثُمَا وَجَدَ الهَوَى اِتَّبَعَه، كما قالَ الشاعرُ {وَمَا أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ، إِنْ غَوَتْ *** غَوَيْتُ، وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشَدُ}. انتهى باختصار] سَوَاءً، وَهُمَا لا سَوَاءٌ؛ فنحن مُحتاجُون إلى أنْ يُبَيَّنَ حالُ حسن الترابي ويوسفَ القرضاوي وعبدِالمجيد الزنداني [أَحَدِ كِبَارِ مُؤَسِّسِي جَماعةِ الإخوانِ المُسلِمِين في (اليَمَنِ)]، وهكذا أيضًا رُؤُوسُ الإخوانِ المُسلِمِين لا بُدَّ أنْ تُبَيَّنَ أَحْوالُهم، وعلماءُ الحُكوماتِ أيضًا لا بُدَّ أنْ تُبَيَّنَ أَحْوالُهم (الذِين يُجادِلون عنِ الحُكوماتِ بالباطلِ، ورَبُ العِزَّةِ يقولُ في كتابِه الكريمِ {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا})؛ والرسولُ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقولُ {إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الأَئِمَّةَ المُضِلِّينَ}، فإذا كان النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقولُ ذلك، وربُّ العِزَّةِ يقولُ في كتابِه الكريمِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}، والرسولُ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقولُ {بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ}، ويقولُ كما في الْبُخَارِيِّ {مَا أَظُنُّ فُلانًا وَفُلانًا يَعْرِفَانِ مِنْ دِينِنَا شَيْئًا}، ويقول {يَا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ}، ويقولُ لأَبِي ذَرٍّ {إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ}، ويَقولُ لِنِسائه {إِنَّكُنَّ لَأنْتُنَّ صَوَاحِبَاتُ يُوسُفَ}؛ وإنَّنِي أَحْمَدُ اللهَ، فقد طَحَنَ الجَرْحُ والتعديلُ عبدَالرحيم الطحان [جاءَ في كتابِ (فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء) أنَّ اللجنةَ (عبدالعزيز بن عبدالله بن باز وعبدالله بن غديان وصالح الفوزان وعبدالعزيز آل الشيخ وبكر أبو زيد) سُئلَتْ: جاءَتْنا أَشْرِطَةٌ مُسَجَّلةٌ لعالِمَين جَلِيلَين، هما الشيخ العلَّامة محمد ناصر الدين الألباني مُحَدِّث الشَّامِ، والشيخ العلَّامة مُقْبِل بن هادي الوادِعِي مُحَدِّث اليَمَنِ، يَتَحَدَّثان فيها عنِ الداعيَةِ المعروفِ عبدِالرحيم الطحان، حيث إنَّهما جاءَتْهم استِفساراتٌ حولَ صِحَّةِ ما يقولُه الطحان مِن أقاويلَ، منها (أنَّه يَذهَبُ إلى وُجوبِ تَقلِيدِ المَذاهِبِ الأَرْبَعةِ، وأنَّ نَبْذَ تَقْلِيدِ هذه المَذاهِبِ ما هو إلَّا ضَلَالٌ)؟. فأجابتِ اللجنةُ: إنَّه لا يَجِبُ تَقلِيدُ أَحَدٍ مِنَ العُلماءِ، وإنَّما يُؤْخَذُ بقَولِ العالِمِ إذا وافَقَ الدَّلِيلِ؛ والواجِبُ على الجَمِيعِ اتِّباع الرسولِ صلى اللهُ عليه وسلم، فهو القُدْوةُ لِجَمِيعِ المؤمنِين، قالَ اللهُ تَعالَى {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، وقالَ اللهُ تَعالَى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}. انتهى باختصار]، وقَرَّضَ لِسَانَ يوسفَ بنِ عبدِالله القرضاوي؛ وإنِّنِي أَحْمَدُ اللهَ، المُبتَدِعةُ تَرْجُفُ أَفْئِدَتُهم مِن شَرِيطٍ... فَسُئِلَ -أَيِ الشيخُ الوادِعِيُّ-: والذي يقولُ {إنَّه [أَيْ زَمَنَ الجَرْحِ والتَّعدِيلِ] اِنتَهَى مع زَمَنِ الرِّوايَةِ}؟. فأجابَ الشيخُ: الذي يقولُ إنَّه اِنتَهَى يا إخوانُ، هُمْ يَعْلَمون أنَّهم مَجْرُوحون، مِن أجْلِ هذا ما يُرِيدون أَنْ يَتَكَلَّمَ أَحَدٌ في الجَرْحِ والتَّعدِيلِ، فَهُمْ يَخَافون مِنَ الجَرْحِ والتَّعدِيلِ لأنَّهم يَعرِفون أنَّهم مَجْرُوحون. انتهى باختصار. وفي فتوى للشيخِ ربيع المدخلي (رئيسُ قسمِ السُّنَّةِ بالدراسات العليا في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة) على موقعه في هذا الرابط، سُئلَ الشيخُ {اِتَّخَذَ البعضُ السُّكوتَ عن أخطاء الجماعات الإسلامية مَنهَجًا له، وَ[زَعَمَ] أنَّ هذه هي الحِكمةُ، وأصبَحَ هذا [السُّكُوتُ] مَنهَجًا له أَتْباعٌ يَسِيرون عليه، ما حُكْمُ هذا المَنهَجِ الجَدِيدِ اليَومَ؟}؛ فأجابَ الشيخُ: أخشى أن يكون هناك مُبالَغةٌ في هذا السؤال، أنا لا أعتقد عالِمًا يَرَى هذا المنهجَ؛ فَعَلَى فَرْضِ وُقوعِه ووُجودِه فإن هذا خطأ، ويجب على مَن يَقولُ هذا الكَلامَ ويُنَظِّرُ هذا التَّنظِيرَ ويُؤَصِّلُ هذا التأصيلِ، يجب أن يتوب إلى الله تبارك وتعالى، فإنَّ اللهَ مَيَّزَ هذه الأُمَّةَ وفَضَّلَها على سائر الأُمم بعدمِ السُّكوتِ، بل بالتصريحِ، والتوضيحِ، والجهادِ وعلى رَأْسِه الأمرُ بالمَعروفِ والنَّهْيُ عنِ المُنكَرِ {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}، وقد لَعَنَ اللهُ بني إسرائيل لِاتِّخاذِهم مِثْلَ هذا المَنهَجِ السُّكوتِيِّ المُقِرِّ للباطِلِ المُغَلَّفِ بـ (الحِكمةِ)، قال {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ، لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}، والرسولُ يقولُ {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ}؛ الأمرُ بالمَعروفِ والنَّهْيُ عنِ المُنكَرِ أصلٌ عظيمٌ مِن أُصولِ الإسلامِ، لا يَقُومُ الإسلامُ إلَّا به، وَلَا تُحرِزُ الأُمَّةُ التَّقَدُّمَ على سائرِ الأُمَمِ إلَّا إذا قاموا به، فإنْ هُمْ قَصَّروا اِستَحقُّوا سَخَطَ اللهِ بَلْ لَعْنَتَه كَما لَعَنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فإذا قَصَّرْنا في هذا الدِّينِ وتَرَكْناه يَعبَثُ به أهلُ الأهواءِ والضَّلالِ وجارَيناهُمْ وسَكَتْنا عنهم وَسَمَّيْنا ذلك (حِكمةً)، فإنَّنا نَستَوجِبُ سَخَطَ اللهِ تبارك وتعالى، ونعوذ بالله مِن سَخَطِه، ونسأل اللهَ -إنْ كانَ لهذا الصِّنفِ وُجودٌ- أنْ يَهدِيَهم، وأنْ يُبَصِّرَهم بِطَرِيقِ الحَقِّ، وأنْ يُبَصِّرَهم بِعَيبِهم العظيمِ الذي وَقَعوا فيه فَيَخرُجوا منه إلى دائرةِ الدُّعاةِ إلى اللهِ بِحَقٍّ، الآمِرِين بالمعروف والناهِين عنِ المُنكَرِ، الصادِعِين به {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} كذلك اِصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُبتَدِعِين الضَّالِّين. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ عبدُالعزيز الراجحي (الأستاذ في جامعة الإمام محمد بن سعود في كلية أصول الدين، قسم العقيدة) في (شرح "شرح السنة للبربهاري"): فالكفرُ يَهْدِمُ الإسلامَ، والبدعُ تُضْعِفُ الإسلامَ، ومَن عَظَّمَ صاحبَ بدعةٍ فقد أعانَ على هَدْمِ الإسلامِ، لأنه أَعانَه على الباطلِ، ومَن تَبَسَّمَ في وَجْهِ مُبتدِعٍ فقد استَخَفَّ بما أَنْزَلَ اللهُ عز وجل على محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أنَّه يَنبَغِي للإنسانِ أنْ يَعْبِسَ في وَجْهِ المُبتدِعِ ولا يَتَبَسَّمُ في وَجْهِه. انتهى. وقالَ الشيخُ محمد بنُ الأمين الدمشقي في مقالةٍ له بعنوان (الحوار الهادي مع الشيخ القرضاوي) على موقعه في هذا الرابط: والسَّلَفُ الصالحُ رَضِيَ اللهٌ عنهم لم يَقِفوا في مُحارَبَةِ أَهْلِ البِدَعِ والضَّلالِ، بالرَّدِّ عليهم وبَيَانِ باطِلِهم، بَلْ أَخَذوا يُحَذِّرون الناسَ مِن مُجالَسَتِهم أو مُحادَثَتِهم أو التَّبَسُّمِ إليهم أو السَّلامِ عليهم أو رَدِّه عليهم، بَلْ ويُحَذِّرون أيضًا مِن مُجاوَرَتِهم في الدُّورِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الدمشقي-: رَحِمَ اللهُ أئمَّةَ السَّلَفِ، ما أَصْلَبَهم على الحَقِّ، وما أَشَدَّهم على الباطِلِ وأَهْلِه، ولذلك حَفِظَ اللهُ الدِّينَ بهم، أَمَّا زَمانُنا فقد اِخْتَلَطَ فيه الأمْرُ، وضاعَ الحَقُّ في الباطِلِ، فلا تَميِيزَ بين سُنِّيٍّ وبِدْعِيٍّ، ولو قلتَ لِأحَدِهم {اِتَّقِ اللهَ، ولا تَجلِسْ مع فُلَانٍ، لأنَّه صاحِبُ بِدعةٍ}، قالَ لك {اِتَّقِ اللهَ أنتَ، ولا تَقَعْ في أعراضِ المُسلِمِين}!. انتهى باختصار. وفي فيديو للشيخ صالح الفوزان (عضوُ هيئةِ كِبار العلماءِ بالدِّيَارِ السعوديةِ، وعضوُ اللجنةِ الدائمةِ للبحوثِ العلميةِ والإفتاءِ) بعُنْوانِ (حكم زيارة أهل البدع والأهواء وعيادتهم)، قال الشيخُ: زيارتُهم لدعوتِهم إلى الله وطَلَبِ التَّوبةِ منهم طَيِّبٌ، زيارةُ مرضاهم لِأجْلِ دعوتِهم لا بَأْسَ، أما زيارتُهم لغيرِ دَعْوةٍ لا يَجُوزُ. انتهى باختصار. وفي فيديو للشيخ صالح الفوزان أيضا بعُنْوانِ (ما حُكْمُ مُجالَسةِ أَهْلِ البِدَعِ بِحُجَّةِ التَّقَرُّبِ إليهم وتَعلِيمِهم الدِّينَ الصّحِيحَ؟)، قالَ الشيخُ: لا تَقْرَبْ مِن أَهْلِ البِدَعِ أَبَدًا، يُؤَثِّرون عليك، وتَأْثَمُ بجُلوسِك معهم، اِبتَعِدْ عنهم إلَّا إذا دَعَتِ الحاجَةُ إلى مُناظَرَتِهم وبَيَانِ ما هُمْ عليه مِنَ الباطِلِ وأنتَ عندك أَهْلِيَّةٌ لذلك، فلا مانِعَ، في حُدُودٍ. انتهى. وقالَ الشيخُ زكريا الأنصاري (ت926هـ) في (أسنى المطالب): تَجِبُ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إلَى دَارِ الإِسْلَامِ عَلَى مُسْتَطِيعٍ لَهَا إنْ عَجَزَ عَنْ إظْهَارِ دِينِهِ [قالَ الشيخُ حَمَدُ بن عَتِيقٍ (ت1301هـ) في (سبيل النجاة والفكاك من موالاة المرتدين والأتراك): الرَّجُلُ لا يكونُ مُظْهِرًا لدِينِه حتى يَتَبَرَّأَ مِن أهلِ الكُفْرِ الذي هو بَيْنَ أَظْهُرِهم، ويُصَرِّحَ لهم بأنَّهم كفارٌ، وأنَّه عَدُوٌّ لهم، فإنْ لم يَحْصُلْ ذلك لم يَكُنْ إظهارُ الدِّينِ حاصِلًا. انتهى. وقالَ الشيخُ حَمَدُ بن عَتِيقٍ أيضًا في (الدُّرَرُ السَّنِيَّةُ في الأَجْوِبةِ النَّجْدِيَّةِ): وإظهارُ الدِّينِ تكفيرُهم، وعَيْبُ دِينِهم، والطَّعْنُ عليهم، والبراءةُ منهم، والتَّحَفُّظُ مِن مُوَادَّتِهِمْ والرُّكونِ إليهم، واعتزالُهم، وليس فِعْلُ الصلواتِ فقط إظهارًا للدِّينِ؛ وقولَ القائلِ {إنَّا نعتزلُهم في الصلاةِ، ولا نأكلُ ذَبِيحَتَهم} حَسَنٌ، لكنْ لا يَكْفِي في إظهارِ الدِّينِ وحده، بل لا بُدَّ مِمَّا ذُكِرَ. انتهى. وقالَ الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ (رئيس القضاة ومفتى الديار السعودية ت1389هـ): وإظهارُه دِينَه ليس هو مُجَرَّدَ فِعْلِ الصلاة وسائر فروع الدين واجتناب محرماته مِنَ الربا والزِّنَى وغير ذلك، إنما إظهارُ الدين مُجاهَرتُه بالتوحيد والبراءةُ مما عليه المشركون مِنَ الشركِ بالله في العبادة وغير ذلك مِن أَنواعِ الكفرِ والضلال. انتهى من (فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم). وقالَ الشيخُ إسحاقُ بنُ عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب (ت1319هـ): قال في الإقناع [للْحَجَّاوِيِّ (ت968هـ)] وشرحه [للبُهُوتِيِّ (ت1051هـ)] {وَتَجِبُ الْهِجْرَةُ عَلَى مَنْ يَعْجِزُ عَنْ إظْهَارِ دِينِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَهِيَ مَا يَغْلِبُ فِيهَا حُكْمُ الْكُفْرِ، زَادَ جَمَاعَةٌ [أَيْ مِنَ العلماءِ] وَقَطَعَ بِهِ فِي الْمُنْتَهَى [يعني (منتهى الإرادات) لابن النجار] (أَوْ بَلَدِ بُغَاةٍ، أَوْ بِدَعٍ مُضِلَّةٍ كرفض واعتزال)، فَيَخْرُجُ مِنْهَا إلَى دَارِ أَهْلِ السُّنَّةِ وُجُوبًا إنْ عَجَزَ عَنْ إظْهَارِ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِيهَا}... ثم قال -أَيِ الشيخُ إسحاقُ-: وقال الشيخ العلامة حَمَدُ بن عَتِيقٍ رحمه الله [في (سبيل النجاة والفكاك من موالاة المرتدين والأتراك)] {وأما مسألة إظهار الدين، فكثير من الناس قد ظَنَّ أنه إذا قَدِرَ أن يتلفظ بالشهادتين، وأن يصلي الصلوات الخمس ولا يُرَدُّ عن المساجد، فقد أَظْهَرَ دينَه وإن كان ببلد المشركِين، وقد غَلَطَ في ذلك أَقْبَحَ الغَلَطِ}، قال [أَيِ الشيخُ حَمَدُ] {ولا يكون المسلمُ مُظِهرًا للدين، حتى يُخالِف كلَّ طائفة بما اُشْتُهِرَ عنها، ويُصَرِّحَ لها بعداوته، فمَن كان كُفْرُه بالشركِ فإظهارُ الدين عنده أن يُصَرِّحَ بالتوحيد، والنَّهْيِ عن الشرك والتحذيرِ منه، ومَن كان كُفْرُه بجحد الرسالة فإظهارُ الدِّين عنده التصريح بأنَّ محمدا رسولُ اللهِ، ومَن كان كُفْرُه بترك الصلاة فإظهار الدين عنده بفعل الصلاة، ومَن كان كُفْرُه بموالاة المشركِين والدخول في طاعتهم فإظهارُ الدين عنده التصريح بعداوته والبراءة منه ومِن المشركِين}... إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى؛ فالحاصل هو ما قَدَّمناه، مِن أنَّ إظهارَ الدين الذي تبرأ به الذمةُ، هو الامتيازُ عن عُبَّادِ الأَوْثانِ بإظهار المعتقد، والتصريحُ بما هو عليه [أي وتصريحُ المُوَحِّدِ بما هو عليه مِمَّا يُخالِفُ فيه المشركين]، والبُعْدُ عنِ الشرك ووسائله، فمَن كان بهذه المثابةِ إنْ عَرَفَ الدينَ بدليلِه وأَمِنَ الفتنةَ، جاز له الإقامةُ؛ بَقِيَ مسألةُ العاجزِ عنِ الهجرة، ما يَصْنَعُ؟، قال الوالدُ [الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت1285هـ)] رحمه الله لَمَّا سُئِلَ عنه {وأما إذا كان المُوَحِّدُ بين ظهراني أناسٍ مِنَ المبتدعةِ والمشركِين، ويعجزُ عنِ الهجرةِ، فعليه بتقوى الله ويعتزلُهم ما استطاعَ، ويَعْمَلُ بما وَجَبَ عليه في نَفْسِه، ومع مَن يُوافِقُه على دِينِه، وعليهم أنْ يَصْبِروا على أَذَى مَن يُؤذِيهم في الدينِ، ومَن قَدِرَ على الهجرة وَجَبَتْ عليه}. انتهى باختصار من (الأجوبة السَّمعيَّات لحلِّ الأسئلة الروَّافيَّات، بعناية الشيخ عادل المرشدي). وقالَ الشَّوْكَانِيُّ في (الفتح الرباني): والقاعِدُ عنِ الهِجرةِ داخِلٌ تَحْتَ قَولِه تَعالَى {إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ}. انتهى]، سَوَاءٌ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ (وَإِنْ لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا)، وَكَذَا كُلُّ مَنْ أَظْهَرَ حَقًّا بِبَلْدَةٍ مِنْ بِلَادِ الإِسْلَامِ وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى إظْهَارِهِ تَلْزَمُهُ الْهِجْرَةُ مِنْهَا؛ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْهِجْرَةَ فَهُوَ مَعْذُورٌ إلَى أَنْ يَسْتَطِيعَ؛ وَإِنْ قَدَرَ عَلَى إظْهَارِ دِينِهِ لِكَوْنِهِ مُطَاعًا فِي قَوْمِهِ أَوْ لِأنَّ لَهُ عَشِيرَةً تَحْمِيه (وَلَمْ يَخَفْ فِتْنَةً فِيهِ [أَيْ فِي دِينِهِ]) اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُهَاجِرَ لِئَلَّا يَكْثُرَ سَوَادُهُمْ أَوْ يَمِيلَ إلَيْهِمْ أَوْ يَكِيدُوا لَهُ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ إسحاقُ بنُ عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب (ت1319هـ): وَكَلَامُ أبي عبدالله الحليمي في هذا المَقامِ واضِحٌ، فإنَّه قالَ [في المنهاج في شعب الإيمان] {وكُلُّ بَلَدٍ ظَهَرَ فيها الفسادُ، وكانت أيدي المفسدِين أعلى مِن أيدي أهل الصلاح، وغَلَبَ الجهلُ، وسُمِعَتِ الأهواءُ فيهم، وضَعُفَ أهلُ الحق عن مقاوَمَتِهم، واضْطُرُّوا إلى كتمانِ الحَقِّ خوفًا على أنْفُسِهم مِنَ الإعلانِ، فهو كَمَكَّةَ قَبْلَ الفتحِ في وجوب الهجرة منها، لعدم القدرة عليها، ومَن لم يُهاجِرْ فهو مِنَ السُمَحَاءُ بِدِينِه [أَيْ مِنَ المتساهلِين في دِينِه]}؛ وقال [أَيْ عبدالله الحليمي] {ومِنَ الشُّحِّ بالدِّينِ [أَيْ ومِنَ الحِرْصِ على الدِّين] أنْ يُهاجرَ المسلمُ مِن موضعٍ لا يُمْكِنُه أنْ يُوَفِّيَ الدِّينَ فيه حُقوقَه، إلى موضعٍ يُمْكِنُه فيه ذلك}. انتهى من (الأجوبة السَّمعيَّات لحلِّ الأسئلة الروَّافيَّات، بعناية الشيخ عادل المرشدي). وَقالَ اِبْنُ كثير في (البداية والنهاية): وَقَدِ اعْتَزَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ النَّاسَ، وَالْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ، وَهُمْ أَئِمَّةٌ كِبَارٌ، كَأَبِي ذَرٍّ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَسَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، حَتَّى اعْتَزَلُوا مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي الصَّلَاةُ فِيهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ؛ وَاعْتَزَلَ مَالِكٌ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَعْرِفَتِهِ الْحَدِيثَ فِي فَضْلِ الصَّلَاةِ فِيهِ، فَكَانَ لَا يَشْهَدُ جُمُعَةً وَلَا جَمَاعَةً، وَكَانَ إِذَا لِيمَ فِي ذَلِكَ يَقُولُ (مَا كَلُّ مَا يُعْلَمُ يُقَالُ)، وَقِصَّتُهُ مَعْرُوفَةٌ؛ وَكَذَلِكَ اِعْتَزَلَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَخَلْقٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ، لِمَا شَاهَدُوهُ مِنَ الظُّلْمِ وَالشُّرُورِ وَالْفِتَنِ خَوْفًا عَلَى إِيمَانِهِمْ أَنْ يُسْلَبَ مِنْهُمْ؛ وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ [ت388هـ] فِي كِتَابِ (الْعُزْلَةِ) وَكَذَلِكَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا [في كتابِه (الْعُزْلَةُ والانْفِرَادُ)، وقد تُوُفِّيَ عامَ 281هـ] قَبْلَهُ مِنْ هَذَا جَانِبًا كَبِيرًا. انتهى. وجاءَ في كِتابِ (إجابة فضيلة الشيخ علي الخضير على أسئلة اللقاء الذي أُجْرِيَ مع فضيلته في مُنْتَدَى "السلفيون") أنَّ الشيخَ سُئِلَ {ما واجبُ الآباءِ والأُمَّهَاتِ في بلادِ الغَرْبِ تِجَاهَ أبنائِهم وبَنَاتِهم؟، وما هو السبيلُ لحِفْظِهم مِنَ الانْزِلاقِ في مَهَاوِي الرَّدَى والانْحِطاطِ، والاتِّباعِ للكفارِ وأعمالِهم وأَخْلاقِيَّاتِهم؟}، فكان مِمَّا أجابَ به الشيخُ: واعْلَمْ يا أخِي أنَّ بَقَاءَهم في بلادِ الكفرِ، ودارِ الكفرِ والحربِ، أَمْرٌ خَطِيرٌ، قالَ صلى الله عليه وسلم {أَنَا بَرِيءٌ مِمَّن أَقامَ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْمُشْرِكِينَ} رواه أبو داود، وقالَ إبراهيمُ {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}، والسبيلُ الوحيدُ [هو] الهجرةُ مِن بلادِ الكُفرِ -بالإجماعِ، مع القُدرةِ عليها- إلى بَلَدِ الإسلامِ الذي تَتَمَكَّنون فيه مِن إقامةِ دِينِكم، إنْ تَيَسَّرَ ذلك، فإنْ لم يَتَيَسَّرْ ذلك [فَعَلَيْكُمْ حِينَئِذٍ] أنْ تَعْتَزِلوا الكفارَ (وهي مِلَّةُ إبراهيمَ "وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ") مع جِهادِهم ودَعْوَتِهم. انتهى. وقالَ الشيخُ سلطانُ العيد (إمام وخطيب جامع خالد بن الوليد بحي البديعة بالرياض) في مُحاضَرةٍ بعنوان (كَشْفُ الغُمَّةِ عن أهلِ الغُربة) مُفَرَّغَةٍ على موقعه في هذا الرابط: وأَمَّا فتنةُ الشُّبهاتِ والأهواءِ المُضِلَّةِ، فَبِسَبَبِها تَفَرَّقَ أهلُ القِبلةِ وصاروا شِيَعًا، وصاروا أعداءً وفِرَقًا وأحزابًا بعدَ أن كانوا إخوانًا، قُلُوبُهم على قَلْبِ رَجُلٍ واحِدٍ، فَلَمْ يَنْجُ مِن هذه الفِرَقِ إلَّا الفرقةُ الواحِدةُ الناجِيَةُ، وَهُمُ المذكورون في قولِه صلَّى الله عليه وسلَّم {لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ} [قالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي في (تأييد ومناصرة للبيان الختامي لعلماء الولايات الإسلامية في الصومال): والظُّهورُ وَالْغَلَبَةُ بِالحُجَّةِ والبَيَانِ دائمًا، وبِالسَّيفِ والسِّنَانِ أحيانًا أو غالِبًا لِأنَّ الحَرْبَ سِجالٌ والأيَّامَ دُوَلٌ [قالَ الشيخُ محمد بن يوسف الصالحي الشامي (ت942هـ) في (سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، تحقيق وتعليق الشيخ عادل أحمد عبدالموجود): (سِجَالٌ) جَمْعُ سَجْلٍ، أَيْ مَرَّةً لَنَا وَمَرَّةً عَلَيْنَا. انتهى باختصار. وقالَ ابنُ المُلَقِّن (ت804هـ) في (التوضيح لشرح الجامع الصحيح): (دُوَلٌ) جَمْعُ دَولَةٍ، وَمَعْنَاهُ رُجُوعُ الشَّيْءِ إِلَيْكَ مَرَّةً وَإِلَى صَاحِبِكَ أُخْرَى تَتَدَاوَلَانِهِ. انتهى باختصار. وقالَ الألُوسِيُّ فِي (رُوحُ الْمَعَانِي): إنَّهُ تَعَالَى لَا يَنْصُرُ الْكَافِرَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا يُغَلِّبُهُ أَحْيَانًاِ اسْتِدْرَاجًا وَابْتِلَاءً لِلْمُؤْمِنِ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَتِ النُّصْرَةُ دَائِمًا لِلْمُؤْمِنِينَ لَكَانَ النَّاسُ يَدْخُلُونَ فِي الإيمَانِ عَلَى سَبِيلِ الْيُمْنِ وَالْفَأْلِ، وَالْمَقْصُودُ غَيْرُ ذَلِكَ... ثم قالَ -أيِ الألُوسِيُّ-: فَإِنَّ الْكُفَّارَ إِذَا غَلَبُوا أَحْيَانًا اِغْتَرُّوا وَأَوْقَعَهُمُ الشَّيْطَانُ فِي أَوْحَالِ الأمَلِ وَوَسْوَسَ لَهُمْ فَبَقَوْا مُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِذُنُوبِهِمْ وَخَلَّدَهُمْ فِي النَّارِ. انتهى باختصار. وقالَ الْبَغَوِيُّ في (معالم التنزيل) عند تَفسِيرِ قَولِه تَعالَى (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ): قَالَ الزَّجَّاجُ {الدَّوْلَةُ تَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكُفَّارِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)، وَكَانَتْ يَوْمَ أُحُدٍ لِلْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِمُخَالَفَتِهِمْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ}... ثم قالَ -أيِ الْبَغَوِيُّ-: إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْمُدَاوَلَةُ لِيَرَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا فَيُمَيَّزُ الْمُؤْمِنُ مِنَ الْمُنَافِقِ وَيُكْرِمُ أَقْوَامًا بِالشَّهَادَةِ. انتهى باختصار. وقالَ الشَّيخُ محمد أبو زهرة (عُضْوُ مجمعِ البُحوثِ الإسلامِيَّةِ، والْمُتَوَفَّى عامَ 1394هـ) في (زهرة التفاسير): وَقَدْ نَبَّهَ سُبْحَانَهُ إِلَى طَرِيقِ الاسْتِفَادَةِ مِنَ الْهَزِيمَةِ [أيْ هَزِيمةِ المُؤمِنِين يَومَ أُحُدٍ]، بِأَنْ نُخَلِّصَ أَنْفُسَنَا مِنْ شَوَائِبِهَا، وَنُمَحِّصَ جَمَاعَتَنَا، فَهَلْ لَنَا أَنْ نَسْتَفِيدَ مِنْ ذَلِكَ؟!، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُدَاوِلُ بَيْنَ النَّاسِ، وَقَدْ دَالَتْ عَلَيْنَا الأزْمَانُ بِمَا فَعَلْنَا وَبِمَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَبِاسْتِخْذَائِنَا وَضَعْفِنَا... ثم قالَ -أيْ أبو زهرة -: لَا عَجَبَ فِي أَنْ يُهْزَمُوا لِأنَّهُمْ خَالَفُوا قَائِدَهُمْ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدَّرَ لَهُمْ تِلْكَ الْهَزِيمَةَ لِكَيْ يَعْتَبِرُوا، وَيُحْسِنُوا التَّدْبِيرَ، وَيُحْسِنُوا الطَّاعَةَ، وَيَحْتَرِمُوا حَقَّ الْقِيَادَةِ الْحَكِيمَةِ الرَّشِيدَةِ، وَلِكَيْ يَتَّخِذُوا مِنَ الْهَزِيمَةِ عِلَاجًا لِلْأخْطَاءِ الَّتِي سَبَّبَتْهَا وَتَوَقِّيًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَهَا، وَلِكَيْ يَبُثَّ فِي نُفُوسِ أَهْلِ الإيمَانِ أَنَّ الْحَرْبَ لَيْسَتْ نَصْرًا مُسْتَمِرًّا، وَلَكِنَّ الْعَاقِبَةَ فِي النِّهَايَةِ لِأهْلِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالرَّشَادِ، وَهُنَاكَ فَائِدَةٌ لِلْهَزِيمَةِ أَنَّهَا تُبَيِّنُ الصَّادِقَ الإيمَانِ مِنَ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِشَيْءٍ، فَفِي الْمِحْنَةِ يَتَمَيَّزُ الْخَبِيثُ مِنَ الطَّيِّبِ، وَإِذَا كَانَ النَّصْرُ فِي بَدْرٍ قَدْ فَتَحَ بَابَ النِّفَاقِ فَدَخَلَ فِي الإسْلَامِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَأَعْلَنُوا الاعْتِقَادَ [أيِ الإسلامَ] مَنْ يُبْطِنُونَ خِلَافَهُ وَيُخْفُونَ مَا لَا يُبْدُونَ، فَإِنَّ الْهَزِيمَةَ فِي أُحُدٍ قَدْ كَشَفَتِ النِّفَاقَ وَالْمُنَافِقِين، وَحَسْبُهَا ذَلِكَ فَائِدَةً. انتهى باختصار. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (ت538هـ) فِي (الكَشَّافُ): إِنْ كَانَتِ الدَّوْلَةُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَلِلتَّمْيِيزِ والاسْتِشْهَادِ وَالتَّمْحِيصِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ أَصْلَحُ لَهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْكَافِرِينَ فَلِمَحْقِهِمْ وَمَحْوِ آثَارِهِمْ. انتهى. وقالَ الشيخُ عليُّ بنُ نايف الشحود في (المهذب في عوامل النصر والهزيمة): وقد تَكَلَّمَ الإمامُ الرَّازِيُّ عنِ الحِكمةِ في مُداوَلةِ الأيَّامِ بَيْنَ الناسِ فَقالَ {وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْمُدَاوَلَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَارَةً يَنْصُرُ الْمُؤْمِنِينَ وَأُخْرَى يَنْصُرُ الْكَافِرِينَ، وَذَلِكَ لِأنَّ نُصْرَةَ اللَّهِ مَنْصِبٌ شَرِيفٌ وَإِعْزَازٌ عَظِيمٌ، فَلَا يَلِيقُ بِالْكَافِرِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْمُدَاوَلَةِ أَنَّهُ تَارَةً يُشَدِّدُ الْمِحْنَةَ عَلَى الْكُفَّارِ وَأُخْرَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَالْفَائِدَةُ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ؛ الأوَّلُ، أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَدَّدَ الْمِحْنَةَ عَلَى الْكُفَّارِ فِي جَمِيعِ الأوْقَاتِ وَأَزَالَهَا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ فِي جَمِيعِ الأوْقَاتِ لَحَصَلَ الْعِلْمُ الاضْطِرَارِيُّ بِأَنَّ الإيمَانَ حَقٌّ وَمَا سِوَاهُ بَاطِلٌ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَبَطَلَ التَّكْلِيفُ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى تَارَةً يُسَلِّطُ اللَّهُ الْمِحْنَةَ عَلَى أَهْلِ الإيمَانِ، وَأُخْرَى عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ لِتَكُونَ الشُّبَهَاتُ بَاقِيَةً وَالْمُكَلَّفُ يَدْفَعُهَا بِوَاسِطَةِ النَّظَرِ فِي الدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ الإسْلَامِ فَيَعْظُمُ ثَوَابُهُ عِنْدَ اللَّهِ؛ وَالثَّانِي، أَنَّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يُقْدِمُ عَلَى بَعْضِ الْمَعَاصِي، فَيَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ تَشْدِيدُ الْمِحْنَةِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا أَدَبًا لَهُ، وَأَمَّا تَشْدِيدُ الْمِحْنَةِ عَلَى الْكَافِرِ فَإِنَّهُ يَكُونُ غَضَبًا مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ؛ وَالثَّالِثُ، وَهُوَ أَنَّ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَآلَامَهَا غَيْرُ بَاقِيَةٍ، وَأَحْوَالُهَا غَيْرُ مُسْتَمِرَّةٍ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ السَّعَادَاتُ الْمُسْتَمِرَّةُ فِي دَارِ الْآخِرَةِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ تَعَالَى يُمِيتُ بَعْدَ الإحْيَاءِ، وَيُسْقِمُ بَعْدَ الصِّحَّةِ، فَإِذَا حَسُنَ ذَلِكَ فَلِمَ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُبَدِّلَ السَّرَّاءَ بِالضَّرَّاءِ وَالْقُدْرَةَ بِالْعَجْزِ}. انتهى. وقالَ الشيخُ اِبنُ عثيمين (عُضوُ هَيْئةِ كِبارِ العُلَماءِ) في تَفْسِيرِه، عند تَفسِيرِ قَولِه تَعالَى (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ، وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ): يَقولُ [تَعالَى] {فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ} يَعنِي إِنْ يَمْسَسْكُمْ جِراحٌ وألَمٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ (يَعنِي جِراحٌ وألَمٌ)، وفي هذا تَسلِيَةٌ لِلمُؤْمِنِين، لِأنَّ الإنسانَ إذا عَلِمَ أنَّ عَدُوَّه أصابَه مِثلُ ما أصابَه فَإنَّه تَهونُ عليه المُصِيبةُ... ثم قالَ -أيِ الشيخُ اِبنُ عثيمين-: قَولُه تَعالَى {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ} المُرادُ به التَّسلِيَةُ، أيْ أنَّه إذا كُنتم أُصِبْتُم في أُحُدٍ فَإنَّ القَومَ قد أُصِيبوا بِقَرْحٍ مِثْلِه، في نَفْسِ الغَزوةِ أيضًا قُتِلَ مِنَ المُشرِكِين مَن قُتِلَ وهُزِموا [أيِ المُشرِكون في أوَّلِ المَعرَكةِ] لَولا أنَّ اللهَ سُبحانَه [وَ]تَعالَى أرادَ بِحِكمَتِه أنْ يُخالِفَ بَعضُ الجُنْدِ [المُسلِمِين] المَوقِفَ الذي أمَرَهم به النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَصَلَ فِيما بَعْدُ أنْ كانَ خِلافُ المُرادِ... ثم قالَ -أيِ الشيخُ اِبنُ عثيمين-: قالَ [تَعالَى] {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}، يَعنِي هذه الأيَّامُ نَجعَلُها دُوَلًا،َ فتَارَةً تَكونُ الأيَّامُ لِهؤلاء، وتارةً تَكونُ الأيَّامُ لِهؤلاء، فاللَّهُ عَزَّ وجَلَّ هو الذي بِيَدِه الأمرُ، حتى إنَّ الدَّولةَ تَكونُ في بَعضِ الأحيَانِ لِأعدائه على أوْلِيَائه لِحِكَمٍ يُرِيدُها، فَفِي بَدْرٍ كانَتِ الدَّولةُ على المُشرِكِين، وفي أُحُدٍ كانَتِ الدَّولةُ على المُؤمِنِين، فَهذا مَرَّةً وهذا مَرَّةً، لِحِكَمٍ عَظِيمةٍ بَيَّنَها اللهُ سُبحانَه وتَعالَى فِيما بَعْدُ [يُشِيرُ إلى قَوْلِه تَعالَى {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ}]، وقَولُه {نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} يَشمَلُ مُداوَلَتَها بَيْنَ أُمَّةٍ وأُمَّةٍ، ويَشمَلُ كذلك مُداوَلَتَها في الإنسانِ الواحِدِ، فالإنسانُ يَجِدُ يَومًا سُرورًا ويَجِدُ يَومًا آخَرَ حُزنًا، ولِهذا يُقالُ {دَوامُ الحالِ مِنَ المُحالِ، فالأيَّامُ دُوَلٌ}... ثم قالَ -أيِ الشيخُ اِبنُ عثيمين-: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}، أيْ يَعلَمَه مَوجودًا، أمَّا العِلمُ السابِقُ فَإنَّه يَعلَمُه أنَّه سَيُوجَدُ، وهناك فَرقٌ بَيْنَ عِلْمِه الشَّيءِ مَوجودًا حالَ وُجودِه وبَيْنَ عِلْمِه الشَّيءِ بِأنَّه سَيُوجَدُ، [فَإنَّ] عِلْمَ اللهِ السابِقِ لا يَتَرَتَّبُ عليه الجَزاءُ، وذلك لِأنَّ المُؤمِنَ لم يَكُنْ مَوجودًا بَعْدُ حتى يُجازَى أو لا يُجازَى، إنَّ اللهَ تَعالَى قد عَلِمَ الذِين آمَنوا مِن قَبْلُ، فَإنَّه سُبحانَه وتَعالَى كَتَبَ في اللَّوحِ المَحفوظِ مَقادِيرَ كُلِّ شَيءٍ إلى يَومِ القِيَامةِ، وقد عَلِمَ المُؤْمِنَ مِن غَيرِه مِن قَبْلُ... ثم قالَ -أيِ الشيخُ اِبنُ عثيمين-: وقَولُه {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} كَيْفَ ذلك؟ لِأنَّ المُؤْمِنَ يَرضَى بِهذه المُداوَلةِ (بِمُداوَلةِ اللهِ الأيَّامَ بَيْنَ الناسِ)، يَرضَى بِها رِضًا تامًّا، إِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ وإِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، ويَعْلَمُ أنَّ ذلك بِتَقدِيرِ اللهِ فَيَرضَى ويُسَلِّمَ، غَيرُ المُؤْمِنِ بِالعَكْسِ، إنْ أُصِيبَ بِسَرَّاءَ أَشِرَ [أيْ فَرِحَ ونَشِطَ] وبَطِرَ [أيْ تَكَبَّرَ وطَغَى]، وإنْ أُصِيبَ بِضَرَّاءَ ضَجِرَ وتَسَخَّطَ، يَقولُ اللهُ سُبحانَه وتَعالَى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} أيْ على طَرَفٍ، {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} والفِتنةُ هنا المُرادُ بِها ضِدُّ الخَيرِ، {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} وكَمْ مِن إنسانٍ اِرتَدَّ لِأنَّه أُصِيبَ بِمُصِيبةٍ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، إذَنْ {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} كَيْفَ كانَ هذا العِلمُ؟ نَقولُ، لِأنَّ المُؤْمِنَ يَرضَى بِمُداوَلةِ اللهِ الأيَّامَ بَيْنَ العِبادِ، إِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، أو سَرَّاءُ شَكَرَ، [وأمَّا] غَيرُ المُؤْمِنِ بِالعَكْسِ، لا يَرضَى بِقَضاء اللهِ وقَدَرِه، يَقولُ {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}، {لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا}، وما أَشْبَهَ ذلك... ثم قالَ -أيِ الشيخُ اِبنُ عثيمين-: قالَ [تَعالَى] {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ}، فَهؤلاء الشُّهَداءُ اِتَّخَذَهُمُ اللهُ واصطَفاهم، ولَوْلَا مِثلُ هذه الهَزِيمةِ لم يَكونوا شُهَداءَ، وَكَمْ مِن شَهِيدٍ اِتَّخَذَهُمُ [اللهُ] في غَزوةِ أُحُدٍ؟، سَبعونَ رَجُلًا، لَوْلَا هذا لم يَكُنْ هناك شُهَداءُ... ثم قالَ -أيِ الشيخُ اِبنُ عثيمين-: قَولُه [تَعالَى] {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}، فالظالِمُ، إنْ كانَ ظُلْمُه ظُلْمَ كُفرٍ فَلا حَظَّ له في مَحَبَّة اللهِ، وإنْ كانَ ظُلْمُه دُونَ ذلك فَلَه مِن مَحَبَّةِ اللهِ بِقَدْرِ ما معه مِنَ العَدلِ، ومِن كَراهةِ اللهِ بِقَدْرِ ما معه مِنَ الظُّلْمِ... ثم قالَ -أيِ الشيخُ اِبنُ عثيمين-: قَولُه {لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} قد يَبدُو غَرِيبًا على القارِئِ مُناسَبةُ هذه الجُملةِ بِما قَبْلِها {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} كَيْفَ هذا؟، فَيُقالُ، الجَوابُ مِن وَجْهَين؛ الوَجهُ الأوَّلُ، أنَّ المُرادَ بِقَولِه {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} بَيَانُ أنَّ الذِين تَخَلَّفوا عن غَزوةِ أُحُدٍ -وهُمْ مِقدارُ ثُلُثِ الجَيشِ- لم يَكُنْ منهم شَهِيدٌ، لِأنَّهم نَجَوا بِأنفُسِهم، فَلِكَونِهم ظَلَمةً لم يَتَّخِذِ اللهُ منهم شُهَداءَ، فَيَكونُ ذلك تَندِيدًا بِالذِين تَخَلَّفوا ورَجَعوا مِن أثناءِ الطَّرِيقِ، وَهُمْ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُبَيِّ [بْنِ سَلُولَ] ومَن تَبِعَه مِنَ المُنافِقِين، فَكَأَنَّه قالَ {اِتَّخَذَ منكم أيُّها الصَّفوةُ شُهَداءَ، ولم يَتَّخِذْ مِن أولَئك الذِين نَكَصوا على أعقابِهم، لِأنَّ هؤلاء ظَلَمةٌ واللهُ لا يُحِبُّهم}؛ الوَجهُ الثانِي، أنَّ الذِين قُتِلوا في أُحُدٍ قُتِلوا على أَيدِي المُشرِكِين، والمُشرِكون هُمُ الظالِمون كَما قالَ تَعالَى {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، فَهَلِ اِنتِصارُ الظالِمِين في أُحُدٍ واستِشهادُ مَنِ اُستُشهِدَ مِنَ المُسلِمِين في أُحُدٍ لِأنَّ اللهَ يُحِبُّ الظالِمِين ويَكْرَه المُؤْمِنِين؟، لا، إذَنْ {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} لِئَلَّا يَظُنَّ ظانٌّ أنَّ اِنتِصارَ المُشرِكِين في تلك الغَزوةِ مِن مَحَبَّةِ اللهِ لَهم، فَبَيَّنَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ أنَّه لا يُحِبُّ الظالِمِين... ثم قالَ -أيِ الشيخُ اِبنُ عثيمين-: مِن فَوائدِ هذه الآيَةِ؛ (أ)بَيَانُ رَأْفةِ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى بِرَسولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابِه بِهذه التَّسلِيَةِ العَظِيمةِ {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ}؛ (ب)أنَّ اللهَ سُبحانَه وتَعالَى جَعَلَ هذه الدُّنيَا دُوَلًا تَتَقَلَّبُ، لِئَلَّا يَركَنَ الإنسانُ إليها، لِأنَّ الدُّنيَا لَوْ كانَتْ دائمًا راحةً ونَعمةً رَكَنَ الإنسانُ إليها ونَسِيَ الآخِرةَ، ولَوْ كانَتْ دائمًا مِحنةً ونِقمةً لَكانَتْ عَذابًا مُستَمِرًّا، ولَكِنَّ اللهَ جَعَلَها دُوَلًا يُدالُ فيها الناسُ بَعضُهم على بَعضٍ، وتَتَداولُ الأحداثُ على الإنسانِ ما بَيْنَ خَيرٍ وشَرٍّ؛ (ت)[بَيَانُ] تَمَامِ سُلطانِ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى في خَلقِه، وأنَّ له التَّدبِيرَ المُطلَقَ؛ (ث)أنَّ اللهَ سُبحانَه وتَعالَى قد يَمْتَحِنُ العَبدَ لِيَعلَمَ إيمانَه مِن عَدَمِه، بِماذا يَمتَحِنُه؟، بِأنواعٍ مِنَ الامتِحاناتِ، تارةً بِالمَصائبِ وتارةً بِالمَعائبِ، فَهنا [أيْ في الآيَةِ] اِبتِلاءٌ بِماذا؟ بِالمَصائبِ، وإذا يَسَّرَ اللهُ لِلإنسانِ أسبابَ المَعصِيَةِ فَهذا اِبتِلاءٌ بِتَيسِيرِ المَعائبِ، مِثْلَ قَولِه تَعالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ}، في هذه الآيَةِ حَرَّمَ اللهُ الصَّيدَ على المُؤْمِنِين وَهُمْ حُرُمٌ، فابتلاهم بِصَيدٍ تَنالُه أيدِيهم ورِماحُهم، يَعنِي يُمسِكُ الإنسانُ الصَّيدَ بِيَدِه وبِرُمحِه [وذلك لِقُربِ الصَّيدِ مِنْهُ] ما يَحتاجُ إلى سَهْمٍ {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ}؛ (ج)أنَّ عِلْمَ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى بِالأشياءِ على قِسمَين، عِلْمٌ بِأنَّها سَتُوجَدُ وهذا أزَلِيٌّ، وعِلْمٌ بِأَنَّها وُجِدَتْ وهذا يَكونُ عند الوُجودِ، ولِهذا قالَ {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}؛ (ح)أنَّ اللهَ تَعالَى قد يُقَدِّرُ المَكروهَ لِحِكَمٍ بالِغةٍ كَثِيرةٍ، لِقَولِه {لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ}؛ (خ)[بَيَانُ] فَضِيلةِ الشَّهادةِ، [فَ]قَولُه {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ} كَأنَّه سُبحانَه اِصطَفَى هؤلاء الشُّهَداءَ واتَّخَذَهم لِنَفسِه؛ (د)إثباتُ المَحَبَّةِ لِلَّهِ، أنَّ اللهَ يُحِبُّ، وَجْهُ ذلك أنَّ نَفْيَها عنِ الظالِمِينِ يَدُلُّ على ثُبوتِها لِضِدِّهم، لِأنَّها لَوِ اِنتَفَتْ عن هؤلاء وهؤلاء لم يَكُنْ في نَفيِها عنِ الظالِمِين فائدةٌ؛ (ذ)التَّحذِيرُ مِنَ الظُّلمِ، لِقَولِه {لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}، [وَ]الحُكْمُ إذا عُلِّقَ بِوَصفٍ فَإنَّه يَزدادُ بِزِيادَتِه ويَقوَى بِقُوَّتِه، ويَنقُصُ بِنَقصِه ويَضْعُفَ بِضَعفِه، فإذا كانَ اِنتِفاءُ المَحَبَّةِ مِن أَجْلِ الظُّلْمِ، فَكُلَّما كانَ الإنسانُ أظلَمَ كانَ أبعَدَ عن مَحَبَّةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. انتهى باختصار. قُلْتُ: ويَنبَغِي في هذا المَقامِ ألَّا نَنْسَى قَولَه تَعالَى {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا، نِّعْمَ الْعَبْدُ، إِنَّهُ أَوَّابٌ}، وقَولَه تَعالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ، وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ، بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لَّا تَشْعُرُونَ، وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ، وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ، وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}، وقَولَه تَعالَى {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}، وقَولَه تَعالَى {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ، سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}، وقَولَه تَعالَى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}، وقَولَه تَعالَى {قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي، قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا، إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}، وقَولَه تَعالَى {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى، قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ، سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}، وقَولَه تَعالَى {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا، إِنَّ الأرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}، وقَولَه تَعالَى {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}، وقَولَه تَعالَى {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا}، وقَولَه تَعالَى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا، نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ، الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، وقَولَه تَعالَى {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا، وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}، وقَولَه تَعالَى {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا، فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}، وقَولَه تَعالَى {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}، وقَولَه تَعالَى {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وقَولَه تَعالَى {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا، فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا، وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا}، وقَولَه تَعالَى {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ [أيِ الجَنَّةَ] بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا}، وقَولَه تَعالَى {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ}، وقَولَه تَعالَى {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ، أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا، وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}، وقَولَه تَعالَى {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}، وقَولَه تَعالَى {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}، وقَولَه تَعالَى {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا، وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}، وقَولَه تَعالَى {فَاصْبِرْ، إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}، وقَولَه تَعالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وقَولَه تَعالَى {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا}، وقَولَه تَعالَى {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}، وقَولَه تَعالَى {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، وقَولَه تَعالَى {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ}، وقَولَه تَعالَى {رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ}، وقَولَه تَعالَى {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ}، وقَولَه تَعالَى {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا، رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}، وقَولَه تَعالَى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}، وقَولَه تَعالَى {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ، كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ، وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا، إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ}، وقَولَه تَعالَى {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}، وقَولَه تَعالَى {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}، وقَولَه تَعالَى {وَاصْبِرُوا، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، وقَولَه تَعالَى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم، مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ، أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}، وقَولَه تَعالَى {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ، إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}، وقَولَه تَعالَى {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}، وقَولَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً [أيْ يُغْمَسُ فِي النَّارِ غَمْسَةً]، ثُمَّ يُقَالُ (يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟)، فَيَقُولُ (لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ)، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ (يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟، فَيَقُولُ (لَا وَاللَّهِ يَا رَبّ،ِ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ)}، وقَولَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِه،ِ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ، وَلَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى الأرْضِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ}، وقَولَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ}، وقَولَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {حُفَّتِ الجنَّةُ بالمكارِهِ، وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهواتِ}]. انتهى]، وَهُمْ في آخِرِ الزَّمَانِ الغُرَبَاءُ المذكورون في هذه الأحاديثِ {الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ} وَ{الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنَ السُّنَّةِ} وَ{الَّذِينَ يَفِرُّونَ بِدِينِهِمْ مِنَ الفِتَنِ} وَ{النُّزَّاعُ مِنَ القَبَائِلِ} لأنَّهم قَلُّوا فلا يُوجَدُ في كُلِّ قبيلةٍ منهم إلَّا الواحِدُ والاثْنان، وقد لا يُوجَدُ [أَيْ في بعضِ القبائلِ] منهم أَحَدٌ، كَما كانَ الداخِلون إلى الإسلامِ في أوَّلِ الأمرِ كذلك [قالَ الشيخُ عبدُالرحمن العقبي في (طائفةُ الغُرَباءِ المَغبوطِين): والنُّزَّاعُ جَمعُ نازِعٍ أو نَزِيعٍ، وهو الذي نَزَع عن أَهلِه وعَشِيرَتِه أَيْ بَعُدَ وغابَ؛ وهَلْ يَكونُ نازِعًا مَن لم يَرحَلْ عن أَهلِه وعَشِيرَتِه وبَقِيَ فيهم ولَكِنَّه كالغَرِيبِ الذي جاوَرَ عَشِيرةً غيرَ عَشِيرَتِه فهو كالغَرِيبِ المُجاوِرِ، وذلك لِأنَّه صالِحٌ بَيْنَ أقارِبَ سَيِّئِين؟، أرجُو أنْ يَكونَ ذلك... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ العقبي: ولا شَكَّ أنَّ هذا النَّوعَ [يَعنِي الذي بَعُدَ وغابَ] مِنَ النُّزَّاعِ خَيرٌ مِنَ النَّوعِ الثانِي الذي بَقِيَ بَيْنَ أَهلِه وعَشِيرَتِه وهو كالغَرِيبِ بَيْنَهم. انتهى باختصار]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ العيدُ-: قالَ الإمامُ الأوزاعيُّ في قولِه صلى الله عليه وسلم (بَدَأَ الإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ) {أَمَا إِنَّه ما يَذهبُ الإسلامُ، ولكِنْ يَذْهَبُ أهلُ السنَّة حتى ما يَبْقَى في البَلَدِ منهم إلَّا رجلٌ واحدٌ}، ولهذا المعنَى يُوجَدُ في كلامِ السلفِ كثيرًا مَدْحُ السُّنَّةِ ووَصْفُها بالغُرْبةِ ووَصْفُ أَهْلِها بالقِلَّةِ، فَكانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ [وُلِدَ عامَ 21هـ، وتُوُفِّيَ عامَ 110هـ] رَحِمَه اللهُ يقولُ لأصحابِه {يَا أَهْلَ السُّنَّةِ، تَرَفَّقُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ، فَإِنَّكُمْ أَقَلُّ النَّاسِ}، وقالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ [وُلِدَ عامَ 64هـ، وَتُوُفِّيَ عامَ 139هـ] رَحِمَه اللهُ {لَيْسَ شَيْءٌ أَغْرَبَ مِنَ السُّنَّةِ، وَأَغْرَبُ مِنْهَا مَنْ يَعْرِفُهَا} وقالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ [وُلِدَ عامَ 97هـ، وتُوُفِّيَ عامَ 161هـ] {اسْتَوْصُوا بِأَهْلِ السُّنَّةِ خَيْرًا، فَإِنَّهُمْ غُرَبَاءُ}، ومُرَادُ هؤلاء الأئمَّةِ بالسُّنَّةِ طريقةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم التي كان هو وأصحابُه عليها... ثم ذَكَرَ -أَيِ الشيخُ العيدُ- صفاتِ الغُرَباءِ الذِين أَثْنَى عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقالَ: ومِن صِفاتِهم الإنكارُ على مَن يُخالِفُ منهجَ السلفِ ويَمِيلُ إلى الأهواءِ، استجابةً لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، قال الله سبحانه وتعالى {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ}، وقال الحبيبُ المُصطفَى والنبيُّ المُجْتَبَى صلواتُ ربِّي وسلامُه عليه {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ} الحديثَ، [وَ]قالَ ابنُ القيم [في (إعلام الموقعين)] {وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الطَّيِّبُ يَشْتَدُّ نَكِيرُهُمْ وَغَضَبُهُمْ عَلَى مَنْ عَارَضَ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَأْيٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوِ اِسْتِحْسَانٍ أَوْ قَوْلِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَيَهْجُرُونَ فَاعِلَ ذَلِكَ، وَلَا يُسَوِّغُونَ غَيْرَ الانْقِيَادِ لَهُ وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّلَقِّي بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ [، وَلَا يَخْطُرُ بِقُلُوبِهِمُ التَّوَقُّفُ فِي قَبُولِهِ حَتَّى يَشْهَدَ لَهُ عَمَلٌ أَوْ قِيَاسٌ أَوْ يُوَافِقَ قَوْلَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ]}؛ ومِن صِفاتِهم الحِرْصُ على التَّمَيُّزِ والحَذَرُ من التَّمَيُّعِ، فَهُمْ مع قِلَّتِهم يُظْهِرون السُّنَّةَ ويُنْكِرون الأهواءَ المُضِلَّةَ وإنْ كَثُرَ المُخالِفون، وَهُمْ مع ما يُلاقُونه مِن عِظَمِ الغُرْبةِ لا يَفْزَعون إلى تَمْيِيعِ منهجِ السلفِ أَبَدًا أو إلغاءِ الفُرُوقِ بين السُّنِّيِّ السلفِيِّ وصاحبِ الهَوَى الخَلَفِيِّ بدَعْوَى {كِلَانا على خَيْرٍ}! أو {نَفَعَ اللهُ بهم}! أو أنْ يقولوا {كُلُّنا مُسْلِمون} إلى آخِرِ عباراتِ التَّمْيِيعِ وحُلُولِ الوَسَطِ والتَضْيِيعِ، بَلِ السُّنِّيُّ السلفيُّ وهو في زَمَنِ الغُرْبةِ يَصْدَعُ بالحقِّ ويَرُدُّ على المُخالِفِ وإنْ أصبحَ غَرِيبًا وَحِيدًا؛ [وَ]فيما جَرَى للإمامِ أحمدَ زَمَنَ المِحْنَةِ عِظَةٌ وعِبْرَةٌ فإنَّه سُجِنَ وجُرِّدَ وأُوذِيَ أعْظَمَ الإيذاءِ وبَقِيَ وَحِيدًا في تلك المِحْنَةِ غريبًا، ولكنَّه واللهِ ما لَانَ ولا مَالَ إلى المُخالِفِين أَبَدًا، بَلْ رَدَّ عليهم وبَدَّعَهم حتى نَصَرَه اللهُ وأَعَزَّه، والإمامُ المُجَدِّدُ محمد بنُ عبدالوهاب أُوذِيَ وأُخْرِجَ وعادَاه مَن عادَاه فَلَمْ يَلِنْ أَبَدًا، ولو تَمَيَّعَ وتَنازَلَ لَضَاعَتْ دَعْوَتُه السلفيَّةُ. انتهى باختصار. وجاءَ في (المنتقى مِن فتاوى الشيخ صالح الفوزان) أنَّ الشيخَ سُئلَ {لقد تَفَشَّى بين الشَّبابِ وَرَعٌ كاذِبٌ، وهو أنَّهم إذا سَمِعوا الناصِحِين مِن طَلَبةِ العِلمِ أو العلماءِ يُحَذِّرون مِنَ البدعِ وأهلِها ويَذكُرون حقيقةَ ما هُمْ عليه، وقد يُورِدون أسماءَ بعضِهم -ولو كان مَيِّتًا- لِافتِتانِ الناسِ به، وذلك دِفاعًا عن هذا الدِّينِ، وكَشفًا لِلمُندَسِّين بين صُفوفِ الأُمَّةِ لِبَثِّ الفُرقةِ والنِّزاعِ فيها، فَيَدَّعون [أَيْ أصحابُ الوَرَعِ الكاذِبِ] أنَّ ذلك مِنَ الغِيبةِ المُحَرَّمةِ، فَما هو قَولُكم في هذه المَسألةِ؟}، فأجابَ الشيخُ: القاعدةُ في هذا [هي] التَّنبِيهُ على الخَطَأِ والانحِرافِ وتَشخِيصُه لِلنَّاسِ، وإذا اِقتَضَى الأمرُ أنْ يُصَرَّحَ بِاسمِ الأشخاصِ حتى لا يُغْتَرَّ بهم، وخُصوصًا الأشخاصَ الذِين عندهم اِنحِرافٌ في الفِكرِ أو اِنحِرافٌ في السَّيرِ والمَنهَجِ وَهُمْ مَشهورون عند الناسِ ويُحسِنون بهم الظَّنَّ، فَلَا بَأْسَ أنْ يُذكَروا بِأسمائهم وأنْ يُحذَّرَ منهم؛ والعُلَماءُ بَحَثوا في عِلْمِ الجَرْحِ والتَّعدِيلِ، فَذَكَروا الرُّواةَ وما يُقالُ فيهم مِنَ القَوادِحِ، لا مِن أَجْلِ أشخاصِهم، وإنَّما مِن أَجْلِ نَصِيحةِ الأُمَّةِ أنْ تَتَلَقَّى عنهم أَشْيَاءً فيها تَجَنٍّ على الدِّينِ أو كَذِبٌ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فالقاعِدةُ أنْ يُنَبَّهَ على الخَطَأِ، ولا يُذكَرُ صاحِبُه إذا كانَ يَتَرَتَّبُ على ذِكْرِه مَضَرَّةٌ أو ليس لِذِكْرِه فائدةٌ، أمَّا إذا اِقتَضَى الأمرُ أنْ يُصَرَّحَ بِاسمِه لِتَحذِيرِ الناسِ منه فهذا مِنَ النَّصِيحةِ للهِ وكِتابِه ورَسولِه ولِأئمَّةِ المُسلِمِين وعامَّتِهم، خُصوصًا إذا كان له نَشاطٌ بين الناسِ ويُحسِنون الظَّنَّ به ويَقتَنون أَشْرِطَتَه وكُتُبَه، لا بُدَّ مِن بَيَانٍ وتَحذِيرِ الناسِ منه لِأنَّ في السُّكوتِ ضَرَرًا على الناسِ، فلا بُدَّ مِن كَشفِه، لا مِن أَجْلِ التَّجرِيحِ أوِ التَّشَفِّي، وإنَّما مِن أَجْلِ النَّصِيحةِ للهِ وكِتابِه ورَسولِه ولِأئمَّةِ المُسلِمِين وعامَّتِهم. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ عبدُالسلام بنُ برجس (الأستاذ المساعد في المعهد العالي للقضاء بالرياض) في (الرَّدُّ العلميُّ على مُنْكِرِي التصنيفَ): فمَن كانَ مِن أهلِ السُّنَّةِ فَلْيَحمِدِ اللهَ تعالى على هذا الفَضلِ، وَلْيَسأَلِ اللهَ سبحانه وتعالى الثَّبَاتَ عليه، وأَمَّا مَن كان مِن غيرِ أهلِها فَيَا لِخَيبَتِه مَا أَعْظَمَ مُصِيبَتَه وما أَشَدَّ خَسارَتَه، فَلْيَعُدْ إلى رَبِّه جَلَّ وعَلَا وَلْيُراجِعْ دِينَه؛ ومِن فَضْلِ اللهِ سبحانه وتعالى علينا أنه جل وعلا لم يُخْلِي زَمَنًا مِنَ الأزمانِ مِن أهلِ السنةِ، بِهِمْ تَقُومُ حُجَّتُه على الناسِ أَجْمَعِين، فَيُبَلِّغون شرعَ الله سبحانه وتعالى كما جاء به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ويَدْعُون إلى لُزومِ السُّنَّةِ وتَرْكِ البِدَعِ والأهواءِ؛ وقد كُنَّا نَعْهَدُ أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ فيما نُقِلَ إلينا مِن سِيَرِهم وأخبارِهم وأحوالِهم أُمَّةً واحدةً تَجْمَعُهم السُّنَّةُ وإنْ نَأَتْ دِيَارُهم وتَبَاعَدَتْ أقطارُهم، يَحْنُو بعضُهم على بعضٍ ويُحِبُّ بعضُهم بعضًا وإنْ لم يَرَه، حتى قالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ [وُلِدَ عامَ 97هـ، وتُوُفِّيَ عامَ 161هـ] رحمَه اللهُ تعالى {إِذَا بَلَغَكَ عَنْ رَجُلٍ في الْمَشْرِقِ صَاحِبِ سُنَّةٍ وَآخَرَ بِالْمَغْرِبِ، فَابْعَثْ إِلَيْهِمَا بِالسَّلَامِ وَادْعُ لَهُمَا، مَا أَقَلَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ}، ويَقولُ أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ [وُلِدَ عامَ 66هـ، وتُوُفِّيَ عامَ 131هـ] رحمَه اللهُ تعالى {إِنِّي أُخْبَرُ بِمَوْتِ الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَكَأَنِّي أَفْقِدُ بَعْضَ أَعْضَائِي}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ برجس-: أَمَّا اليومَ فقد كَثُرَ المُنتَسِبون إلى السُّنَّةِ، وكَثُرَ اللابِسون لِلِباسِ أَهْلِ السُّنَّةِ، حتى لم يَعُدْ تَميِيزُ أهلِ السُّنَّةِ الحَقِيقِيِّين مِن غيرِهم بالأمرِ السَّهْلِ الهَيِّنِ، ولِخُطورةِ ذلك الأَمْرِ -وهو تَلَبُّسُ كثيرٍ مِنَ الناسِ بالسُّنَّةِ في هذه الأزمانِ وَهُمْ ليسوا مِن أَهْلِها- وشِدَّةِ تَفَشِّي هذا الأمرِ، وخَوْفِي أنْ يَنْدَرِسَ [أَيْ يَنْمَحِيَ] مذهبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، على أَيْدِي أُنَاسٍ يَتَسَمَّوْنَ بهذا الاسْمِ وليسوا مِن مُسَمَّاه على نَصِيبٍ، فإنَّنا في هذا المَجْلِسِ نَذْكُرُ بعضَ المسائلِ وبعضَ القَضَايَا التي كَثُرَ طَرْحُها في هذا الزَّمَنِ وباسْمِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، وهذا الطَّرْحُ، الغالبُ الكثيرُ [مِنْهُ] لَيْسَ عَلَيْهِ أَثَارَةٌ مِنْ عِلْمٍ، وليس هو مِن مذهبِ السلفِ الصالحِ رحمَهم اللهُ تعالى، وإنَّما هو افْتِئَاتٌ على منهجِ السلفِ الصالح وتَلْبِيسٌ وخِدَاعٌ؛ أقولُ، لَمَّا كان هذا الطَّرْحُ لِمِثْلِ هذه المسائلِ باسْمِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ وهو بَعِيدٌ عن هذا المُسَمَّى وَجَبَ التَّنبِيهُ ما استطاعَ الإنسانُ إلى ذلك سبيلًا، ونحن في هذه العُجَالَةِ نَذْكُرُ بعضَ هذه المسائلِ ونُدْلِي فيها بِدَلْوِنا عَلَّ اللهَ سبحانه وتعالى أنْ يَرْزُقَنا وإيَّاكم الإخلاصَ، وتحقيقَ مُتابَعةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، والتوفيقَ لمنهجِ السلفِ الصالحِ رَضِيَ اللهُ عنهم؛ فمِن هذه المسائل مسألةُ التَّصنِيفِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ برجس-: التصنيفُ، هل هو حقٌّ أَمْ باطلٌ؟ وهَلْ يَصِحُّ التصنيفُ بالظَّنِّ أم لا يَصِحُّ؟؛ وجوابُ هذه المسألة أنْ يُقالَ، إنَّ التصنيفَ الذي هو نِسبَةُ الشخصِ الذي تَلَبَّسَ ببِدْعةٍ إلى بِدْعَتِه، ونحو ذلك كنِسْبَةِ الكَذَّابِ إلى كَذِبِه، وهكذا كُلُّ ما يَتَعَلَّقُ بمسائلِ الجَرْحِ والتَّعدِيلِ، نَقُولُ، إنَّ هذا التصنيفَ حقٌّ ودِينٌ يُدانُ به، ولهذا أجْمَعَ أهلُ السُّنَّةِ على صِحَّةِ نِسبَةِ مَن عُرِفَ ببِدْعةٍ إلى بِدْعَتِه، فمَن عُرِفَ بالقَدَرِ قِيلَ {هو قَدَرِيٌّ}، ومَن عُرِفَ ببِدعَةِ الخَوارِجِ قِيلَ {خارِجِيٌّ}، ومَن عُرِفَ بالإرجاءِ قِيلَ {هو مُرْجِئٌ}، ومَن عُرِفَ بالرَّفْضِ قِيلَ {رافِضِيٌّ}، ومَن عُرِفَ بالتَّمَشْعُرِ قِيلَ {أَشْعَرِيٌّ}، وهكذا مُعْتَزِلِيٌّ وصُوفِيٌّ وَهَلُمَّ جَرًّا، وأَصْلُ هذا أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ أنَّ أُمَّتَه ستَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، فَفِيه دلالةٌ على وُجودِ الفِرَقِ، ولا يُتَصَوَّرُ وُجودُ الفِرَقِ إلَّا بوُجودِ مَن يَقومُ بمُعتَقَداتِها مِنَ الناسِ، وإذا كان الأمرُ كذلك فكُلُّ مَن دانَ بمُعتَقَدِ أَحَدِ هذه الفِرَقِ نُسِبَ إليها لا مَحَالَةَ، فإنَّ التصنيفَ حَقٌّ أَجمَعَتْ عليه الأُمَّةُ فلا يُنْكِرُه عاقلٌ، فتصنيفُ الناسِ بحَقٍ وبَصِيرةٍ حِراسةٌ لِدِيِن اللهِ سبحانه وتعالى، وهو جُنْدِيٌّ مِن جُنُودِ اللهِ سبحانه وتعالى، يَنْفِي عن دِينِ اللهِ جل وعلا تحريفَ الغَالِين وانْتِحالَ المُبْطِلِين وتأويلَ الجاهلِين وزَيْغَ المُبتَدِعِين، فالتصنيفُ رَقَابَةٌ تَتَرَصَّدُ ومِنْظَارٌ يَتَطَلَّعُ إلى كلِّ مُحْدِثٍ فيَرْجُمُه بشِهَابٍ ثاقِبٍ لا تَقُومُ له قائمةٌ بَعْدَه، حيث يَتَّضِحُ أَمْرُه ويَظْهَرُ عَوَرُه {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}، فالتصنيفُ مِن مَعَاوِلِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ التي بحَمْدِ اللهِ جل وعلا لم تَفْتُرْ ولن تَفْتُرَ في إخمادِ بِدَعِ أهلِ البِدَعِ والأهواءِ وفي كَشْفِ شُبَهِهم وبَيَانِ بِدَعِهم حتى يُحْذَروا وحتى تَعْرِفَهم الأُمَّةُ فتكونُ يدًا واحدةً على ضَرْبِهم ونَبْذِهم والقَضَاءِ عليهم؛ الشِّقُّ الثَّانِي مِنَ السُّؤَالِ، وهو هَلْ يُصَنَّفُ بالظَّنِّ؟، فإنَّنا نَقُولُ، ماذا يُرادُ بِالتَّصنِيفِ بِالظَّنِّ؟، [فَ]إنْ كانَ [المُرادُ هُوَ] الظنَّ المُعتَبَرَّ [أَيِ الظَّنَّ الذي مَرتَبَتُه أَعْلَى مِن مَرتَبَتَيِ الوَهْمِ والشَّكِّ، وأَدْنَى مِن مَرتَبَةِ اليَقِينِ، وهو ما سَبَقَ بَيَانُه في مَسْأَلَةِ (هَلْ يَصِحُّ إطلاقُ الكُلِّ على الأَكْثَرِ؟ وهَلِ الحُكْمُ لِلغالِبِ، والنَّادِرُ لا حُكْمَ له؟). وقد قالَ القرطبيُّ في (الجامع لأحكام القرآن): إنَّ الأَحْكَامَ تُنَاطُ بِالْمَظَانِّ وَالظَّوَاهِرِ لَا عَلَى الْقَطْعِ وَاطِّلَاعِ السَّرَائِرِ. انتهى] في الشَّرْعِ، فهذا يُصَنَّفُ به -ولا رَيْبَ- عند أهلِ العِلْمِ رحمَهم اللهُ تعالى، ولذلك لو تَأَمَّلتَ طَرِيقةَ السَّلَفِ في بابِ الجَرحِ والتَّعدِيلِ والكَلامِ في أهلِ البِدَعِ تَرَاهم يَعتَبِرون الظَّنَّ، فَمَثَلًا بَعضُهم يَقُولُ {مَن أَخْفَى علينا -أو عَنَّا- بِدْعَتَهُ لَمْ تَخْفَ عَلَيْنَا أُلْفَتُهُ}، يَعْنِي أنَّنا نَعْرِفُه مِن خِلالِ مَن يُجالِسُ وإنْ لم يُظْهِرِ البِدْعةَ في أقوالِه وأفعالِه، وقد قالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ رَحِمَه اللهُ تَعالَى {لَمَّا قَدِمَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ الْبَصْرَةَ، وكَانَ الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ لَهُ قَدْرٌ عند الناس وله حُظْوَةٌ وَمَنْزِلَةٌ، فَجَعَلَ الثَّوْرِيُّ يَسأَلُ عن أَمْرِه ويَستَفْسِرُ عن حالِه، فقالَ (ما مَذهَبُه؟)، قالوا (مَذهَبُه السُّنَّةُ)، قالَ (مَن بِطانَتُه؟)، قالوا (أهلُ القَدَرِ)، قالَ (هو قَدَرِيٌّ)} [قالَ الشيخُ عليُّ بنُ محمد الصلابي (عضو الأمانة العامة للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين) في كتابه (الدولة العثمانية، عوامل النهوض وأسباب السقوط): وكَمْ خَدَعَتْ تلك العَقِيدةُ الخَطِيرةُ (التَّقِيَّةُ) المُسلِمِين حُكَّامًا ومَحكومِين، عُلَماءَ ومُتَعَلِّمِين، فَأَيْنَ عُلَماءُ السُّنَّةِ الذِين لا تَنْطَلِي عليهم دَسائسُ الباطِنِيِّين؟!. انتهى]، وقد عَلَّقَ اِبْنُ بَطَّةَ [في كتابِه (الإبانة الكبرى)] رَحِمَه اللهُ تَعالَى على هذا الأَثَرِ بِقَولِه {رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، لَقَدْ نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ فَصَدَقَ، وَقَالَ بِعِلْمٍ فَوَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَمَا تُوجِبُهُ الْحِكْمَةُ وَيُدْرِكُهُ الْعِيَانُ وَيَعْرِفُهُ أَهْلُ الْبَصِيرَةِ وَالْبَيَانِ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ وعَلا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ)}، ولْيَعْلَمْ طالبُ العِلْمِ أنَّ أكثَرَ تَصنِيفِ أهلِ العِلْمِ في قَدِيمِ الزَّمَنِ وحَدِيثِه إنَّما هو بِالظَّنِّ المُعتَبَرِ، أَمَّا التَّصنِيفُ بِاليَقِينِ فَهو نادِرٌ جِدًّا في الأُمَّةِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ برجس-: والتَّصنِيفُ بِالقَرائنِ مَبْنَاه على الظَّنِّ كَما هو في أكثرِ أحكامِ الشَّرِيعةِ الإسلامِيَّةِ [قالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي في (مصلحة التأليف وخشية التنفير، في الميزانِ، بِتَقدِيمِ الشَّيخِ أبي محمد المقدسي): قالَ اِبْنُ دقيق العيد [في (شرح الإلمام بأحاديث الأحكام)] {والاستِدلالُ بِالقَرائنِ مِنَ الأفعالِ والأحوالِ والأقوالِ مِنَ الطُّرُقِ المُفِيدةِ لِلْعِلْمِ اليَقِينِيِّ، لا سِيَّمَا مع كَثرةِ القَرائنِ وطُولِ الأزمِنةِ}، وبِالجُملةِ فالنِّفاقُ قد يُعلَمُ بِالقَرائنِ الظاهِرةِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الصومالي-: وعامَّتُهم [أَيْ عامَّةُ المُنافِقِين] يُعرَفون في لَحْنِ القَولِ ويُعرَفون بِسِيماهم، ولا يُمكِنُ عُقوبَتُهم بِاللَّحْنِ والسِّيما. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ أبو بصير الطرطوسي في (قواعدُ في التكفير): القَرائنُ ولَحْنُ القَولِ تُلزِمُنا بِالحَذَرِ والحَيْطَةِ مِن أهلِ النِّفاقِ. انتهى باختصار]. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ محمد بن هادي المدخلي (عضو هيئة التدريس بكلية الحديث الشريف بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة) في (اللقاءات السلفية بالمدينة النبوية): قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَحِمَه اللهُ {قَدِمَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ الصُّورِيُّ بَغْدَادَ، فَذُكِرَ لِأحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَه اللهُ، [فَ]قَالَ (اُنْظُرُوا عَلَى مَنْ نَزَلَ وَإِلَى مَنْ يَأْوِي)} [قالَ الشيخُ حسن أبو الأشبال الزهيري في (شرح كتاب الإبانة): فالنَّبِيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لَمَّا نَزَلَ المَدِينةَ نَزَلَ على بَنِي النَّجَّارِ، وبَنُو النَّجَّارِ هُمْ أفضَلُ الأنصارِ، أَيْ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ على خِيرَةِ الأنصارِ ولم يَنزِلْ على أَيِّ واحِدٍ منهم، وإنَّما نَزَلَ في بَيْتِ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. انتهى]. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ أحمد بازمُول (الأستاذ بجامعة أم القرى) في مقالةٍ بعنوان (نَقْضُ القَبائحِ وتَطْوِيحُ المَفاسِدِ بِذِكْرِ ما في الهَجْرِ مِن مَصالِحَ) على موقعِه في هذا الرابط: وقد نَقَلَ الإجماعَ على هَجْرِ أهلِ البِدَعِ الإمامُ البغوي في (شَرْحُ السُّنَّةِ) بِقولِه {قد مَضَتِ الصَّحابةُ والتابِعون وأَتْباعُهم وعلماءُ السُّنَّةِ على هذا، مُجْمِعِين مُتَّفِقِين على مُعاداة أهلِ البِدعةِ ومُهاجَرَتِهم}؛ والسَّلَفُ لم يُحَذِّروا فَقَطْ مِن مُجالَسةِ أهلِ البِدَعِ أَنْفُسِهم، بَلْ مَن كان لا يُعرَفُ ببِدعةٍ وجالَسَهم حَذَّروا منه إنْ لم يُقلِعْ عن مُجالَسَتِهم بعدَ تَنبِيهِه؛ أَخرَجَ اللَّالَكَائِيُّ في (شَرْحُ [أُصولِ] اعتقادِ أهلِ السُّنَّةِ) عنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ أنَّه قالَ {مَنْ جَلَسَ مَعَ صَاحِبِ بِدْعَةٍ فَاحْذَرْهُ}؛ وأَخْرَجَ ابْنُ بَطَّةَ في (الإبانة [الكبرى]) عنِ اِبْنِ عون أنَّه قالَ {مَن يُجالِسُ أَهْلَ البِدَعِ أَشَدُّ علينا مِن أَهْلِ البِدَعِ}؛ وسَأَلَ أَبُو دَاوُد [صَاحِبُ السُّنَنِ] الإمامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ {أَرَى رَجُلًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مَعَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ، أَتْرُكُ كَلَامَهُ؟} فقَالَ {لَا، أَوْ تُعْلِمُهُ أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي رَأَيْته مَعَهُ صَاحِبُ بِدْعَةٍ، فَإِنْ تَرَكَ كَلَامَهُ فَكَلِّمْهُ، وَإِلَّا فَأَلْحِقْهُ بِهِ}؛ وقال الْبَرْبَهَارِيُّ [في (شَرْحُ السُّنَّةِ)] {إذا رَأَيْتَ الرَّجُلَ جَالِسًا مَعَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الأَهْوَاءِ فحَذِّرْه وعَرِّفْه، فإنْ جَلَسَ معه بعدَ ما عَلِمَ فاتَّقِه فإنَّه صاحِبُ هَوَى}. انتهى. وجاءَ في (شرح كتاب فضل الإسلام) للشيخِ ابنِ باز على موقعِه في هذا الرابط، أنَّ الشيخَ سُئِلَ {[هَلِ] الذي يُثْنِي على أهلِ البِدَعِ ويَمدَحُهم يَلْحَقُ بهم؟}، فأجابَ الشيخُ {نَعَمْ، ما في شَكٌّ، مَن أثْنَى عليهم ومَدَحَهم هو داعٍ لهم، يَدعُو لهم، هذا مِن دُعاتِهم، نسألُ اللهَ العافِيَةَ}. انتهى. وقالَ الشيخُ حمود التويجري (الذي تولَّى القضاءَ في بلدة رحيمة بالمنطقة الشرقية، ثم في بلدة الزلفي، وكان الشيخُ ابنُ باز مُحِبًّا له، قارئًا لكُتُبه، وقَدَّمَ لبعضِها، وبَكَى عليه عندما تُوُفِّيَ -عامَ 1413هـ- وأَمَّ المُصَلِّين للصلاة عليه) في (القول البليغ في التحذير مِن جماعة التبليغ): وهذه الرِّوَايَةُ عنِ الإِمامِ أَحْمَدَ يَنبَغِي تَطبِيقُها على الذِين يَمْدَحون التَّبْلِيغِيِّين [يَعْنِي (جَماعةَ التَّبلِيغِ والدَّعْوةِ)] ويُجادِلون عنهم بالباطِلِ، فمَن كان منهم عالِمًا بأنَّ التَّبْلِيغِيِّين مِن أَهْلِ البِدَعِ والضلالاتِ والجَهالاتِ، وهو مع هذا يَمْدَحُهم ويُجادِلُ عنهم، فإنَّه يُلْحَقُ بهم ويُعامَلُ بما يُعامَلون به مِنَ البُغْضِ والهَجْرِ والتَّجَنُّبِ، ومَن كان جاهِلًا بِهم فَإنَّه يَنبَغِي إعلامُه بأنَّهم مِن أَهْلِ البِدَعِ والضلالاتِ والجَهالاتِ، فَإنْ لم يَترُكْ مَدْحَهم والمُجادَلةَ عنهم بَعْدَ العِلْمِ بِهم فَإنَّه يُلْحَقُ بِهم ويُعامَلُ بِما يُعامَلون به [قالَ الشيخُ مُقْبِلٌ الوادِعِيُّ في (تحفة المجيب): أَلَّفَ الشيخُ حمود بن عبدالله التويجري رِسالةً اِسمُها (القَولُ البَلِيغُ في التَّحذِيرِ مِن جَماعةِ التَّبلِيغِ)، أَنْصَحُ بِقِراءَتِها، والمُؤَلَّفاتُ كَثِيرةٌ في بَيَانِ شِركِيَّاتِهم وصُوفِيَّاتِهم وما هُمْ عليه مِنَ الضَّلالِ، ودَعوَتُهم دَعوةٌ مَيِّتةٌ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الوادِعِيُّ-: فَدَعوَتُهم دَعوةُ جَهلٍ وضَلالٍ، ولا أَنصَحُ بِالخُروجِ معهم، وَيَا حَبَّذَا لَوْ مُنِعُوا... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الوادِعِيُّ-: جَماعةُ التَّبلِيغِ جَمَعوا بَيْنَ التَّصَوُّفِ والجَهلِ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ مُقْبِل الوادِعِي أيضًا في فتوى صَوتِيَّةٍ بعنوان (الرَّدُّ على فتاوَى بَعضِ الأزهَرِيِّين المُخالِفةِ) مُفَرَّغةٍ على موقعِه في هذا الرابط: دَعوَةُ الإخوانِ المُسلمِين مُمَيِّعةٌ مُضَيِّعةٌ، ودَعوَةُ جَماعةِ التَّبلِيغِ أيضًا مُبتَدَعةٌ، فَأَنْصَحُهم أنْ يُقْبِلُوا على العِلْمِ النافعِ. انتهى. وذَكَرَ الشيخُ أبو عبدالله المصري في كِتابِه (وَقْفةٌ هادِئةٌ) فَتوى للشيخِ عبدِالعزيز الراجحي (الأستاذ في جامعة الإمام محمد بن سعود في كلية أصول الدين، قسم العقيدة) يَقولُ فيها: جَماعةُ التَّبلِيغِ مَعروفٌ أنَّهم صُوفِيَّةٌ، ولا نَنصَحُ بِالخُروجِ معهم. انتهى. وقالَ الشيخُ فركوس في فتوى له على موقعه في هذا الرابط: جَماعةُ التَّبلِيغِ مبايِنَةٌ لِلحَقِّ، صُوفِيَّةُ المَنهَجِ والمَشرَبِ، لها العَدِيدُ مِنَ الأخطاءِ؛ [وَ]لِلمَزِيدِ مِنَ الاطِّلاعِ يُمْكِنُ مُراجَعةُ كتابِ (القولُ البليغُ في التحذير مِن جماعة التبليغ) للشيخِ حمود التويجري رحمه الله. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ صالحٌ اللُّحَيْدَان (عضوُ هيئة كبار العلماء، ورئيسُ مجلس القضاء الأعلى) في (فَضْلُ دَعوةِ الإمامِ محمد بنِ عبدالوهاب): فجَمِيعُ المُتَعَلِّمِين في المَملَكةِ مِن قَبْلِ عامِ التِّسعِينِ (1390هـ)، إنَّما تَعَلَّموا على مَنهَجِ كُتُبِ الشيخِ [محمد بنِ عبدالوهاب] وأبنائه وتَلامِذَتِه، ولم يَكُنْ عندنا في المَملَكةِ دَعوةُ تَبلِيغٍ ولا دَعوةُ إخوانٍ ولا دَعوةُ سُرورِيِّين وإنَّما الدَّعوةُ إلى اللهِ وإعلانُ مَنهَجِ السَّلَفِ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ صالحٌ اللُّحَيْدَان أيضا في فتوى صَوتِيَّةٍ مَوجُودةٍ على هذا الرابط بِعُنْوانِ (جَماعةُ التَّبلِيغِ عندهم ضَلالاتٌ كَبِيرةٌ): جَماعةُ التَّبلِيغِ عندهم ضَلالاتٌ كَبِيرةٌ وضارَّةٌ وإنْ كانَ مَظهَرُهم حَسَنًا. انتهى. وفي هذا الرابط على موقع الشيخ ربيع المدخلي (رئيسُ قسمِ السُّنَّةِ بالدراسات العليا في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة)، قالَ الشيخُ: أهلُ البِدَعِ كالرَّوافِضِ، والخَوارِجِ، والجَهْمِيَّةِ، والقَدَرِيَّةِ، والمُعتَزِلةِ، والصُّوفِيَّةِ القُبورِيَّةِ، والمُرجِئةِ، ومَن يَلْحَقُ بهم كالإخوانِ والتَّبلِيغِ وأمثالِهم، فهؤلاء لم يَشتَرِطِ السَّلَفُ إقامةَ الحُجَّةِ مِن أَجْلِ الحُكْمِ عليهم بِالبِدعةِ، فالرافِضِيُّ يُقالُ عنه {مُبتَدِعٌ}، والخارِجِيُّ يُقالُ عنه {مُبتَدِعٌ}، وَهَكَذَا، سَواءٌ أُقِيمَتْ عليهم الحُجَّةُ أَمْ لا. انتهى. وقالَ الشيخُ سعدُ بن عبدالله السبر (أستاذ الفقه المقارن بجامعة الإمام محمد بن سعود) في مقالة له على هذا الرابط بعنوان (التحذير من جماعة التبليغ): وحِزبُ [أَيْ جَماعةُ] التَّبلِيغِ الذِين يَزعُمون أنَّهم يَدعون إلى اللهِ، وَهُمْ يَدعون على جَهلٍ وَعَدَمِ بَصِيرةٍ، ويَدعون الناسَ إلى البِدَعِ والمُحدَثاتِ ومُخالَفةِ التَّوحِيدِ وتَرْكِ اِتِّباعِ سَيِّدِ المُرسَلِين... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ السبر-: قالَ الألبانِيُّ رَحِمَه اللهُ {جَماعةُ التَّبلِيغِ جَماعةٌ صُوفِيَّةٌ عَصرِيَّةٌ، جاءَتْ بِتَطوِيرٍ لِلصُّوفِيَّةِ فلم يَخرُجوا مِنَ الطُّرُقِ الصُّوفِيَّةِ}، وقالَ [أَيِ الألبانِيُّ] رَحِمَه اللهُ {فهي [أَيْ جَماعةُ التَّبلِيغِ] دَعوةٌ صُوفِيَّةٌ عَصرِيَّةٌ، وَرِثَوا شَيئًا مِنَ الطُّرُقِ الصُّوفِيَّةِ وحاوَلوا أنْ يَجعَلوها تَختَلِفُ قَلِيلًا عنِ الصُّوفِيَّةِ السابِقةِ}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ السبر-: إنَّهم [أَيْ جَماعةُ التَّبلِيغِ] جُهَّالٌ يَحتاجون لِمَن يُعلِّمُهم، فَكَيفَ يَدعون؟!، وَ[قَدْ] قالَ الألبانِيُّ {وَهُمْ [أَيْ جَماعةُ التَّبلِيغِ] لا يَعرِفون السُّنَّةَ}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ السبر-: قالَ الشيخُ الألبانِيُّ رَحِمَه اللهُ عن جَماعةِ التَّبلِيغِ {وَهُمْ لا يُعنَوْنَ بِالدَّعوةِ إلى الكِتابِ والسُّنَّةِ كَمَبدَأٍ عامٍّ بَلْ إنَّهم يَعتَبِرون هذه الدَّعوةَ مُفَرِّقةً، ولِذلك فَهُمْ أَشبَهُ ما يَكونون بِجَماعةِ الإخوانِ المُسلِمِين، فَهُمْ يَقولون أنَّ دَعوَتَهم قائمةٌ على الكِتابِ والسُّنَّةِ، وَلِكَونِ هذا مُجَرَّدَ كَلامٍ فَهُمْ لا عَقِيدةَ تَجمَعُهم، فهذا مَاتُرِيدِيٌّ، وهذا أَشْعَرِيٌّ، وهذا صُوفِيٌّ، وهذا لا مَذهَبَ له، ذلك لِأنَّ دَعوَتَهم قائمةٌ على مَبدَأِ (كَتِّلْ جَمِّعْ، ثُمَّ ثَقِّفْ)، والحَقِيقةُ أنَّه لا ثَقافةَ عندهم فَقَدْ مَرَّ عليهم أَكثَرُ مِن نِصفِ قَرنٍ مِنَ الزَّمانِ ما نَبَغَ فيهم عالِمٌ، وأمَّا نحن فَنَقولُ (ثَقِّفْ، ثُمَّ جَمِّعْ) حتى يَكونَ التَّجمِيعُ على أساسِ مَبدَأٍ لا خِلافَ فيه، فَدَعوةُ جَماعةِ التَّبلِيغِ صُوفِيَّةٌ عَصرِيَّةٌ، تَدعو إلى الأخلاقِ، أمَّا إصلاحُ عَقائدِ المُجتَمَعِ فَهُمْ لا يُحَرِّكون ساكِنًا، لِأنَّ هذا -بِزَعمِهم- يُفَرِّقُ}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ السبر-: قالَ الشيخُ عبدالرزاق عفيفي [نائبِ مفتي المملكة العربية السعودية، وعضوِ هيئة كبار العلماء، ونائبِ رئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء] رَحِمَه اللهُ عن جَماعةِ التَّبلِيغِ {الواقِعُ أنَّهم مُبتَدِعةٌ مُحَرِّفون، وأنا أعرِفُ التَّبلِيغَ مِن زَمانٍ قَدِيمٍ، وَهُمُ المُبتَدِعةُ في أَيِّ مَكانٍ كانوا هُمْ، في مِصْرَ وأَمْرِيكا والسُّعودِيَّةِ}. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ صالح الفوزان (عضوُ هيئةِ كِبار العلماءِ بالدِّيَارِ السعوديةِ، وعضوُ اللجنةِ الدائمةِ للبحوثِ العلميةِ والإفتاءِ) في فتوى صَوتِيَّةٍ مَوجُودةٍ على هذا الرابط بعُنْوانِ (لا يَجوزُ الخُروجُ مع جَماعةِ التَّبلِيغِ): وهذه جَماعةٌ صُوفِيَّةٌ مَعروفةٌ، ثَبَتَ أنَّها جَماعةٌ صُوفِيَّةٌ، تَسَرَّبوا إلى بِلادِنا وغَيرِها لِأجْلِ أنْ يَنشُروا الصُّوفِيَّةَ، فَلا يَجوزُ لِصاحِبِ السُّنَّةِ وصاحِبِ التَّوحِيدِ أنْ يَخرُجَ معهم، فَيَجِبُ أنْ يُلفَظَ هؤلاء ولا يُلتَفَتَ إليهم. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ صالح الفوزان أيضًا في (إتحافُ القاري بِالتَّعلِيقاتِ على شَرحِ السُّنَّةِ): جَماعةُ التَّبلِيغِ الذِين قَدِ اِغتَرَّ بِهم كَثِيرٌ مِنَ الناسِ اليَومَ، نَظَرًا لِمَا يَظهَرُ مِنهمْ مِنَ التَّعَبُّدِ وتَتوِيبِ العُصاةِ -كَما يَقولونَ- وشِدِّةِ تَأْثِيرِهِم على مَنْ يَصحَبُهم، ولَكِنْ هُمْ يُخرِجونَ العُصاةَ مِنَ المَعصِيَةِ إلى البِدعةِ، والبِدعةُ شَرٌّ مِنَ المَعصِيَةِ، والعاصِي مِن أهلِ السُّنَّةِ خَيرٌ مِنَ العابِدِ مِنْ أهلِ البِدَعِ، فَلْيُتَنَبَّهْ لِذلكَ. انتهى. وقالَ الشيخُ محمد بن هادي المدخلي (عضو هيئة التدريس بكلية الحديث الشريف بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة) في فتوى صَوتِيَّةٍ بِعُنْوانِ (ما حُكمُ الخُروجِ مع فِرقةِ التَّبلِيغِ؟) مَوجُودةٍ على هذا الرابط: لا تَخرُجْ معهم، هؤلاء جَماعةٌ بِدعِيَّةٌ في تَوحِيدِ اللهِ وفي أسمائه وصِفاتِه. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ محمد بن هادي المدخلي أيضًا في فتوى صَوتِيَّةٍ بِعُنْوانِ (هَل هناك فَرقٌ بَيْنَ التَّبلِيغِ في السُّعودِيَّةِ والهِنْدِ؟) مَوجُودةٍ على هذا الرابط: مَا فِيه [أَيْ ما يُوجَدُ] فَرْقٌ، كُلُّهم سَوَاءٌ. انتهى. وقالَ الشيخُ عبدُالعزيز آل الشيخ في فيديو بِعُنْوانِ (تَحذِيرُ سَمَاحةُ المُفتِي مِن جَماعةِ الإخوانِ وجَماعةِ التَّبلِيغِ): ولو صَحِبَهم [أَيْ صَحِبَ جَماعةَ التَّبلِيغِ] ذو عِلْمٍ وفِقهٍ وفَضلٍ، لم يَرتَضوا به ولم يُصاحِبوه، وإنَّما يَبتَعِدون ويُحَذِّرون منه. انتهى. وقالَ الشيخُ عبدُالعزيز الريس في خُطْبَةٍ له بِعُنْوانِ (لِماذا جَماعةُ التَّبلِيغِ؟) مُفَرَّغَةٍ على هذا الرابط في موقع الإسلام العتيق الذي يُشرِفُ عليه: تَوَارَدَ عُلَماءُ أهلِ السُّنَّةِ على تَبدِيعِ جَماعةِ التَّبلِيغِ وتَضلِيلِها، وتَحذِيرِ الناسِ مِن مُصاحَبَتِها والخُروجِ معها... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الريس-: قالَ سَمَاحَةُ الشيخِ عبدِالعزيز بْنِ باز -رَحِمَه اللهُ تَعالَى- فِي إجابةِ سُؤالٍ حَوْلَ جَماعةِ التَّبلِيغِ {وجَماعةُ التَّبلِيغِ والإخوانِ مِن عُمومِ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً الضالَّةِ}، وبَيَّنَ [أَيِ الشيخُ اِبنُ باز] في إجابةِ سُؤالٍ آخَرَ وقالَ أنَّ عندهم جَهلًا وعَدَمَ بَصِيرةِ بِالعَقِيدةِ، وحَذَّرَ مِنِ اِنضِمامِ الجُهَّالِ إليهم. انتهى]. انتهى. وقالَ ابنُ تيميةَ في (مجموع الفَتَاوَى): وَمِثْلُ أَئِمَّةِ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْمَقَالَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَوْ [مِنْ أَهْلِ] الْعِبَادَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّ بَيَانَ حَالِهِمْ وَتَحْذِيرَ الأُمَّةِ مِنْهُمْ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى قِيلَ لِأحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ {الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَعْتَكِفُ أَحَبُّ إلَيْك أَوْ يَتَكَلَّمُ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ؟}، فَقَالَ {إذَا قَامَ وَصَلَّى وَاعْتَكَفَ فَإِنَّمَا هُوَ لِنَفْسِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ فَإِنَّمَا هُوَ لِلْمُسْلِمِينَ هَذَا أَفْضَلُ}، فَبَيَّنَ أَنَّ نَفْعَ هَذَا عَامٌّ لِلْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إذْ تَطْهِيرُ سَبِيلِ اللَّهِ وَدِينِهِ وَمِنْهَاجِهِ وَشِرْعَتِهِ وَدَفْعِ بَغْيِ هَؤُلَاءِ وَعُدْوَانِهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْلَا مَنْ يُقِيمُهُ اللَّهُ لِدَفْعِ ضَرَرِ هَؤُلَاءِ لَفَسَدَ الدِّينُ وَكَانَ فَسَادُهُ أَعْظَمَ مِنْ فَسَادِ اِسْتِيلَاءِ الْعَدُوِّ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إذَا اِسْتَوْلَوْا لَمْ يُفْسِدُوا الْقُلُوبَ وَمَا فِيهَا مِنَ الدِّينِ إلَّا تَبَعًا، وَأَمَّا أُولَئِكَ فَهُمْ يُفْسِدُونَ الْقُلُوبَ اِبْتِدَاءً. انتهى. وقالَ اِبنُ تيميَّةَ أيضًا في (الصارم المسلول): قالَ ابْنُ عَقِيلٍ عن شَيخِه أَبِي الْفَضْلِ الْهَمْدَانِيِّ {مُبتَدِعةُ الإسلامِ، والكَذَّابون والواضِعون لِلحَدِيثِ، أشَدُّ مِنَ المُلحِدِين، لِأنَّ المُلحِدِين قَصَدوا إفسادَ الدِّينِ مِن خارِجٍ، وهؤلاء قَصَدوا إفسادَه مِن داخِلٍ، فَهُمْ كَأهلِ بَلَدٍ سَعَوْا في فَسادِ أحوالِه، والمُلحِدون كالمُحاصِرِين مِن خارِجٍ، فالدُّخَلاءُ يَفتَحون الحِصْنَ فَهُمْ شَرٌّ على الإسلامِ مِن غَيرِ المُلابِسِين له}. انتهى. وقالَ الشيخُ صالح آل الشيخ (وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد) في شَرِيطٍ صَوتيٍّ مُفَرَّغٍ على هذا الرابط بعنوان (وَقَفاتٌ مع كَلِماتٍ لِابْنِ مَسعُودٍ): اِبْنُ مَسعُودٍ وَصَّى به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وَصَّى الأُمَّةَ أنْ تَأْخُذَ بِعَهدِه وأنْ تَقتَفِيَ أثَرَه، فقد صَحَّ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فيما رَواه الإمامُ أَحْمَدُ والحاكِمُ وغَيرُهما أنَّ النَّبِيَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ {تَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ [أَيِ اِبْنِ مَسعُودٍ]} يَعنِي إذا عَهِدَ إليكم عَهدًا فَتَمَسَّكوا به، وصَحَّ عنه أيضًا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّه قالَ {رَضِيتُ لأُمَّتِي مَا رَضِيَ لَهَا ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ صالح-: ومِن كَلِماتِ اِبْنِ مَسعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قالَ {اعْتَبِرُوا النَّاسَ بِأَخْدَانِهِمْ فَإِنَّ الْمَرْءَ لا يُخَادِنُ إلَّا مَنْ يُعْجِبُهُ}، وهذا مَأخُوذٌ مِن قَولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الحَدِيثِ الصَّحِيحِ المَروِيِّ في السُّنَنِ {الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ}، صَحِيحٌ كما قالَ اِبْنُ مَسعُودٍ {الْمَرْءُ لا يُخَادِنُ إلَّا مَنْ يُعْجِبُهُ} يُعْجِبُهُ في تَصَرُّفاتِه، يُعْجِبُهُ في عَقلِه، يُعْجِبُهُ في تَفكِيرِه، فإذا رَأَيْتَ أَحَدًا يُخادِنُ أَحَدًا (يَعنِي صَدِيقًا له، مُلازِمًا له، مُحِبًّا له) فاعتَبِرْ هذا بذاك، فإنَّ الأَرْوَاحَ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، مَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ، فاعتَبِروا الناسَ بِأَخْدَانِهِمْ، وهذا يَدُلُّ على ذاك [أَيْ وحالُ هذا يَدُلُّ على حالِ ذاك]؛ فَمِن جِهةِ الأعمالِ، إذا رَأَيْتَ مَن يَغْشَى الْمَعَاصِيَ والكبائرَ، ورَأَيْتَ مَن يُصاحِبُه ويُلازِمُه فاعتَبِرْه بذاك، واخْشَ عليه أنْ يَكونَ مِثْلَ صاحِبِه، لِأنَّ مَن عَلِمَ بِالمَعصِيَةِ فَرَضِيَها كانَ شَرِيكًا لِصاحِبِها في الإثمِ؛ في الألْسِنةِ، إذا وَجَدتَ أنَّ فُلانًا سَبَّابًا شَتَّامًا كَثِيرَ الغِيبةِ كَثِيرَ الوَقِيعةِ، وتَجِدُ أنَّ فُلانًا كَثِيرُ الصُّحبةِ له لا يُخالِفُه ولا يَنهاه ولا يُفارِقُه، فاعْلَمْ أنَّه شَبِيِهٌ به، رَضِيَ صَنِيعَه؛ في العُقولِ، الناسُ [يَعنِي الْمُتَصَاحِبِين] يَتَقارَبون في العُقولِ وفي التَّفكِيراتِ، فإذا وَجَدتَ في عَقلِ أَحَدِهم مَحَبَّةً لِلعِلْمِ، ووَجَدتَ مَن يُصاحِبُه، فَتَعْلَمُ أنَّ مَن يُصاحِبُه مُحِبٌّ لِلعِلْمِ وإنْ لم يَكُنْ مِن أهلِ العِلْمِ، [وَ]إذا وَجَدتَ مَن يُصاحِبُ صاحِبَ السُّنَّةِ فَتَعْلَمُ أنَّه صاحِبُ سُنَّةٍ، لِأنَّه كَما قالَ اِبْنُ مَسعُودٍ {اعْتَبِرُوا النَّاسَ بِأَخْدَانِهِمْ}، وإذا وَجَدتَ مَن يُصاحِبُ أهلَ الأثَرِ فهو مُحِبٌ للأثَرِ وَلِأهلِه، وإذا وَجَدتَ مَن يُصاحِبُ أهلَ الرَّأْيِ ويَلزَمُهم فَتَعْلَمُ أنَّه مُحِبٌ لهم وأنَّ له حُكْمَهم، مَن أحَبَّ السُّنَّةَ صَحِبَ أَهْلَها، ومَن أحَبَّ المُحدَثاتِ صَحِبَ أَهْلَها، والْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ كَما قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ صالح-: فَتَأَمَّلْ نَفْسَكَ ومَن تُصاحِبُ؟، هَلْ تُصاحِبُ أهلَ الطاعةِ أَمْ أهلَ المَعصِيَةِ؟... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ صالح-: إذا وَجَدتَ مَن يَأْنَسُ لأهلِ العِصيَانِ، ولو كانَ ظاهِرُه الطاعةَ، فَفِي الغالِبِ أنَّ نَفْسَه مِن داخِلِها تُنازِعُه إلى العِصيَانِ، ولو مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ؛ وإذا وَجَدتَ مَن يُصاحِبُ أهلَ العِلْمِ، وَجَدتَ أنَّ نَفْسَه تُنازِعُه إلى العِلْمِ، ولو لم يَكُنْ مِن طَلَبَتِه؛ وإذا وَجَدتَ نَفْسَكَ تُصاحِبُ أَهْلَ السُّنَّةِ، فَمَعنَى ذلك أنَّ قَلبَكَ مُحِبٌّ لها؛ وإذا وَجَدتَ نَفْسَكَ تُصاحِبُ أَهْلَ المُحدَثاتِ وَأَهْلَ الغِيبةِ وَأَهْلَ النَّمِيمةِ وَأَهْلَ الوَقِيعةِ فَتَعْلَمُ أنَّ الْمَرْءَ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ صالح-: أهلُ البِدَعِ هُمُ الذِين يَعمَلون بِالبِدَعِ أو يَدعُون إليها؛ والبِدعةُ هي المُحدَثاتُ في الدِّين، قد تَكونُ مِن جِهةِ الاعتِقادِ وقد تَكونُ مِن جِهةِ العَمَلِ؛ والمُبتَدِعةُ حَذَّرَ منهم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ {إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ}، فالذِين أحدَثوا المُحدَثاتِ في الاعتِقاداتِ أو في الأعمالِ ولازَمُوها يُطلَقُ عليهم (أصحابُ البِدَعِ)، والواحِدُ منهم (مُبْتَدِعٌ)، وهؤلاء هَدْيُ السَّلَفِ فيهم أنْ لا يُجالَسوا، وأنْ يُحذَّرَ منهم ومِن مَقالاتِهم ومِن أعمالِهم. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ عبدُالعزيز الراجحي (الأستاذ في جامعة الإمام محمد بن سعود في كلية أصول الدين، قسم العقيدة) في (شرح "الشرح والإبانة"): قالَ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمُلَائِيُّ {إذَا رَأَيْتَ الشَّابَّ أَوَّلَ مَا يَنْشَأُ مَعَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَارْجُهُ، وَإِذَا رَأَيْتَه مَعَ أَصْحَابِ الْبِدَعِ فَايْئَسْ مِنْهُ، فَإِنَّ الشَّابَّ عَلَى أَوَّلِ نُشُوئِهِ}، هذه المَقالةُ لعَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الْمُلَائِيِّ في بَيَان عِظَمِ شَأْنِ البِدعةِ، وأنَّها أَشَدُّ مِنَ الكَبِيرةِ، إذَا رَأَيْتَ الشَّابَّ أَوَّلَ مَا يَنْشَأُ مَعَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَارْجُ له الخير، أَمَّا إِذَا رَأَيْتَه مَعَ أَهْلِ الْبِدَعِ فَايْئَسْ مِنْهُ، فَإِنَّ الشَّابَّ عَلَى أَوَّلِ مَنْشَئِه، هذا في الغالِبِ، هذا هو الأغلَبُ، وإلَّا فقد يُوَفِّقُ اللهُ الإنسانَ ولو كانَ مِن أَهْلِ الْبِدَعِ، قد يُوَفِّقُه اللهُ لِمُعتَقَدِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لَكِنَّ هذا في الأغلَبِ وهو صَحِيحٌ، في الغالِبُ أنَّ مَن نَشَأَ على مُعتَقَدِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فإنَّه يُرجَى له الخَيْرُ والاستِمرارُ عليه، وإذا نَشَأَ مَعَ أَهْلِ الْبِدَعِ فالغالِبُ أنَّه يَستَمِرُّ على بِدعَتِه، نَسأَلُ اللهَ السَّلامةَ والعافِيَةَ. انتهى باختصار. وفي فَتْوَى صَوتِيَّةٍ مُفَرَّغةٍ على هذا الرابط في موقع الإسلام العتيق الذي يُشرِفُ عليه الشيخُ عبدُالعزيز الريس، سُئِلَ الشيخُ {مَن يُجالِسُ أهلَ البِدَعِ ويَحضُرُ لهم، هَلْ نُلحِقُه بهم؟ وهَلْ نُحَذِّرُ منه زُمَلاءَنا وإخوانَنا لِئَلَّا يَغتَرُّوا به؟}؛ فَكانَ مِمَّا أجابَ به الشيخُ: فكَلَامُ أئمَّةُ السُّنَّةِ كَثِيرٌ في أنَّ مَن جالسَ أهلَ البِدَعِ فإنَّه يُلحَقُ بهم، وثَبَتَ عنِ اِبْنِ مَسْعُودٍ أنَّه قالَ {الْمَرْءُ بِخِدْنِهِ}، ورَوَى ابْنُ بَطَّةَ عن مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْغَلَابِيِّ أنَّه قالَ {يَتَكَاتَمُ أَهْلُ الأَهْوَاءِ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا الأُلفةَ وَالصُّحْبَةَ} [قالَ الشيخُ حسن أبو الأشبال الزهيري في (شرح كتاب الإبانة): أهلُ الأهواءِ عندهم قُدرةٌ فائقةٌ على كَتْمِ [ما] عندهم مِن فِكْرٍ وضَلالٍ وهَوًى، لَكِنَّ الذي يَفضَحُهم هو التآلُفُ وَالصُّحْبَةُ، فَتَجِدُ الواحِدَ منهم يَمِيلُ إلى إِلْفِهِ وشِكْلِه، فإذا كانَ فُلانُ يُماشِي فُلانًا [أَيْ يَمشِي معه] فَلا بُدَّ أنَّ هناك شَيئًا لازِمًا وَوَحْدَةَ فِكْرٍ بينهم، لِأنَّ الأُلفةَ وَالصُّحْبَةَ دائمًا تَفضَحُ ما وَراءَها. انتهى]، إلى غَيرِ ذلك مِنَ الآثارِ الكَثِيرةِ، بَلْ ذَكَرَ ابْنُ بَطَّةَ إجماعَ السَّلَفِ على ذلك... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الريس-: فإذَنِ الآثارُ كَثِيرةٌ عنِ السَّلَفِ في أنَّ مَن جالسَ أهلَ البِدَعِ فإنَّه يُلحَقُ بهم... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الريس-: فَيَنبَغِي أنْ نَكونَ أهلَ سُنَّةٍ حقًا، وألَّا نُجالِسَ إلَّا أهلَ السُّنَّةِ، وألَّا نَدخُلَ ولا نَخرُجَ إلَّا معهم، وأنْ نَتَقَصَّدَ مُجالَسَتَهُمْ دُونَ غَيرِهم، فإنَّنا في زَمَنِ غُربةٍ. انتهى باختصار.

 

(3)وقالَ مركزُ الفتوى بموقع إسلام ويب التابع لإدارة الدعوة والإرشاد الديني بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر في هذا الرابط: الفِرْقةُ الناجِيَةُ هُمْ أهلُ السُّنَّةِ والجَمَاعةِ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ ابنُ باز في فتوى له على موقعه في هذا الرابط: النبيُّ صَلَى اللهُ عليه وسَلَّمَ لم يُبَيِّنِ الِفرَقَ، لكنْ يَجْمَعُها أنَّها على خِلَافِ طَرِيقِه صَلَى اللهُ عليه وسَلَّمَ وما شَرَعَ، ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ على خِلَافِ طَرِيقِه عليه الصلاةُ والسلامُ؛ وهذه الفِرَقُ ليس كُلُّها كافرةً، هي مُتَوَعَّدةٌ بالنارِ كُلُّها، لكنَّ فيها الكافِرَ وفيها غيرَ الكافِرِ، فيها مَن بِدعَتُه تَجْعَلُه كافرًا، وفيها مَن بِدعَتُه لا تُرَقِّيه ولا تُوَصِّلُه إلى أنَّه كافرٌ لكنْ يكونُ عاصِيًا. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ ابنُ باز أيضًا في (شرح كتاب فضل الإسلام) على موقعه في هذا الرابط: البِدعةُ أَكْبَرُ مِنَ الكبائرِ لِأنَّها إحداثٌ في الإسلامِ، وتُهْمةٌ للإسلامِ بالنَّقْصِ (فَلِهذا يَبتَدِعُ [أَيِ المُبتَدِعُ] ويَزِيدُ)، أمَّا المَعاصي فهي اتِّباعٌ للهَوَى وطاعةٌ للشيطانِ فهي أسْهَلُ مِنَ البِدعةِ، وصاحِبُها قد يَتُوبُ ويُسارِعُ وقد يَتَّعِظُ، أمَّا صاحِبُ البِدعةِ فيَرَى أنَّه مُصِيبٌ فلا يَتُوبَ، يَرَى أنَّه مُصِيبٌ وأنَّه مُجتَهِدٌ فيَستَمِرَّ في البِدعةِ، نَعوذُ باللهِ، ويَرَى الدِّينَ ناقِصًا وهو في حاجَةٍ إلى بِدْعَتِه، فَلِهذا صارَ أَمْرُ البِدعةِ أَشَدَّ وأخْطَرَ مِنَ المَعصِيَةِ [قالَ ابنُ تيميةَ في (مجموع الفَتَاوَى): قَالَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ {الْبِدْعَةُ أَحَبُّ إلَى إبْلِيسَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، لِأنَّ الْمَعْصِيَةَ يُتَابُ مِنْهَا وَالْبِدْعَةُ لَا يُتَابُ مِنْهَا}. انتهى باختصار. وفي فتوى صَوتِيَّةٍ مَوجُودةٍ على هذا الرابط قالَ الشيخُ محمد بن هادي المدخلي (عضو هيئة التدريس بكلية الحديث الشريف بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة): يقولُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رحمه اللهُ تعالى {لَأنْ يَصْحَبَ اِبْنِي فاسِقًا شاطِرًا [الشاطِرُ هو الذي أَتْعَبَ أَهْلَهُ خُبْثًا وَلُؤْمًا وَشَرًّا] سُنِّيًّا، أَحَبُّ إِلَيَّ مِن أَنْ يَصْحَبَ عابِدًا مُبْتَدِعًا}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المدخلي-: والمَعصِيَةُ أَمْرُها أَخَفُّ مِنَ البِدعةِ فَضْلًا عنِ الشِّركِ}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المدخلي-: ففِسْقُه [يُشِيرُ إلى ما جاءَ في حَدِيثِ سَعِيدِ بْنُ جُبَيْرٍ السَّابِقِ ذِكْرُهُ]، وشَطَارَتُه، ما أخْرَجَتْه مِنَ السُّنَّةِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المدخلي-: ولذلك قالَ أَئمَّةُ السُّنَّةِ في هؤلاء [أَيْ أصحابِ الوَصفِ الذي جاءَ في حَدِيثِ سَعِيدِ بْنُ جُبَيْرٍ السَّابِقِ ذِكْرُهُ] {فُسَّاقُ أَهْلِ السُّنَّةِ}، وهذا الفِسْقُ جانِبٌ في العَمَليَّاتِ لَكِنْ عَقِيدتُه ما هِيَ؟، سُنِّيٌّ، ما خَرَجَ عنِ السُّنَّةِ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ محمد بنُ الأمين الدمشقي في مقالةٍ له بعنوان (الحوار الهادي مع الشيخ القرضاوي) على موقعه في هذا الرابط: اتَّفَقَ أَئمَّةُ السَّلَفِ الصالحِ على أنَّ أَهْلَ البِدَعِ، حتى لو كانوا مِن أهلِ العِلمِ والعِبادةِ والزُّهْدِ، فإنَّهم أَسْوَءُ بِمَرَّاتٍ مِنَ الفُسَّاقِ العُصاةِ. انتهى. وقالَ القرطبيُّ في (الجامع لأحكام القرآن): وَإِذَا ثَبَتَ تَجَنُّبُ أَصْحَابِ الْمَعَاصِي كَمَا بَيَّنَّا فَتَجَنُّبُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالأَهْوَاءِ أَوْلَى. انتهى]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ ابنُ باز-: الثِنْتَانِ وَالسَبْعُونَ فِرْقَةً، كُلَّهم يَجتَمِعون في إجَابَةِ النبيِّ، لأنَّهم مِن أُمَّتِه (مِن أُمَّةِ الإجَابةِ)، أمَّا أُمَّةُ الدَّعوةِ فكثيرون، اليهودُ والنصارَى مِن أُمَّةِ الدَّعوةِ، لا قِيمةَ لهم، مِن أَهْلِ النارِ، لكنَّ هذه الثَّلَاثُ وَالسَّبْعُونَ [هُمُ] الذِين استجابوا، [هُمُ] الذِين زَعَموا أنَّهم مِن أَتْباعِ النبيِّ (زَعَموا أنَّهم أَجابُوا دَعوَتَه)، الناجِي منهم السَّلِيمُ [هُمُ] الفِرْقةُ الناجِيَةُ الذِين تابَعوا النبيَّ صَلَى اللهُ عليه وسَلَّمَ وسارُوا على نَهْجِه، أَمَّا الثِنْتَانِ وَالسَبْعُونَ [فَهُمْ] على دَرَجَاتٍ، مُتَوَعَّدون بالنارِ كُلُّهم، نسألُ اللهَ العافِيَةَ. انتهى باختصار. وقالَ عبدُالعزيز بنُ محمد بن سعود (ثانِي حُكَّامِ الدَّولةِ السُّعودِيَّةِ الأُولَى، وقد تُوُفِّيَ عامَ 1218هـ): وهذه الأُمُّةُ اِفتَرَقَتْ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً، قِيلَ {مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟}، قالَ {مَن كانَ على مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي}، وجَمِيعُ أهلِ البِدَعِ والضَّلالِ مِن هذه الأُمُّةِ يَدَّعُون هذه الدَّعْوَى، كُلُّ طائفةٍ تَزْعُمُ أنها هي الناجِيَةُ، فالخَوارِجُ، والرافِضةُ الذِين حَرَّقَهم عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بالنارِ، وكذلك الجَهْمِيَّةُ والقَدَرِيَّةُ، وأضرابُهم، كُلُّ فِرْقَةٍ مِن هذه الفِرَقِ تَدَّعِي أنَّها هي الناجِيَّةُ، وأنَّهم المُتَمَسِّكون بِكِتابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسولِه صلى الله عليه وسلم. انتهى من (الدُّرَر السَّنِيَّة في الأجوبة النَّجْدِيَّة). وفي فيديو للشيخِ صالح الفوزان (عضوُ هيئةِ كِبار العلماءِ بالدِّيَارِ السعوديةِ، وعضوُ اللجنةِ الدائمةِ للبحوثِ العلميةِ والإفتاءِ) بعُنْوانِ (هَلْ يَجوزُ الحُكمُ على طائفةٍ مُعَيَّنةٍ في هذا الزَّمانِ بِأنَّها مِنَ الفِرَقِ الهالِكةِ؟)، سُئلَ الشيخُ {قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ (وَستَفتَرِقُ هذه الأُمُّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهم فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً)، هَلْ يَجوزُ الحُكمُ على طائفةٍ مُعَيَّنةٍ في هذا الزَّمانِ بِأنَّها مِنَ الفِرَقِ الهالِكةِ؟}، فأجابَ الشيخُ: نَعَمْ، مَن خالَفَ مَذهَبَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ فهو مِنَ الفِرَقِ الهالِكةِ، لا نَجاةَ إلَّا لِأهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، ومَن عَدَاها فهو مُتَوَعَّدٌ بِالنارِ {كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً}، قالوا {مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟}، قالَ {مَن كانَ على مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي}، ولذلك سُمِّيَتِ الفِرقةَ الناجِيَةَ، لِأنَّها نَجَتْ مِن هذا الوَعِيدِ. انتهى. وقالَ الشيخُ ناصر العقل (رئيس قسم العقيدة بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض) في (شرح مجمل أصول أهل السنة) عنِ الفَرْقِ بين المَذاهِبِ والفِرَقِ: في العُمومِ، فإنَّ (الفِرَقَ) غالِبًا ما تُطلَقُ على المُخالِفِين في الأُصولِ والمُسَلَّماتِ والعَقِيدةِ والثَّوابِتِ، و(المَذهَبَ) غالِبًا ما يُطلَقُ على الاختِلافِ في الاجتِهادِيَّاتِ التي لَيسَتْ مَذمومةً، فلذلك تُسَمَّى اِجتِهاداتُ العُلَماءِ في الفِقهِ (مَذاهِبَ)، ومع ذلك فقدِ اِصطَلَحَ المُتَأَخِّرون على تَسمِيَةِ البِدَعِ الناشِئةِ والأفكارِ الحَدِيثةِ التي تُخالِفُ الإسلامِ، اِصطَلَحوا على تَسمِيَتِها (مَذاهِبَ مُعاصِرةً)، وهذا فيه تَجَوُّزٌ، لَكِنْ لا مُشَاحَّةَ فِي الاصْطِلَاحِ، لَكِنْ لا يَقصِدُون بها المَذاهِبَ الاجتِهادِيَّةَ، بَلْ يَقصِدُون بها المَذاهِبَ التي اِنحَرَفَتْ عنِ الحَقِّ في الأفكارِ والمَناهِجِ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ إحسان إلهي ظهير (الأمينُ العامُّ لجمعية أهل الحديث في باكستان) في (التَّصَوُّفُ، المَنْشَأُ وَالمَصَادِرُ): إنَّ أفضَلَ طريقٍ لِلحُكْمِ على طائفةٍ مُعَيَّنةٍ وفِئةٍ خاصَّةٍ مِنَ الناسِ هو الحُكْمُ المَبنِيُّ على آرائها وأفكارها التي نَقَلوها في كُتُبِهم المُعتَمَدةِ والرسائلِ المَوثوقِ بها لديهم، بِذِكْرِ النُّصوصِ والعِباراتِ التي يُبنَى عليها الحُكْمُ ويُؤَسَّسُ عليها الرَّأْيُ، ولَا يُعتَمَدُ على أقوالِ الآخَرِين وَنُقُولِ النَّاقِلِين [المُخالِفِين لهم]، اللَّهُمَّ إلَّا لِلاستِشهادِ على صِحَّةِ اِستِنباطِ الحُكْمِ واستِنتاجِ النَّتِيجةِ؛ وهذه الطريقة، ولو أنَّها طريقةٌ وَعِرةٌ شائكةٌ صَعبةٌ مُستَصعَبةٌ، وَقَلَّ مَن يَختارُها ويَسْلُكُها، ولكنها هي الطريقةُ الصحيحةُ المُستَقِيمةُ التي يَقتَضِيها العَدلُ والإنصافُ [قالَ اِبْنُ الْقَيِّمِ في (مفتاح دار السعادة): وكُلُّ أهلِ نِحلةٍ ومَقالةٍ يَكْسُونَ نِحلَتَهم ومَقالَتَهم أحسَنَ مَا يَقدِرُونَ عَلَيْهِ مِنَ الألفاظِ، وَ[يَكْسُونَ] مَقالةَ مُخالِفِيهم أقبَحَ مَا يَقدِرُونَ عَلَيْهِ مِنَ الألفاظِ، وَمَن رَزَقَه اللهُ بَصِيرَةً فَهُوَ يَكْشِفُ بِهِ حَقِيقَةَ مَا تَحْتَ تِلْكَ الألفاظِ مِنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَلَا تَغْتَرَّ بِاللَّفْظِ، فَإِذا أرَدتَ الاطِّلَاعَ على كُنْهِ الْمَعْنَى هَلْ هُوَ حَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ، فَجَرِّدْه مِن لِبَاسِ الْعِبارَةِ، وجَرِّدْ قَلْبَك عَنِ النَّفْرَةِ والمَيْلِ، ثمَّ اِعْطِ النَّظَرَ حَقَّه نَاظِرا بِعَينِ الإنصافِ، وَلَا تَكُنْ مِمَّن يَنظُرُ فِي مَقَالَةِ أصحابِه وَمَن يُحْسِنُ ظَنَّهُ [بِهِ] نَظَرًا تَامًّا بِكُلِ قَلبِه ثمَّ يَنظُرُ فِي مَقَالَةِ خُصومِه وَمِمَّنْ يُسِيءُ ظَنَّهُ بِهِ كَنَظَرِ الشَّزْرِ والمُلاحَظةِ، فالنَّاظِرُ بِعَينِ الْعَدَاوَةِ يَرَى المَحاسِنَ مَساوِئَ، والناظِرُ بِعَينِ الْمَحَبَّةِ عَكْسُه، وَمَا سَلِمَ مِن هَذَا إلَّا مَن أرادَ اللهُ كَرامَتَه وارتَضاه لِقَبُول الْحَقِّ، وَقَدْ قِيلَ {وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ *** كَمَا أَنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي الْمَسَاوِيَا}، وَقَالَ آخَرُ {نَظَروا بِعَيْنِ عَداوةٍ لَوْ أنَّها *** عَينُ الرِّضَا لَاسْتَحْسَنوا ما اسْتَقْبَحوا}، فَإِذا كَانَ هَذَا فِي نَظَرِ الْعَينِ الَّذِي يُدْرِكُ المَحسوساتِ وَلَا يتَمَكَّن مِنَ المُكابَرةِ فِيهَا، فَمَا الظَّنُّ بِنَظَرِ الْقَلبِ الَّذِي يُدْرِكُ الْمَعَانِيَ الَّتِي هِيَ عُرْضةُ المُكابَرةِ!، واللهُ المُستَعانُ على مَعرِفةِ الحَقِّ وقَبُولِه ورَدِّ الباطِلِ وعَدَمِ الاغتِرارِ به. انتهى باختصار. وقالَ اِبْنُ الْقَيِّمِ أيضًا في (إعلام الموقعين): وَكَمْ مِنْ بَاطِلٍ يُخْرِجُهُ الرَّجُلُ بِحُسْنِ لَفْظِهِ وَتَنْمِيقِهِ وَإِبْرَازِهِ فِي صُورَةِ حَقٍّ؟، وَكَمْ مِنْ حَقٍّ يُخْرِجُهُ بِتَهْجِينِهِ وَسُوءِ تَعْبِيرِهِ فِي صُورَةِ بَاطِلٍ؟، وَمَنْ لَهُ أَدْنَى فِطْنَةٍ وَخِبْرَةٍ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، بَلْ هَذَا أَغْلَبُ أَحْوَالِ النَّاسِ... ثم قالَ -أَيِ اِبْنُ الْقَيِّمِ-: بَلْ مَنْ تَأَمَّلَ الْمَقَالَاتِ الْبَاطِلَةَ وَالْبِدَعَ كُلَّهَا، وَجَدَهَا قَدْ أَخْرَجَهَا أَصْحَابُهَا فِي قَوَالِبَ مُسْتَحْسَنَةٍ وَكَسَوْهَا أَلْفَاظًا يَقْبَلُها بِهَا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَتَهَا... ثم قالَ -أَيِ اِبْنُ الْقَيِّمِ-: وَلَقَدْ رَأَى بَعْضُ الْمُلُوكِ كَأَنَّ أَسْنَانَهُ قَدْ سَقَطَتْ، فَعَبَّرَهَا لَهُ مُعَبِّرٌ بِمَوْتِ أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ، فَأَقْصَاهُ وَطَرَدَهُ، وَاسْتَدْعَى آخَرَ فَقَالَ لَهُ {لَا عَلَيْكَ، تَكُونُ أَطْوَلَ أَهْلِكَ عُمْرًا}، فَأَعْطَاهُ وَأَكْرَمَهُ وَقَرَّبَهُ، فَاسْتَوْفَى [أَيِ المُعَبِّرُ الآخَرُ] الْمَعْنَى وَغَيَّرَ لَهُ الْعِبَارَةَ، وَأَخْرَجَ الْمَعْنَى فِي قَالِبٍ حَسَنٍ. انتهى]. انتهى. وقالَتْ هَيئَةُ التَّحرِيرِ بمركز سلف للبحوث والدراسات (الذي يشرف عليه الشيخ محمد بن إبراهيم السعيدي "رئيس قسم الدراسات الإسلامية بكلية المعلمين بمكة") في مقالةٍ لها بعنوانِ (عَرْضٌ وتَحلِيلٌ لِكِتابِ "السُّعودِيَّةُ والحَربُ على داعش") على هذا الرابط: والخُلاصةُ التي يجبُ أنْ نُراعِيَها في نَقْدِ الأشخاصِ والاتِّجاهات والطَّوائفِ، [هي] الانطِلاقُ في نَقْدِها مِن مَقولاتِها، وفَرْزُ ذلك مِنَ المُمارَساتِ البَشَرِيَّةِ التي هي عُرْضةٌ لِلخَطَأِ والزَّلَلِ والتَّقصِيرِ، فالأصلُ أنْ لا تُحاسَبَ الاتِّجاهاتُ والمذاهبُ بِمُجَرَّدِ مُمارَساتِ أصحابِها، بَلِ الأصلُ مُحاسَبةُ الاتِّجاهاتِ مِمَّا تَتَبَنَّاه مِن رُؤًى وأفكارٍ وتَصَوُّراتٍ، وَلْتَكُنِ المُمارَساتُ البَشَرِيَّةُ قَرِينةً أو أَمَارةً تَحمِلُ الباحِثَ على التفتيشِ عن مُوجِبِ تلك التَّصَرُّفاتِ، فقد تكونُ تلك المُمارَساتُ ناشِئةً حَقًّا عن مَقولاتٍ مُقَرَّرةٍ في المَذهَبِ، وقد لا تكونُ، فَيَكونُ الحُكْمُ تابِعًا لِلمَقولاتِ لا مُجَرَّدِ المُمارَساتِ والتَّصَرُّفاتِ [قالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي في (الإعانة لطالب الإفادة): ولا رَيبَ أنَّ الطائفةَ تُنسَبُ إلى أقوالِ رِجالِها وعُلَمائها. انتهى]. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ أبو الحسن علي الرملي (المشرف على مَعهَدِ الدِّينِ القَيِّم للدروس العلمية والفتاوى الشرعية والتعليم عن بُعْدٍ على منهج أهل الحديث) في (التعليق على الأجوبة المفيدة): إنَّ طَرِيقَ الحَقِّ واحِدٌ، والجَماعةُ الناجِيَةُ عند اللهِ سُبحانَه وتَعالَى والطائفةُ المَنصورةُ هي واحِدةٌ، كَما قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ {لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الحَقِّ} واحِدةٌ؛ هذا أمرٌ ظاهِرٌ لا خَفاءَ فيه، فَمَن أَخَذَ بِأُصولِ هذه الفِرقةِ، هذه الطائفةِ، فهو مِن أهلِها، ومَن خَالفَ أَصلًا واحِدًا مِن هذه الأُصولِ فهو مُبتَدِعٌ ضالٌّ مُخالِفٌ لِهذه الطائفةِ ومُفَرِّقٌ لِجَماعةِ المُسلِمِين، لِأنَّ اللهَ سُبحانَه وتَعالَى أمَرَنا أنْ نَجتَمِعَ على هذا الطَّرِيقِ، لم يَأمُرْنا أنْ نَجتَمِعَ فَقَطْ، لاحِظِ الفَرْقَ بين فَهْمِ كَثِيرٍ مِن عامَّةِ الناسِ وبين ما أرادَه اللهُ سُبحانَه وتَعالَى مِنَ الاجتِماعِ، أرادَ اللهُ مِنَّا أنْ نَجتَمِعَ لَكِنْ على الحَقِّ ليس أَيَّ اِجتِماعٍ، قالَ {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}، وَلَا تَفَرَّقُوا عن ماذا؟، عن حَبْلِ اللَّهِ، تَمَسَّكوا بِحَبْلِ اللَّهِ الذي هو كِتابُه وسُنَّةُ نَبِيِّه صلى الله عليه وسلم، شَرِيعَتُه التي كانَ عليها السَّلَفُ الصالِحُ رَضِيَ اللهُ عنهم، تَمَسَّكوا بها وَلَا تَتَفَرَّقُوا عنها، اِجتَمِعوا عليها، هذا هو الاجتِماعُ المَطلوبُ، أمَّا الاجتِماعُ على الحَقِّ والباطِلِ [مَعًا]، لا، هذا اِجتِماعٌ مَرفوضٌ، وعندما جاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلى قُرَيشٍ كانوا مُجتَمِعِين فَفَرَّقَهم على الحَقِّ، فَرَّقَ بين الحَقِّ والباطِلِ، عُمَرُ سُمِّيَ (الفاروقَ) لِأنَّه فَرَّقَ بين الحَقِّ والباطِلِ، فَالتَّفرِيقُ بين الحَقِّ والباطِلِ مَطلُوبٌ وواجِبٌ شَرعِيٌّ، القرآن سُمِّيَ (فُرقانا) لِأنَّه فَرَّقَ بين الحَقِّ والباطِلِ، التَّفرِيقُ بين الحَقِّ والباطِلِ مَطلُوبٌ، والتَّميِيزُ بين الحَقِّ والباطِلِ وأهلِ الحَقِّ و[أهلِ] الباطِلِ مَطلُوبٌ وواجِبٌ شَرعِيٌّ لِيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ، بِخِلافِ طَريقةِ المُمَيِّعةِ مِمَّن يُحاوِلون جَمْعَ الناسِ سَوَاءٌ كَانَ على الطَّرِيقِ المُستَقِيمِ أو على طُرُقِ الضَّلالِ، نُعوذُ بِاللهِ؛ إذَنِ الواجبُ أنْ يَكونَ الشَّخصُ على مَنهَجِ السَّلَفِ الصالِحِ رَضِيَ اللهُ عنهم وأنْ يَكونَ مع هذه الطائفةِ المَنصورةِ والفِرقةِ الناجِيَةِ على أُصُولهم وعلى طَرِيقِهم، فَمَن خالَفَهم في أصلٍ واحِدٍ فليس هو منهم؛ وأَيُّ جَماعةٍ تَجتَمِعُ على أصلٍ مُخالِفٍ لأُصولِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ فهي فِرقةٌ مِنَ الفِرَقِ الضالَّةِ، لا يَجوزُ لِلمُسلِمِ أنْ يَنتَمِيَ إليها، ومَنِ اِنتَمَى إليها فهو مِن أهلِها ويَأُخُذُ حُكْمَها، إنْ كانَ هذا الأصلُ كُفرِيًّا يَكفُرُ، وإنْ كانَ الأصلُ بِدعِيًّا يُبَدَّعُ ويَكونُ مُبتَدِعًا؛ هَكَذَا الحُكْمُ على الجَماعاتِ وعلى الأفرادِ، نَنظُرُ إلى أُصولِهم، فإنْ وافَقَتْ أُصولَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ كانوا مِن أهلِها، وإنْ خالَفَتْ أُصولَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ لم يكونوا مِن أهلِها حتى ولو في أصلٍ واحِدٍ، القَضِيَّةُ لَيسَتْ قَضِيَّةَ عَدَدٍ (واحِدٍ أو اِثنَيْنِ أو ثَلاثةٍ أو أربَعةٍ) كَما يَقولُ بَعضُ رُؤوسِ الفِرَقِ المُعاصِرِين {لا يَخرُجُ الشَّخصُ مِنَ السَّلَفِيَّةِ حتى يُخالِفَ أصلَين ثَلاثةً أربَعةً} ما أَدْرِي (إلى أَيْنَ يَنتَهِي العَدَدُ معهم!) [قالَ الشَّيخُ يزن الغانم في هذا الرابط: يَجِبُ أنْ نُفَرِّقَ بَيْنَ مَن وَقَعَ في بِدعةٍ أو أَخْطَأَ مِن عُلَماءِ السَّلَفِ -أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ- الذِين يَنطَلِقون في اِستِدلالِهم مِنَ الحَدِيثِ والأثَرِ، وبَيْنَ مَن وَقَعَ في بِدعةٍ مِن أهلِ الأهواءِ والبِدَعِ الذِين يِنطَلِقون مِن أُصولٍ وقَواعِدَ مُبتَدَعةٍ، أو مَنْهَجٍ غَيرِ مَنْهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ. انتهى]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الرملي-: إنْ كانَ أصلُهم هذا دَلَّتْ أدِلَّةُ الشَّرعِ على أنَّه كُفْرٌ فَتَكفُرُ الجَماعةُ ويُحكَمُ عليها بِأنَّها جَماعةٌ كافِرةٌ؛ أمَّا إذا كانَ هذا الأصلُ بِدعةً فَيُحكَمُ على الجَماعة بِأنَّها مُبتَدِعةٌ ومَنِ اِنتَمَى إليهم فإنَّه مُبتَدِعٌ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ الألبانِيُّ في (حَجَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم): يَجِبُ أن يُعلَمَ أنَّ أصغَرَ بِدعةٍ يَأتِي الرَّجُلُ بها في الدِّينِ هي مُحَرَّمةٌ، فليس في البِدَعِ -كما يَتَوَّهَمُ البعضُ- ما هو في رُتبةِ المَكروه فَقَطْ، كيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول {كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ} أَيْ صاحِبِها [قالَ الشيخُ عبدُالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب في (فتح المجيد): وضابِطُها [أي ضابِطُ الكَبِيرةِ] ما قالَه المُحَقِّقون مِنَ العلماءِ {كُلُّ ذَنْبٍ خَتَمَهُ اللَّهُ بِنَارٍ أَوْ لَعْنَةٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ عَذَابٍ}، زادَ شيخُ الإسلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَه اللهُ {أَوْ نَفْيِ الإِيمَانِ}، قُلتُ [والكَلامُ ما زالَ لِصاحِبِ (فتح المجيد)]، ومَن بَرِئَ منه رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أو قالَ [فيه] {لَيْسَ مِنَّا مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا}. انتهى. وقالَ الشيخُ محمد بنُ إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ (رئيس القضاة ومفتى الديار السعودية ت1389هـ): الكَبِيرةُ هي ما تُوِعِّدَ عليه بغَضَبٍ أو لَعْنَةٍ أو رُتِّبَ عليه عِقابٌ في الدُّنيا أو عَذابٌ في الآخِرةِ وهو دُونَ الشِّركِ والكُفرِ. انتهى من (فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم)]، وقد حَقَّقَ هذا أتَمَّ تحقيقٍ الإمامُ الشَّاطِبِيُّ رَحِمَه اللهُ في كِتابِه العَظِيمِ (الاعتصام). انتهى باختصار. وقالَ مركزُ الفتوى بموقع إسلام ويب التابع لإدارة الدعوة والإرشاد الديني بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر في هذا الرابط: فالشِّركُ هو أقبَحُ ذَنبٍ عُصِيَ اللهُ تَعالَى به، ويَلِيه في القُبِحِ البِدعةُ، ثم الكَبيرةُ، ثم تَأتِي بَعْدَ ذلك الصغيرةُ... ثم قالَ -أَيْ مركزُ الفتوى-: جِنْسُ البِدَعِ أخطَرُ مِن جِنْسِ المَعاصِي، ولا يَعنِي ذلك أنَّ كُلَّ بِدعةٍ أكبَرُ مِن كُلِّ كبيرةٍ. انتهى. وقالَ الشيخُ سالم الطويل في مقالة له بعنوان (البِدعةُ أشَدُّ وأغلَظُ مِنَ الكَبائرِ) على موقعه في هذا الرابط: البِدَعُ وإنْ كانَتْ أشَدَّ وأغلَظَ مِنَ الكبائرِ، لَكِنْ لَيسَتْ بِالضَّرورةِ أنْ تَكونَ كُلُّ بِدعةٍ أشَدَّ وأغلَظَ مِن كُلِّ كَبِيرةٍ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الطويل-: وسُئِلَ الشيخُ زيدُ بنُ هادي المدخلي حَفِظَه اللهُ {هَلْ يَصِحُّ أنْ يُقالَ (إنَّ بَعضَ الكَبائرِ أشَدُّ إثمًا مِن بَعضِ البِدَعِ)؟}، فأجابَ وَفَّقَه اللهُ تَعالَى {نَعَمْ، فَقَتْلُ النَّفسِ المُؤمِنةِ أشَدُّ إثمًا مِنَ الذِّكرِ الجَماعِيِّ المُبتَدَعِ}. انتهى باختصار. وقالَ مَوقِعُ (الإسلامُ سؤالٌ وجَوابٌ) الذي يُشْرِفُ عليه الشيخُ محمد صالح المنجد في هذا الرابط: البدع كلها ضلال وصاحبها متوعد بالنار... ثم قالَ -أَيْ مَوقِعُ (الإسلامُ سؤالٌ وجَوابٌ)-: ولا يَشُكُّ مَن له عِلمٌ بِالشَّرِيعةِ وأحوالِ الفِرَقِ أنَّ بِدعةَ الرَّفْضِ المَحضِ أو التَّجَهُّمِ المَحضِ أو نَحوِ ذلك، هي شَرٌّ مِن جَرائمِ أصحابِ الذُّنوبِ كشُرْبِ الخَمْرِ ونَحوِ ذلك؛ كَما لا يَشُكُّ مَن له عَقلٌ ودِينٌ أنَّ كَبائرَ الإثمِ كالزِّنَى والسَّرِقةِ ونحوِ ذلك شَرٌّ مِن كَثِيرٍ مِن بِدَعِ الأعمالِ كالاحتِفالِ بِالمَوْلِدِ أو الذِّكرِ الجَماعِيِّ ونَحوِ ذلك. انتهى.

 

(4)وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى الْمَقْبُرَةَ، فَقَالَ {السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا}، قَالُوا {أَوَ لَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟}، قَالَ {أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ}، فَقَالُوا {كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟}، فَقَالَ {أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ [أَيْ لَهُ خَيْلٌ في جِبَاهِها وقَوَائمِها بَيَاضٌ، فِي وَسَطِ خَيْلٍ سُودٍ سَوَادًا كامِلًا لا بَيَاضَ في لَوْنِها]، أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟}، قَالُوا {بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ}، قَالَ {فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ [أَيْ أَتَقَدَّمُهُمْ] عَلَى الْحَوْضِ، أَلَا لَيُذَادَنَّ [أَيْ لَيُطْرَدَنَّ] رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ (أَلَا هَلُمَّ)، فَيُقَالُ (إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ)، فَأَقُولُ (سُحْقًا سُحْقًا)}. انتهى. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {بَيْنَا أَنَا قَائِمٌ إِذَا زُمْرَةٌ [أَيْ جَمَاعَةٌ] حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ فَقَالَ (هَلُمَّ)، فَقُلْتُ (أَيْنَ)، قَالَ (إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ)، قُلْتُ (وَمَا شَأْنُهُمْ)، قَالَ (إِنَّهُمُ اِرْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِمُ الْقَهْقَرَى)، ثُمَّ إِذَا زُمْرَةٌ حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ فَقَالَ (هَلُمَّ)، قُلْتُ (أَيْنَ)، قَالَ (إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ)، قُلْتُ (مَا شَأْنُهُمْ)، قَالَ (إِنَّهُمُ اِرْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِمُ الْقَهْقَرَى)، فَلَا أُرَاهُ يَخْلُصُ مِنْهُمْ إِلَّا مِثْلُ هَمَلِ النَّعَمِ}. انتهى. وقَالَ أبو العباس القُرْطُبي (ت656هـ) في (الْمُفْهِمُ لِمَا أَشْكَلَ مِنْ تَلْخِيصِ كِتَابِ مُسْلِمٍ): قَوْلِهِ {كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ}، وَجْهُ التَّشْبِيهِ أَنَّ أَصْحَابَ الإِبِلِ إِذَا وَرَدُوا الْمِيَاهَ بِإِبِلِهِمُ ازْدَحَمَتِ الإِبِلُ عِنْدَ الْوُرُودِ، فَيَكُونُ فِيهَا الضَّالُّ وَالْغَرِيبُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ الإِبِلِ يَدْفَعُهُ عَنْ إِبِلِهِ حَتَّى تَشْرَبَ إِبِلُهُ، فَيَكْثُرُ ضَارِبُوهُ وَدَافِعُوهُ، حَتَّى لَقَدْ صَارَ هَذَا مَثَلًا شَائِعًا، قَالَ الْحَجَّاجُ لِأهْلِ الْعِرَاقِ {وَلَأضْرِبَنَّكُمْ ضَرْبَ غَرَائِبِ الإِبِلِ}. انتهى باختصار. وقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي (فَتْحُ الباري): قَالَ النَّوَوِيُّ [في (شرح صحيح مسلم)] {قِيلَ (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُرْتَدُّونَ، يَجُوزُ أَنْ يُحْشَرُوا بِالْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ لِكَوْنِهِمْ مِنْ جُمْلَةِ الأُمَّةِ [أَيْ أُمَّةِ الإجَابَةِ]، فَيُنَادِيهِمْ [أَيِّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم] مِنْ أَجْلِ السِّيمَا الَّتِي عَلَيْهِمْ، فَيُقَالُ "إِنَّهُمْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ")}. انتهى باختصار. وقالَ ابنُ المُلَقِّن (ت804هـ) في (التوضيح لشرح الجامع الصحيح): الْغُرَّةُ بَيَاضٌ فِي جَبْهَةِ الْفَرَسِ، وَالتَّحْجِيلُ بَيَاضٌ فِي يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا، فَسُمِّيَ النُّورُ الَّذِي يَكُونُ فِي مَوَاضِعَ الْوُضُوءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غَرًّا وَتَحْجِيلًا، تَشْبِيهًا بِذَلِكَ. انتهى. وقالَ الشَّاطِبِيُّ في (الاعتصام): وَالأَظْهَرُ أَنَّهُمْ [أَيِ الْمَطْرُودِينَ عَنِ الْحَوْضِ] مِنَ الدَّاخِلِينَ فِي غِمَارِ هَذِهِ الأُمَّةِ [أَيْ أُمَّةِ الإجَابَةِ]... ثم قالَ -أَيِ الشَّاطِبِيُّ-: قَوْلِهِ {قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ} أَقْرَبُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ تَبْدِيلُ السُّنَّةِ، وَهُوَ وَاقِعٌ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ. انتهى باختصار. وقالَ بدرُ الدين العيني (ت855هـ) في (عمدة القاري شرح صحيح البخاري): قَالَ أَبُو عُمَرَ [في (الاستذكار)] {كُلُّ مَنْ أَحْدَثَ فِي الدِّينِ فَهُوَ مِنَ الْمَطْرُودِينَ عَنِ الْحَوْضِ، كَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَسَائِرِ أَصْحَابِ الأَهْوَاءِ، وَكَذَلِكَ الظَّلَمَةُ الْمُسْرِفُونَ فِي الْجَوْرِ وَطَمْسِ الْحَقِّ وَالْمُعْلِنُونَ بِالْكَبَائِرِ}... ثم قالَ -أَيِ العيني-: قَوْلُهُ {بَيْنَا أَنَا قَائِمٌ} الْمُرَادَ هُوَ قِيَامُهُ عَلَى الْحَوْضِ... ثم قالَ -أَيِ العيني-: قَوْلُهُ {فَلَا أُرَاهُ} أَيْ فَلَا أَظُنُّ أَمْرَهُمْ أَنَّهُ يَخْلُصُ مِنْهُمْ إِلَّا مِثْلُ هَمَلِ النَّعَمِ، وَهُوَ مَا يُتْرَكُ مُهْمَلًا لَا يُتَعَهَّدُ وَلَا يُرْعَى حَتَّى يَضِيعَ وَيَهْلَكَ، أَيْ لَا يَخْلُصُ مِنْهُمْ مَنِ النَّارِ إِلَّا قَلِيلٌ. انتهى باختصار. وقالَتْ حنان بنت علي اليماني في (إعلام الأنام بشرح كتاب فضل الإسلام، بتقريظ الشيخُ صالح الفوزان): قالَ [أَيِّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم] {فَلَا أُرَاهُ يَخْلُصُ مِنْهُمْ إِلَّا مِثْلُ هَمَلِ النَّعَمِ}، والمَعْنَى، فلا أَظُنُّ أنْ يَرِدَ على الحَوضِ إلَّا مِثْلُ هَمَلِ النَّعَمِ، يَعْنِي أنَّهم عَدَدٌ قليلٌ، لأنَّ الإبِلَ المُهمَلةَ بالنِّسبةِ إلى الْمَرْعِيَّةِ قَلِيلةٌ جِدًّا. انتهى باختصار. وقَالَ النَّوَوِيُّ في (شرح صحيح مسلم): قِيلَ، هَؤُلَاءِ [أَيِ الْمَطْرُودون عَنِ الْحَوْضِ] صِنْفَانِ؛ أَحَدُهُمَا عُصَاةٌ مُرْتَدُّونَ عَنِ الاسْتِقَامَةِ لَا عَنِ الإِسْلَامِ (وَهَؤُلَاءِ مُبَدِّلُونَ لِلأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِالسَّيِّئَةِ)؛ وَالثَّانِي مُرْتَدُّونَ إِلَى الْكُفْرِ حَقِيقَةً نَاكِصُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ؛ وَاسْمُ التَّبْدِيلِ يَشْمَلُ الصِّنْفَيْنِ. انتهى. وقالَ الشيخُ ابنُ جبرين (عضو الإفتاء بالرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء) في (شرح العقيدة الطَّحَاوِيَّةِ): ولا شَكَّ أنَّ الذِين يَرِدُون عليه هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ والجماعةِ، أَهْلُ الاتِّباعِ لا أَهْلُ الابْتِداعِ، ولِأجْلِ ذلك يُرَدُّ المُبتَدِعةُ والمُرتَدُّون، الذِين أَحدَثوا. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ ربيع المدخلي (رئيسُ قسمِ السُّنَّةِ بالدراسات العليا في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة) في مقالة بعنوان (وُجوب الاتِّباعِ والتَّحذِير مِن مظاهرِ الشِّركِ والابتِداعِ) على موقعه في هذا الرابط: إنَّ الفِرَقَ الضَّالَّةَ التي أَخْبَرَ عنها رسولُ اللهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، وأنَّها كُلَّها في النَّارِ إلَّا ما كان عليه رسولُ اللهِ وأصْحابُه، هذه الفِرَقُ بَدَأَتْ مِن آواخرِ عَصْرِ الصَّحابةِ، ثم اِنْتَشَرَتْ وتَفَشَّتْ في المُجتَمَعاتِ الإسلامِيَّةِ، حتَّى صارَ أكثَرُ المسلمِين لا يَخرُجون عن هذه الفِرَقِ، وقَلَّ مَن هو على ما كان عليه رَسولُ اللهِ وأصحابُه وَهُمُ الطَّائفةُ النَّاجِيَةُ والمنصورةُ. انتهى. وقالَ الشيخُ إيهاب شاهين (عضو مجلس شورى الدعوة السلفية) في مقالة له بعنوان (شَعرةٌ بَيْضَاءُ في جَسَدِ ثَوْرٍ أَسْوَدَ) على هذا الرابط: عند التَّأَمُّلِ في الواقعِ مِن حَوْلِنا، يَرَى الناظِرُ أنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ، مَثَلُهم كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جَسَدِ الثَّوْرِ الأَسْوَدِ، وإنْ كانتْ هذه الشَّعرةُ بالمُقارَنةِ لِلْكَمِّ الهائلِ مِن شَعْرِ الثَّوْرِ هي شَعرةً واحِدةً، ولكنَّها شَعرةٌ بَيْضَاءُ وَحِيدةٌ مُضِيئةٌ وَسَطِ الظَّلامِ الحالِكِ في جَسَدِ الثَّوْرِ[قالَ الشيخُ محمد بن عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب: ومَن تَأَمَّلَ القُرآنَ والسُّنَّةَ وكَلامَ مُحَقِّقِي سَلَفِ الأُمَّةِ، عَلِمَ يَقِينًا أنَّ أكثَرَ الخَلقِ إلَّا مَن شاءَ اللهُ، قَدْ أعرَضوا عن واضِحِ الْمَحَجَّةِ [الْمَحَجَّةُ هي جَادَّةُ الطَّرِيقِ (أَيْ وَسَطُهَا)، والمُرادُ بها الطَّرِيقُ المُستَقِيمُ]، وسَلَكُوا طَرِيقَ الباطِلِ ونَهْجِه، وجَعَلوا مُصاحَبةَ عُبَّادِ القُبورِ وأهلِ البِدَعِ والفُجورِ دِينًا يَدِينُون به، وخُلُقًا حَسَنًا يَتَخَلَّقُون به، ويَقولون {فُلَانٌ له عَقْلٌ مَعِيشِيٌّ، يَعِيشُ به مع الناسِ}، ومَن كانَتْ له غَيْرَةٌ -وَلَوْ قَلَّتْ- فهو عندهم مَرْفوضٌ ومَنْبُوذٌ، فَما أَعْظَمَها مِن بَلِيَّةٍ! وما أَصْعَبَها مِن رَزِيَّةٍ!، وأَمَّا حَقِيقةُ دَعوةِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم وما جاءَ به مِنَ الهُدَى والنُّورِ، فعَزِيزٌ -واللهِ- مَن يَعْرِفُها أو يَدْرِيها، والعارِفُ لها مِنَ الناسِ اليَومَ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الجِلْدِ الأَسْوَدِ وكَالْكِبْرِيتِ الأَحْمَرِ [يَعْنِي أنَّه يَنْدُرُ وُجُودُ هذا العارِفِ اليَومَ]، لم يَبْقَ إلَّا رُسُومٌ [أَيْ آثارٌ] قَدْ دَرَسَتْ [أَيْ بَلِيَتْ]، وأعلامٌ قَدْ عَفَتْ [أَيِ اِنْمَحَتْ] وسَفَتْ [أَيْ نَثَرَتِ التُّرَابَ] عليها عَواصِفُ الهَوَى وطَمَسَتْها مَحَبُّةُ الدُّنْيَا والحُظوظُ النَّفسانِيَّةُ، فَمَن فَتَحَ اللهُ عَيْنَ بَصِيرَتِه وَرَزَقَه مَعرِفةً لِلحَقِّ وتَمَيُّزًا له فَلْيَنْجُ بِنَفسِه وَلْيَشُحَّ بِدِينِه [أَيْ وَلْيَحْرِصْ على دِينِه] ويَتَباعَدْ عَمَّن نَكَبَ عنِ الصِّراطِ المُستَقِيمِ وآثَرَ عليه مُوالاةَ أهلِ الجَحِيمِ، نَسأَلُ اللهَ السَّلامةَ والعافِيَةَ. انتهى باختصار من (الدُّرَر السَّنِيَّة في الأجوبة النَّجْدِيَّة). وقالَ الشيخُ حمود التويجري (الذي تولَّى القضاءَ في بلدة رحيمة بالمنطقة الشرقية، ثم في بلدة الزلفي، وكان الشيخُ ابنُ باز مُحِبًّا له، قارئًا لكُتُبه، وقَدَّمَ لبعضِها، وبَكَى عليه عندما تُوُفِّيَ -عامَ 1413هـ- وأَمَّ المُصَلِّين للصلاة عليه) في كتابه (غربة الإسلام): وأمَّا الغُرَباءُ فَهُمْ أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ، وَهُمُ الطائفةُ المَنصورةُ، والفِرقةُ الناجِيَةُ مِن ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّها تَنتَسِبُ إلى الإسلامِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ التويجري-: فالفِرقةُ الناجِيَةُ بين جَمِيعِ المُنتَسِبِين إلى الإسلامِ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الجِلْدِ الأَسْوَدِ، فهم غُرَباءُ بين المُنتَسِبِين إلى الإسلامِ، فَضلًا عن أعداءِ الإسلامِ مِن سائرِ الأُمَمِ. انتهى]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ إيهاب-: أَهْلُ السُّنَّةِ غُرَبَاءُ، كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جَسَدِ الثَّوْرِ الأَسْوَدِ. انتهى باختصار.

 

(5)وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {نَارُكُمْ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ}، قِيلَ {يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً}، قَالَ {فُضِّلَتْ عَلَيْهِنَّ بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا}. انتهى. وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مَنْ لَهُ نَعْلَانِ وَشِرَاكَانِ [النَّعْلُ هُوَ الْحِذَاءُ، والشِّرَاكُ هُوَ السَّيْرُ الَّذِي يَكُونُ فِي النَّعْلِ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ] مِنْ نَارٍ، يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ [وهو إنَاءٌ يُغْلَى فيه الماءُ]، مَا يَرَى أَنَّ أَحَدًا أَشَدُّ مِنْهُ عَذَابًا، وَإِنَّهُ لَأهْوَنُهُمْ عَذَابًا}. انتهى. وقالَ الشيخُ حمود التويجري (الذي تَوَلَّى القَضاءَ في بَلدةِ رحيمة بالمِنطَقةِ الشَّرقِيَّةِ، ثم في بَلدةِ الزلفي، وكانَ الشيخُ ابنُ باز مُحِبًّا له، قارئًا لكُتُبه، وقَدَّمَ لِبَعضِها، وبَكَى عليه عندما تُوُفِّيَ -عامَ 1413هـ- وأَمَّ المُصَلِّين لِلصَّلاةِ عليه) في كِتَابِه (غُربةُ الإسلامِ، بِتَقدِيمِ الشَّيخِ عبدِالكريم بن حمود التويجري): وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ {يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ...} فَذُكِرَ الحَدِيثُ وفيه {حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ بِرَحْمَتِهِ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَرْحَمَهُ مِمَّنْ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَيَعْرِفُونَهُمْ فِي النَّارِ بِأَثَرِ السُّجُودِ، تَأْكُلُ النَّارُ اِبْنَ آدَمَ إِلَّا أَثَرَ السُّجُودِ، حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ، فَيُخْرَجُونَ مِنَ النَّارِ قَدِ امْتَحَشُوا [قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي (فَتْحُ الباري): {قَدِ اُمْتُحِشُوا}، وَفِي حَدِيثٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّهُمْ {يَصِيرُونَ فَحْمًا}، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ {حِمَمًا}، وَمَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ. انتهى باختصار. وقالَ بدرُ الدين العيني (ت855هـ) في (عمدة القاري شرح صحيح البخاري): قَوْلُه {قَدِ اُمْتُحِشُوا} مَعْنَاهُ (اِحتَرَقوا)، وَفِي بَعضِ الرِّوَايَاتِ {صَارُوا حِمَمًا}، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ {(اُمْتُحِشُوا) اِنقَبَضوا واسْوَدُّوا}. انتهى باختصار]، فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ تَحْتَهُ كَمَا تَنْبُتُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ [قَالَ السِّنْدِيُّ (ت1138هـ) فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ: أَيْ فِيمَا يَحْمِلُهُ السَّيْلُ وَيَجِيءُ بِهِ مِنْ طِينٍ وَغَيْرِهِ. انتهى]} الحَدِيثَ. انتهى. وَرَوَى النَّسَائِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى -وحَسَّنَه مُقْبِل الوادِعي في (الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحَين)- أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِنَّ نَاسًا مِنْ أُمَّتِي يُعَذَّبُونَ بِذُنُوبِهِمْ، فَيَكُونُونَ فِي النَّارِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونُوا، ثُمَّ يُعَيِّرُهُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ فَيَقُولُونَ لَهُمْ (مَا نَرَى مَا كُنْتُمْ تُخَالِفُونَا فِيهِ مِنْ تَصْدِيقِكُمْ وَإِيْمَانِكُمْ نَفَعَكُمْ)، لِمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُرِيَ أَهْلَ الشِّرْكِ مِنَ الْحَسْرَةِ، فَمَا يَبْقَى مُوَحِدٌ إِلَّا أَخْرَجَهُ اللَّهُ}، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الآيَةَ {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}. انتهى. وقالَ مركزُ الفتوى بموقع إسلام ويب التابع لإدارة الدعوة والإرشاد الديني بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر في هذا الرابط: فَاليَوْمُ في جَهَنَّمَ مِقْدَارُهُ أَلْفُ سَنَةٍ مِن أَيَّامِ الدُّنْيَا. انتهى. قلتُ: والآنَ يا عبدَاللهِ، بَعْدَما عَرَفْتَ أَنَّ اليَوْمَ في جَهَنَّمَ مِقْدَارُهُ أَلْفُ سَنَةٍ مِن أَيَّامِ الدُّنْيَا؛ وأَنَّ مِن أُمَّةِ الإجَابَةِ مَن يُعَذَّبُونَ بِذُنُوبِهِمْ، فَيَكُونُونَ فِي النَّارِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونُوا؛ وأَنَّ أُمَّةَ الإجَابَةِ لا يَنْجُو منها إلَّا فِرْقةٌ واحدةٌ مِن بَيْنِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً؛ وأَنَّ الذِين يَرِدُون عَلَى الْحَوْضِ مِن أُمَّةِ الإجَابَةِ عَدَدٌ قليلٌ جِدَّا بالنِّسبةِ إلى الْمَطْرُودِينَ عَنِ الْحَوْضِ؛ وأَنَّ الفِرْقةَ الناجِيَةَ والذِين يَرِدُون عَلَى الْحَوْضِ هُمْ أهلُ السُّنَّةِ والجَمَاعةِ؛ بَعْدَما عَرَفْتَ ذلك كُلَّه، فإنَّك تَكُونُ قد عَرَفْتَ أنَّه يَتَوَجَّبُ عليك أَلَّا يكونَ أَكْبَرُ هَمِّكَ مُجَرَّدَ تحقيقِ أَصْلِ الإيمانِ وتَجَنُّبِ الكبائرِ، بَلْ لا بُدَّ مع ذلك مِن تَحقِيقِك عقيدةَ أهلِ السُّنَّةِ والجَمَاعةِ.

 

(6)وقالَ ابنُ القيم في (مدارج السالكين): غُرْبَةُ أَهْلِ اللَّهِ وَأَهْلِ سُنَّةِ رَسُولِهِ بَيْنَ هَذَا الْخَلْقِ، هِيَ الْغُرْبَةُ الَّتِي مَدَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَهَا، وَأَخْبَرَ عَنِ الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ أَنَّهُ بَدَأَ غَرِيبًا وَأَنَّهُ سَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ وَأَنَّ أَهْلَهُ يَصِيرُونَ غُرَبَاءَ... ثم قالَ -أَيِ ابنُ القيم-: وَأَهْلُ هَذِهِ الْغُرْبَةِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ حَقًّا، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَأْوُوا إِلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَلَمْ يَنْتَسِبُوا إِلَى غَيْرِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَدْعُوا إِلَى غَيْرِ مَا جَاءَ بِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ فَارَقُوا النَّاسَ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهِمْ، فَهَذِهِ الْغُرْبَةُ لَا وَحْشَةَ عَلَى صَاحِبِهَا، فَوَلِيُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا، وَإِنْ عَادَاهُ أَكْثَرُ النَّاسِ وَجَفَوْهُ؛ وَمِنْ صِفَاتِ هَؤُلَاءِ الْغُرَبَاءِ التَّمَسُّكُ بِالسُّنَّةِ (إِذَا رَغِبَ عَنْهَا النَّاسُ)، وَتَرْكُ مَا أَحْدَثُوهُ (وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ)، وَتَجْرِيدُ التَّوْحِيدِ (وَإِنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَكْثَرُ النَّاسِ)، وَتَرْكُ الانْتِسَابِ إِلَى أَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، لَا شَيْخَ وَلَا طَرِيقَةَ وَلَا مَذْهَبَ وَلَا طَائِفَةَ، بَلْ هَؤُلَاءِ الْغُرَبَاءُ مُنْتَسِبُونَ إِلَى اللَّهِ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ وَحْدَهُ، وَإِلَى رَسُولِهِ بِالاتِّبَاعِ لِمَا جَاءَ بِهِ وَحْدَهُ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْقَابِضُونَ عَلَى الْجَمْرِ حَقًّا، وَأَكْثَرُ النَّاسِ -بَلْ كُلُّهُمْ- لَائِمٌ لَهُمْ؛ فَلِغُرْبَتِهِمْ بَيْنَ هَذَا الْخَلْقِ يَعُدُّونَهُمْ أَهْلَ شُذُوذٍ وَبِدْعَةٍ وَمُفَارَقَةٍ لِلسَّوَادِ الأَعْظَمِ؛ وَمَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {هُمُ النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ} أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ رَسُولَهُ وَأَهْلُ الأَرْضِ عَلَى أَدْيَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَهُمْ [أَيْ أَهْلُ الأَرْضِ] بَيْنَ عُبَّادِ أَوْثَانٍ وَنِيرَانٍ، وَعُبَّادِ صُوَرٍ وَصُلْبَانٍ، وَيَهُودٍ وَصَابِئَةٍ وَفَلَاسِفَةٍ، وَكَانَ الإِسْلَامُ فِي أَوَّلِ ظُهُورِهِ غَرِيبًا، وَكَانَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ وَاسْتَجَابَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ غَرِيبًا فِي حَيِّهِ وَقَبِيلَتِهِ وَأَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ، فَكَانَ الْمُسْتَجِيبُونَ لِدَعْوَةِ الإِسْلَامِ نُزَّاعًا مِنَ الْقَبَائِلِ، تَغَرَّبُوا عَنْ قَبَائِلِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ وَدَخَلُوا فِي الإِسْلَامِ فَكَانُوا هُمُ الْغُرَبَاءُ حَقًّا، حَتَّى ظَهَرَ الإِسْلَامُ وَانْتَشَرَتْ دَعْوَتُهُ وَدَخَلَ النَّاسُ فِيهِ أَفْوَاجًا، فَزَالَتْ تِلْكَ الْغُرْبَةُ عَنْهُمْ، ثُمَّ أَخَذَ [أَيِ الإِسْلَامُ] فِي الاغْتِرَابِ وَالتَّرَحُّلِ حَتَّى عَادَ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، بَلِ الإِسْلَامُ الْحَقُّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ هُوَ الْيَوْمَ أَشَدُّ غُرْبَةً مِنْهُ فِي أَوَّلِ ظُهُورِهِ، وَإِنْ كَانَتْ أَعْلَامُهُ وَرُسُومُهُ الظَّاهِرَةُ مَشْهُورَةٌ مَعْرُوفَةٌ، فَالإِسْلَامُ الْحَقِيقِيُّ غَرِيبٌ جِدًّا، وَأَهْلُهُ غُرَبَاءُ أَشَدُّ الْغُرْبَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَكَيْفَ لَا تَكُونُ فِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ قَلِيلَةٌ جِدًّا غَرِيبَةً بَيْنَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ذَاتَ أَتْبَاعٍ وَرِئَاسَاتٍ وَمَنَاصِبَ وَوِلَايَاتٍ؟، كَيْفَ لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ السَّائِرُ إِلَى اللَّهِ عَلَى طَرِيقِ الْمُتَابَعَةِ غَرِيبًا بَيْنَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَدِ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَأَطَاعُوا شُحَّهُمْ وَأُعْجِبَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِرَأْيِهِ؟... ثم قالَ -أَيِ ابنُ القيم-: وَلِهَذَا جُعِلَ لِلْمُسْلِمِ الصَّادِقِ فِي هَذَا الْوَقْتِ إِذَا تَمَسَّكَ بِدِينِهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ {سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ، لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)، فَقَالَ (بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحَّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكِ وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ)، قُلْتُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟)، قَالَ (أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ)}، وَهَذَا الأَجْرُ الْعَظِيمُ إِنَّمَا هُوَ لِغُرْبَتِهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَالتَّمَسُّكِ بِالسُّنَّةِ بَيْنَ ظُلُمَاتِ أَهْوَائِهِمْ وَآرَائِهِمْ؛ فَإِذَا أَرَادَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي قَدْ رَزَقَهُ اللَّهُ بَصِيرَةً فِي دِينِهِ، وَفِقْهًا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَفَهْمًا فِي كِتَابِهِ، وَأَرَاهُ مَا النَّاسُ فِيهِ مِنَ الأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ وَتَنَكُّبِهِمْ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْلُكَ هَذَا الصِّرَاطَ فَلْيُوَطِّنْ نَفْسَهُ عَلَى قَدْحِ الْجُهَّالِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ فِيهِ، وَطَعْنِهِمْ عَلَيْهِ، وَإِزْرَائِهِمْ بِهِ، وَتَنْفِيرِ النَّاسِ عَنْهُ، وَتَحْذِيرِهِمْ مِنْهُ، كَمَا كَانَ سَلَفُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ يَفْعَلُونَ مَعَ مَتْبُوعِهِ وَإِمَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا إِنْ دَعَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَقَدَحَ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ، فَهُنَالِكَ تَقُومُ قِيَامَتُهُمْ وَيَبْغُونَ لَهُ الْغَوَائِلَ وَيَنْصِبُونَ لَهُ الْحَبَائِلَ وَيَجْلِبُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلِ كَبِيرِهِمْ وَرَجِلِهِ، فَهُوَ غَرِيبٌ فِي دِينِهِ لِفَسَادِ أَدْيَانِهِمْ، غَرِيبٌ فِي تَمَسُّكِهِ بِالسُّنَّةِ لِتَمَسُّكِهِمْ بِالْبِدَعِ، غَرِيبٌ فِي اعْتِقَادِهِ لِفَسَادِ عَقَائِدِهِمْ، غَرِيبٌ فِي صِلَاتِهِ لِسُوءِ صِلَاتِهِمْ، غَرِيبٌ فِي طَرِيقِهِ لِضَلَالِ وَفَسَادِ طُرُقِهِمْ، غَرِيبٌ فِي نِسْبَتِهِ لِمُخَالَفَةِ نَسَبِهِمْ، غَرِيبٌ فِي مُعَاشَرَتِهِ لَهُمْ لِأنَّهُ يُعَاشِرُهُمْ عَلَى مَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ غَرِيبٌ فِي أُمُورِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، لَا يَجِدُ مِنَ الْعَامَّةِ مُسَاعِدًا وَلَا مُعِينًا، فَهُوَ عَالِمٌ بَيْنَ جُهَّالٍ، صَاحِبُ سُنَّةٍ بَيْنَ أَهْلِ بِدَعٍ، دَاعٍ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَيْنَ دُعَاةٍ إِلَى الأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، آمِرٌ بِالْمَعْرُوفِ نَاهٍ عَنِ الْمُنْكَرِ بَيْنَ قَوْمٍ الْمَعْرُوفُ لَدَيْهِمْ مُنْكَرٌ وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفٌ. انتهى باختصار. وقالَ الآجُرِّيُّ (ت360هـ) في كتابِه (الغرباء): مَن أَحَبَّ أنْ يَبلُغَ مَراتِبَ الغُرَباءِ فَلْيَصْبِرْ على جَفَاءِ أَبَوَيه وزَوجَتِه وإخوانِه وقَرابَتِه، فإنْ قالَ قائلٌ {فَلِمَ يَجْفُوني؟}، قِيلَ، لأنَّك خالَفْتَهم على ما هُمْ عليه مِن حُبِّهم الدُّنْيا وشِدَّةِ حِرصِهم عليها، ولِتَمَكُّنِ الشَّهَواتِ مِن قُلوبِهم ما يُبالُون ما نَقَصَ مِن دِينِك ودِينِهم إذا سَلِمَتْ لهم بك دُنْياهُمْ، فإنْ تابَعْتَهم على ذلك كُنتَ الحَبِيبَ القَرِيبِ، وإنْ خالَفْتَهم وسَلَكْتَ طريقَ أَهْلِ الآخرةِ باستعمالِك الحَقَّ جَفَا عليهم أَمْرُك، فالأَبَوان مُتَبَرِّمان بِفِعَالِكَ، والزَّوجةُ بك مُتَضَجِّرةٌ فهي تُحِبُّ فِرَاقَك، والإخوانُ والقَرَابةُ قد زَهِدوا في لِقائِك، فأنتَ بينهم مَكرُوبٌ مَحزُونٌ، فحينئذٍ نَظَرْتَ إلى نفسِك بعَينِ الغُرْبةِ فَأَنِسْتَ ما شاكَلَك مِنَ الغُرَباءِ واستَوحَشتَ مِنَ الإخوانِ والأَقْرِباءِ، فَسَلَكْتَ الطَّرِيقَ إلى اللهِ الكريمِ وَحْدَكَ، فإنْ صَبَرْتَ على خُشونةِ الطَّرِيقِ أَيَّامًا يَسِيرةٍ، واحتَمَلْتَ الذُّلَّ والمُدَاراةَ مُدَّةً قَصِيرةً، وزَهِدتَ في هذه الدارِ الحَقِيرةِ، أَعْقَبَك الصَّبْرُ أنْ وَرَدَ بك إلى دارِ العافِيَةِ، أَرضُها طَيِّبةٌ ورِيَاضُها خَضِرَةٌ وأشجارُها مُثمِرةٌ وأنهارُها عَذْبةٌ، فِيهَا مَا تَشْتَهِي الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وأَهْلُها فِيهَا مُّخَلَّدُونَ، {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ، خِتَامُهُ مِسْكٌ، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ، وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ، عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ}، يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ، وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ، وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ، وَحُورٌ عِينٌ، كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ، جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}... ثم قالَ -أَيِ الآجُرِّيُّ-: أَغْرَبُ الْغُرَبَاءِ فِي وَقْتِنَا هَذَا مَنْ أَخَذَ بِالسُّنَنِ وَصَبَرَ عَلَيْهَا، وَحَذِرَ الْبِدَعَ وَصَبَرَ عَنْهَا، وَاتَّبَعَ آثَارَ مَنْ سَلَفَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَرَفَ زَمَانَهُ وَشِدَّةَ فَسَادِهِ وَفَسَادَ أَهْلِهِ، فَاشْتَغْلَ بِإِصْلَاحِ شَأْنِ نَفْسِهِ مِنْ حِفْظِ جَوَارِحِهِ، وَتَرْكِ الْخَوْضِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، وَعَمِلَ فِي إِصْلَاحِ كَسْرَتِهِ، وَكَانَ طَلَبُهُ مِنَ الدُّنْيَا مَا فِيهِ كِفَايَتُهُ وَتَرْكُ الْفَضْلِ الَّذِي يُطْغِيهِ، وَدَارَى أَهْلَ زَمَانِهِ وَلَمْ يُدَاهِنُهُمْ، وَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ، فَهَذَا غَرِيبٌ وَقَلَّ مَنْ يَأْنَسُ إِلَيْهِ مِنَ الْعَشِيرَةِ وَالإِخْوَانِ، وَلَا يَضُرَّهُ ذَلِكَ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ {افْرُقْ لَنَا بَيْنَ الْمُدَارَاةِ وَالْمُدَاهَنَةِ}، قِيلَ لَهُ، الْمُدَارَاةُ يُثَابُ عَلَيْهَا الْعَاقِلُ، وَيَكُونُ مَحْمُودًا بِهَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعِنْدَ مَنْ عَقَلَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الَّذِي يُدَارِي جَمِيعَ النَّاسِ الَّذِينَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُمْ وَمِنْ مُعَاشَرَتِهِمْ، لَا يُبَالِي مَا نَقَصَ مِنْ دُنْيَاهُ وَمَا انْتُهِكَ بِهِ مِنْ عِرْضِهِ، بَعْدَ أَنْ سَلِمَ لَهُ دِينُهُ، فَهَذَا رَجُلٌ كَرِيمٌ غَرِيبٌ فِي زَمَانِهِ؛ وَ[أَمَّا] الْمُدَاهَنَةُ فَهُوَ الَّذِي لَا يُبَالِي مَا نَقَصَ مِنْ دِينِهِ إِذَا سَلِمَتْ لَهُ دُنْيَاهُ، قَدْ هَانَ عَلَيْهِ ذَهَابُ دِينِهِ، بَعْدَ أَنْ تَسْلَمَ لَهُ دُنْيَاهُ، فَهَذَا فِعْلُ مَغْرُورٍ، فَإِذَا عَارَضَهُ الْعَاقِلُ فَقَالَ {هَذَا لَا يَجُوزُ لَكَ فِعْلُهُ}، قَالَ {نُدَارِي}، فَيُكْسِبُوا الْمُدَاهَنَةَ الْمُحَرَّمَةَ اسْمَ (الْمُدَارَاةِ)، وَهَذَا غَلَطٌ كَبِيرٌ؛ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {لَيْسَ بِحَكِيم مَنْ لَمْ يُعَاشِرْ بِالْمَعْرُوفِ لِمَنْ لَا يَجِدُ مِنْ مُعَاشَرَتِهِ بُدًّا، حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ مِنْهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا}، فَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَهُوَ غَرِيبٌ طُوبَى لَهُ ثُمَّ طُوبَى لَهُ. انتهى باختصار. وقالَ أبو بكر الطرطوشي (ت520هـ) في (سراج الملوك): فالْمُدَارَاةُ أنْ تُدَارِي الناسَ على وَجْهٍ يَسْلَمُ لك [به] دِينُك. انتهى. وقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي (فَتْحُ الباري): قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ {الْمُدَارَاةُ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ خَفْضُ الْجَنَاحِ لِلنَّاسِ وَلِينُ الْكَلِمَةِ وَتَرْكُ الإِغْلَاظِ لَهُمْ فِي الْقَوْلِ؛ وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُدَارَاةَ هِيَ الْمُدَاهَنَةُ فَغَلَطَ، لِأنَّ الْمُدَارَةَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا وَالْمُدَاهَنَةُ مُحَرَّمَةٌ؛ وَالْمُدَاهَنَةَ فَسَّرَهَا الْعُلَمَاءُ بِأَنَّهُ مُعَاشَرَةُ الْفَاسِقِ وَإِظْهَارُ الرِّضَا بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ عَلَيْهِ؛ وَالْمُدَارَاةُ هِيَ الرِّفْقُ بِالْجَاهِلِ فِي التَّعْلِيمِ، وَبِالْفَاسِقِ فِي النَّهْيِ عَنْ فِعْلِهِ، وَتَرْكُ الإِغْلَاظِ عَلَيْهِ حَيْثُ لَا يُظْهِرُ مَا هُوَ فِيهِ، وَالإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِلُطْفِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ}. انتهى باختصار. وقال البخاريُّ في صحيحِه: وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ {إِنَّا لَنَكْشِرُ [أَيْ لَنَتَبَسَّمُ] فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ، وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ}... ثم قالَ -أَيِ البخاريُّ-: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ اِبْنِ الْمُنْكَدِرِ حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَقَالَ [أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] {ائْذَنُوا لَهُ، فَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ (أَوْ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ)}، فَلَمَّا دَخَلَ، أَلَانَ لَهُ الْكَلَامَ، فَقُلْتُ لَهُ [أَيْ بَعْدَ خُرُوجِ الرَّجُلِ] {يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ مَا قُلْتَ، ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ فِي الْقَوْلِ}، فَقَالَ {أَيْ عَائِشَةُ، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ تَرَكَهُ (أَوْ وَدَعَهُ) النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ}. انتهى. وقالَ ابنُ المُلَقِّن (ت804هـ) في (التوضيح لشرح الجامع الصحيح): قَالَ الْعُلَمَاءُ {وَهِيَ [أَيِ الْمُدَاهَنَةُ] أَنْ يَلْقَى الْفَاسِقَ الْمُظْهِرَ لِفِسْقِهِ فَيُؤَالِفُهُ وَيُؤَاكِلُهُ وَيُشَارِبُهُ، وَيَرَى أَفْعَالَهُ الْمُنْكَرَةَ وَيُرِيهُ الرِّضَا بِهَا وَلَا يُنْكِرُهَا عَلَيْهِ وَلَوْ بِقَلْبِهِ، فَهَذِهِ الْمُدَاهَنَةُ الَّتِي بَرَّأَ اللَّهُ مِنْهَا نَبِيَّهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِقَوْلِهِ {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}؛ وَالْمُدَارَاةُ هِيَ الرِّفْقُ بِالْجَاهِلِ الَّذِي يَتَسَتَّرُ بِالْمَعَاصِي وَلَا يُجَاهِرُ بِالْكَبَائِرِ، وَالْمُعَاطَفَةُ فِي رَدِّ أَهِلِ الْبَاطِلِ إِلَى مُرَادِ اللَّهِ بِلِينٍ وَلُطْفٍ، حَتَّى يَرْجِعُوا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ. انتهى.

 

(7)وقالَ الشيخُ ناصرُ بنُ يحيى الحنيني (الأستاذ المساعد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كلية أصول الدين، قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة) في مقالة له على هذا الرابط: اِعلَمْ أنَّ الأصلَ في مُعَاداةِ الكفارِ وبُغْضِهم أنْ تكونَ ظَاهِرَةً، لَا مَخْفِيَّةً مُسْتَتِرةً، حِفْظًا لدِينِ المسلمِين، وإشعارًا لهم بالفَرْقِ بينهم وبين الكافرِين، حتى يَقْوَى ويَتَماسَكَ المسلمون ويَضْعُفَ أَعداءُ المِلَّةِ والدِّينِ، والدليلُ على هذا قولُه تعالى آمِرًا نَبِيَّه والأُمَّةَ كُلَّها بأنْ تَقْتَدِيَ بإِبْرَاهِيمَ عليه السلامُ إِمَامِ الحُنَفَاءِ وأنْ تَفْعَلَ فِعْلَه، حَيْثُ قالَ سُبْحَانَه {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}، وتَأَمَّلْ معي الفَوائدَ مِن هذه الآيَةِ العظِيمةِ الصَّرِيحةِ التي لم تَدَعْ حُجَّةً لمُحْتَجٍّ؛ (أ)أنَّه قَدَّمَ البَرَاءَ مِنَ الكافرِين على البَرَاءَةِ مِن كُفرِهم، لِأهَمِّيَّةِ مُعاداةِ الكفارِ وبُغضِهم وأنَّهم أَشَدُّ خَطَرًا مِن الكُفرِ نَفْسِه، وفيها إشارةٌ إلى أنَّ بعضَ الناسِ قد يَتَبَرَّأُ مِنَ الكُفرِ والشركِ، ولكنَّه لا يَتَبَرَّأُ مِنَ الكافرِين؛ (ب)أنَّه لَمَّا أَرادَ أَنْ يُبَيِّنَ وُجوبَ بُغضِهم عَبَّرَ بأَقْوَى الألفاظِ وأَغْلَظِها فقالَ {كَفَرْنَا بِكُمْ}، لخُطورةِ وعِظَمِ الوُقوعِ في هذا المُنْكَرِ؛ (ت)أنَّه قالَ {بَدَا}، والبُدُوُّ هو الظُّهورُ والوُضوحُ وليس الخَفاءَ والاسْتِتارَ، فتَأَمَّلْ هذا وقارِنْه بمَن يَنْعِقُ في زَمانِنا بأنَّه لا يَسُوغُ إظهارُ مِثْلِ هذه المُعتَقَداتِ في بِلادِ المسلمِين حتى لا يَغْضَبَ علينا أعداءُ الدِّينِ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ؛ (ث)قولُه {أَبَدًا}، أَيْ إلى قِيَامِ الساعةِ ولَو تَطَوَّرَ العُمْرانُ ورَكِبْنا الطائراتِ وعَمَرْنا الناطِحاتِ، فهذا أصلٌ أصِيلٌ لا يَزُولُ ولا يَتَغَيَّرُ بتَغَيُّرِ الزَّمانِ ولا المَكانِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الحنيني-: اعلمْ أنَّ هذه القَضِيَّةَ -أَعنِي وُجوبَ مُعاداةِ الكافِرِين وبُغضِهم- أَمْرٌ لا خِيَارَ لنا فيه، بلْ هو مِنَ العباداتِ التي افْتَرَضَها [اللهُ] على المُؤمِنِين كالصَّلاةِ وغيرِها مِن فَرائضِ الإسلامِ، فلا تَغْتَرَّ بمَن يَزْعُمُ أنَّ هذا دِينُ الوَهَّابِيَّةِ أو دِينُ فُلَانٍ أو فُلَانٍ، بلْ هذا دِينُ رَبِّ العالَمِين، وهُدَي سَيِّدِ المُرْسَلِين... ثم قال -أَيِ الشيخُ الحنيني-: هذا الأَمْرُ [هو] مِنَ الشرائعِ التي فُرِضَتْ على كُلِّ الأنبياءِ والرُّسُلِ -أَعْنِي مُعاداةَ أَعداءِ اللهِ والبَراءةَ منهم-، فهذا نُوحٌ، يقولُ اللهُ له عنِ اِبْنِه الكافِرِ {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}، وهذا إبراهِيمُ يَتَبَرَّأُ هو ومَن معه مِنَ المُؤمِنِين، مِن أقوامِهم وأَقْرَبِ الناسِ إليهم، بلْ تَبَرَّأَ مِن أَبِيه، فقالَ {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ}، وأصحابُ الكَهْفِ اعْتَزَلوا قومَهم الذِين كَفَروا حِفاظًا على دِينِهم وتَوحِيدِهم، قالَ جَلَّ وعَلَا عنهم {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الحنيني-: إنَّ قَضِيَّةَ الوَلَاءِ للمؤمنِين والبَراءةِ مِنَ الكافِرِين مُرْتَبِطةٌ بـ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) ارْتِباطًا وَثِيقًا، فإنَّ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) تَتَضَمَّنُ رُكْنَيْنِ؛ الأَوَّلُ، النَّفْيُ، وهو نَفْيُ العُبُودِيَّةِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ، والكفرُ بكُلِّ ما يُعبَدُ مِن دُونِ اللهِ، وهو الذي سَمَّاه اللهُ عَزَّ وجَلَّ الكُفْرَ بالطَّاغُوتِ [وذلك في قولِه {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ}]؛ والثانِي، الإثباتُ، وهو إفرادُ اللهِ بالعبادةِ؛ والدَّلِيلُ على هذيْنِ الرُّكْنَيْنِ قولُه تَعالَى {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، ومِنَ الكُفرِ بِالطَّاغُوتِ الكُفرُ بأَهْلِه كما جاءَ في قولِه تَعالَى {كَفَرْنَا بِكُمْ}، وقولِه {إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ}، إذْ لا يُتَصَوَّرُ كُفْرٌ مِن غيرِ كافِرٍ، ولا شِرْكٌ مِن غيرِ مُشْرِكٍ، فوَجَبَ البَرَاءةُ مِنَ الفِعْلِ والفاعلِ حتى تَتَحَقَّقَ كَلِمةُ التَّوحِيدِ (كَلِمةُ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ")... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الحنيني-: هناك فَرْقٌ بين بُغضِ الكافرِ وعَدَاوَتِه وبين مُعامَلَتِه ودَعْوَتِه إلى الإسلامِ؛ فالكافرُ لا يَخْلُو إِمَّا أنْ يكونَ حَرْبِيًّا [قالَ الشيخُ محمد بن موسى الدالي على موقعِه في هذا الرابط: فَدَارُ الكُفْرِ، إذا أُطْلِقَ عليها (دارُ الحَرْبِ) فَباعتِبارِ مَآلِها وتَوَقُّعِ الحَرْبِ منها، حتى ولو لم يكنْ هناك حَرْبٌ فِعلِيَّةٌ مع دارِ الإسلامِ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ عبدُالله الغليفي في كتابِه (أحكام الديار وأنواعها وأحوال ساكنيها): الأصْلُ في (دارِ الكُفْرِ) أنَّها (دارُ حَرْبٍ) ما لم تَرْتَبِطْ مع دارِ الإسلامِ بعُهودٍ ومَواثِيقَ، فَإنِ اِرتَبَطَتْ فتُصْبِحَ (دارَ كُفْرٍ مُعاهَدةً)، وهذه العُهودُ والمَواثِيقُ لا تُغَيِّرُ مِن حَقِيقةِ دارِ الكُفْرِ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ مشهور فوّاز محاجنة (عضو الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين) في (الاقتِراض مِنَ البُنوكِ الرِّبَوِيَّةِ القائمةِ خارِجَ دِيَارِ الإسلامِ): ويُلاحَظُ أنَّ مُصطَلَحَ (دارِ الحَرْبِ) يَتَداخَلُ مع مُصطَلَحِ (دارِ الكُفْرِ) في اِستِعمالاتِ أَكثَرِ الفُقَهاءِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ محاجنة-: كُلُّ دارِ حَرْبٍ هي دارُ كُفْرٍ ولَيسَتْ كُلُّ دارِ كُفْرٍ هي دارَ حَرْبٍ. انتهى. وجاءَ في الموسوعةِ الفقهيةِ الكُوَيْتِيَّةِ: أَهْلُ الحَرْبِ أو الحَرْبِيُّون، هُمْ غيرُ المُسلِمِين، الذِين لم يَدْخُلوا في عَقْدِ الذِّمَّةِ، ولا يَتَمَتَّعون بأَمَانِ المُسلِمِين ولا عَهْدِهم. انتهى. وقالَ مركزُ الفتوى بموقع إسلام ويب التابع لإدارة الدعوة والإرشاد الديني بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر في هذا الرابط: أمَّا مَعْنَى الكافِرِ الحَرْبِيِّ، فهو الذي ليس بَيْنَه وبين المُسلِمِين عَهْدٌ ولا أَمَانٌ ولا عَقْدُ ذِمَّةٍ. انتهى. وقالَ الشيخُ حسينُ بنُ محمود في مَقالةٍ له على هذا الرابط: ولا عِبْرةَ بقَولِ بعضِهم {هؤلاء مَدَنِيُّون}، فليس في شَرْعِنا شيءٌ اسْمُهُ (مَدَنِيٌّ وعَسْكَرِيٌّ)، وإنَّما هو (كافرٌ حَرْبِيٌّ ومُعاهَدٌ)، فكُلُّ كافرٍ يُحارِبُنا، أو لم يَكُنْ بيننا وبينه عَهْدٌ، فهو حَرْبِيٌّ حَلَالُ المالِ والدَّمِ والّذُرِّيَّةِ [قالَ الْمَاوَرْدِيُّ (ت450هـ) في (الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي) في بَابِ (تَفْرِيقِ الْغَنِيمَةِ): فَأَمَّا الذُّرِّيَّةُ فَهُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، يَصِيرُونَ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ مَرْقُوقِينَ. انتهى باختصار]. انتهى. وقالَ الشيخُ محمدُ بنُ رزق الطرهوني (الباحث بمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، والمدرس الخاص للأمير عبدالله بن فيصل بن مساعد بن سعود بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل بن تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود) في كتابِه (هلْ هناك كُفَّارٌ مَدَنِيُّون؟ أو أَبْرِيَاءُ؟): لا يُوجَدُ شَرْعًا كافرٌ بَرِيءٌ، كما لا يُوجَدُ شَرْعًا مُصْطَلَحُ (مَدَنِيّ) وليس له حَظٌّ في مُفْرَداتِ الفقهِ الإسلاميِّ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الطرهوني-: الأصلَ حِلُّ دَمِ الكافِرِ ومالِه -وأنَّه لا يُوجَدُ كافرٌ بَرِيءٌ ولا يُوجَدُ شيءٌ يُسَمَّى (كافِر مَدَنِيّ)- إلَّا ما اِستَثناه الشارِعُ في شَرِيعَتِنا. انتهى. وقالَ الْمَاوَرْدِيُّ (ت450هـ) في (الأحكام السلطانية): وَيَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْ مُقَاتِلَةِ [المُقَاتِلَةُ هُمْ مَن كانوا أَهْلًا للمُقاتَلةِ أو لِتَدبِيرِها، سَوَاءٌ كانوا عَسْكَرِيِّين أو مَدَنِيِّين؛ وأمَّا غيرُ المُقاتِلةِ فَهُمُ المرأةُ، والطِّفْلُ، وَالشَّيْخُ الهَرِمُ، وَالرَّاهِبُ، وَالزَّمِنُ (وهو الإنسانُ المُبْتَلَى بعاهةٍ أو آفةٍ جَسَدِيَّةٍ مُستمِرَّةٍ تُعْجِزُه عنِ القتالِ، كَالْمَعْتُوهُ وَالأَعْمَى والأَعْرَجُ والمَفْلُوجُ "وهو المُصابُ بالشَّلَلِ النِّصْفِيِّ" والْمَجْذُومُ "وهو المُصابُ بالْجُذَامِ وهو داءٌ تَتَساقَطُ أعضاءُ مَن يُصابُ به" والأَشَلُّ وما شابَهَ)، وَنَحْوُهِمْ] الْمُشْرِكِينَ مُحَارِبًا وَغَيْرَ مُحَارِبٍ [أَيْ سَوَاءٌ قاتَلَ أم لم يُقاتِلْ]. انتهى. وقالَ الشيخُ يوسف العييري في (حقيقة الحرب الصليبية الجديدة): فالدُّوَلُ تَنقَسِمُ إلى قِسمَين، قِسمٌ حَرْبِيٌّ (وهذا الأصلُ فيها)، وقِسمٌ مُعاهَدٌ؛ قالَ ابنُ القيم في (زاد المعاد) واصِفًا حالَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم بعدَ الهجرةِ، قالَ {ثُمَّ كَانَ الْكُفَّارُ مَعَهُ بَعْدَ الأَمْرِ بِالْجِهَادِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ، أَهْلُ صُلْحٍ وَهُدْنَةٍ، وَأَهْلُ حَرْبٍ، وَأَهْلُ ذِمَّةٍ}، والدُّوَلُ لا تَكُونُ ذِمِّيَّةً، بَلْ تكونُ إمَّا حَرْبِيَّةً أو مُعاهَدةً، والذِّمَّةُ هي في حَقِّ الأفرادِ في دارِ الإسلامِ، وإذا لم يَكُنِ الكافرُ مُعاهَدًا ولا ذِمِّيًّا فإنَّ الأصلَ فيه أنَّه حَرْبِيٌّ حَلَالُ الدَمِ، والمالِ، والعِرْضِ [بِالسَّبْيِ]. انتهى] فهذا لَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ إِلَّا السَّيْفُ وإظهارُ العَدَاوةِ والبَغْضاءِ له؛ وإِمَّا أنْ يكونَ ليس بمُحارِبٍ لنا ولا مُشارِكٍ للمُحارِبِين، فهذا إِمَّا أنْ يكونَ ذِمِّيًّا أو مُستَأْمَنًا أو بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَهْدٌ، فهذا يَجِبُ مُراعاة العَهْدِ الذي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فيُحْقَنُ دَمُه، ولا يَجُوزُ التَّعَدِّي عليه، وتُؤدَّى حُقوقُه إنْ كان جارًا، ويُزَارُ إنْ كان مريضًا، وتُجابُ دَعْوَتُه، بشرطِ دَعْوَتِه للإسلامِ في كُلِّ هذه الحالاتِ وعَدَمِ الحُضورِ معه في مكانٍ يُعصَى اللهُ فيه، وبِغَيْرِ هذَيْنِ الشَّرطَيْنِ لا يَجُوزُ مُخالَطَتُه والأُنْسُ معه، فصِيَانَةُ الدِّينِ والقَلْبِ أَوْلَى وأَحْرَى، بلْ أُمِرْنا عند دَعْوَتِهم بمُجادَلَتِهم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، كما قالَ جَلَّ وعَلَا {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وقال عمَّن لم يُقاتِلْنا {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [سُئِلَ في هذا الرابط مَرْكَزُ الفتوى بموقع إسلام ويب التابعُ لإدارةِ الدعوةِ والإرشادِ الدينيِّ بوزارةِ الأوقافِ والشؤونِ الإسلاميةِ بدولةِ قطر: وَدِدْتُ أنْ أَطْرحَ سؤالًا حَوْلَ هذه الآيَةِ الكَرِيمةِ {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، السُّؤَالُ هُوَ، مَن هي هذه الفِئَةُ -المَذكورةُ في الآيَةِ- التي نُبِرُّها ونُقْسِطُ إليها؟. فأجابَ مَرْكَزُ الفتوى: للعُلَماءِ كلامٌ طويلٌ حولَ هذه الآيَةِ؛ فذَهَبَتْ طائفةٌ منهم إلى أنَّها مَنسوخةٌ بآيَةِ السَّيْفِ التي في سُورَةِ التَّوبةِ {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}؛ وذَهَبَتْ طائفةٌ أُخْرَى إلى أنَّها مُحْكَمةٌ، أَيْ غيرُ مَنسوخةٍ، وأنَّ المُرادَ بها الكُفَّارُ الْمُعَاهَدُونَ أوِ الذِّمِّيُّون، الذِين لم يُحارِبوا المُسلِمِين ولم يُعِينُوا على حَرْبِهم، ومَعْنَى {تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} تُعْطُوهم قِسْطًا مِن أموالِكم على وَجْهِ الصِّلَةِ [أَيِ البِرِّ والإِحْسَانِ]، أَمَّا تَهْنِئَتُهم بأَعْيَادِهم وصُحْبَتُهم ومَحَبَّتُهم فهذه لا تَجُوزُ بحالٍ، فالكافِرُ بطَبِيعَتِه مُحارِبٌ لِرَبِّه، ولا تَجْتَمِعُ مَوَدَّتُه في القَلْبِ مع الإيمانِ باللهِ جَلَّ وعَلَا، يقولُ [تَعالَى] {لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}، ولِأنَّ في تَهْنِئَتِهم بأَعْيَادِهم إقرارًا لهم على ما هُمْ عليه مِن باطلٍ، بلْ والرِّضَا بذلك، ولا يَشُكُّ مُسلِمٌ في أنَّ الرِّضَا بالكُفرِ كُفرٌ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ سليمانُ بنُ عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب في (أوثق عرى الإيمان، بتحقيق الشيخ الوليد بن عبدالرحمن آل فريان): أَمَّا قَولُه تَعالَى {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الآيَةَ، فإنَّ معناها أنَّ اللهَ لا يَنْهَى المُؤْمِنِين عن بِرِّ مَن لم يُقاتِلْهم مِنَ الضُّعَفاءِ والمَساكِينِ -كالنِّساءِ والصِّبْيَانِ- في أَمْرِ الدُّنْيَا، كإعطائِهم إذا سَأَلُوك ونحوِ ذلك، وأَمَّا مُوَالَاتُهم ومَحَبَّتُهم وإكرامُهم فَلَمْ يُرَخِّصِ اللهُ تعالى في ذلك، بلْ شَدَّدَ في [النَّهْيِ عن] مُوَالَاةِ الكفارِ مِنَ اليَهُودِ والنَّصَارَى ولو كانوا أهلَ ذِمَّةٍ، حتى نَهَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن بَدَاءَتِهم بالسلامِ والتَّوْسِعةِ لهم في الطَّرِيقِ، وقالَ {لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ، وَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِهِ}، وهكذا حالُ المُعاهَدِ، فأَمَّا الكافرُ الحَرْبِيُّ والمُرْتَدُّ فأَيْنَ الرُّخْصَةُ في شيءٍ مِن ذلك؟!، وقد نَصَّ على أنَّ هذه الآيَةَ [أَيْ قَولَه تَعالَى {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الآيَةَ] في النِّساءِ ونحوِهم ابنُ كثيرٍ. انتهى. وقالَ الشيخُ ناصرُ بنُ محمد الأحمد في خُطْبَةٍ له بعنوان (مسائل في الولاء والبراء) موجودة على هذا الرابط: ويَقَعُ الخَلْطُ واللَّبْسُ أحيانًا بين حُسْنِ المُعامَلةِ مع الكُفَّارِ غيرِ الحَربِيِّين [الكافِرُ الحَرْبِيُّ هو الذي لا عَهْدَ له ولا ذِمَّةَ ولا أمانَ، سَوَاءٌ كانَ عَسْكَرِيًّا أو مَدَنِيًّا] وبُغْضِ الكفارِ والبَراءةِ منهم، ويَتَعَيَّنُ مَعْرِفةُ الفَرْقِ بينهما، فحُسنُ التعامُلِ معهم أَمْرٌ جائزٌ، وأمَّا بُغْضُهم وعداوتُهم فأَمْرٌ آخَرُ، فاللهُ جَلَّ وتعالى مَنَعَ مِنَ التَّوَدُّدِ لأهلِ الذِّمَّةِ بقولِه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ}، فمَنَعَ المُوَالَاةَ والتَّوَدُّدَ، وقالَ في الآيَةِ الأُخرَى {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ}، فَالإِحْسَانُ لِأهْلِ الذِّمَّةِ مَطْلُوبٌ بينما التَّوَدُّدُ وَالْمُوَالَاةُ مَنْهِيٌّ عَنْهُمَا، فيَجُوزُ أَنْ نَبَرَّهُمْ بِكُلِّ أَمْرٍ لَا يَكُونُ ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى مَوَدَّاتِ الْقُلُوبِ، وَلَا تَعْظِيمِ شَعَائِرِ الْكُفْرِ، فَمَتَى أَدَّى إلَى أَحَدِ هَذَيْنِ امْتَنَعَ وَصَارَ مِنْ قِبَلِ مَا نُهِيَ عَنْهُ، فيجوز الرِّفْقُ بِضَعِيفِهِمْ، وَإِطْعَامُ جَائِعِهِمْ، وَإِكْسَاءُ عَارِيهِمْ، وَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَسْتَحْضِرَ فِي قُلُوبِنَا مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنْ بُغْضِنَا وَتَكْذِيبِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُمْ لَوْ قَدَرُوا عَلَيْنَا لَاسْتَأْصَلُوا شَأْفَتَنَا وَاسْتَوْلَوْا عَلَى دِمَائِنَا وَأَمْوَالِنَا، وَأَنَّهُمْ مِنْ أَشَدِّ الْعُصَاةِ لِرَبِّنَا وَمَالِكِنَا عَزَّ وَجَلَّ. انتهى باختصار]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الحنيني-: اِعلَمْ أنَّه يَجُوزُ في بعضِ الحالاتِ أنْ تُظْهِرَ بلِسَانِك المَوَدَّةَ، إذا كُنْتَ مُكرَهًا وتَخْشَى على نفسِك، وهذا فَقَطْ في الظاهِرِ لا في الباطِنِ، بمَعْنَى أنَّك عند الإكراهِ تُظْهِرُ له بلِسَانِك المَوَدَّةَ لا بقَلْبِك، فإنَّ قَلْبَك لا بُدَّ أنْ يَنْطَوِيَ على بُغضِه وعَدَاوَتِه، كما قالَ جَلَّ وعَلَا {لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً، وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ، وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}، قالَ اِبنُ كثيرٍ رَحِمَه اللهُ [في تَفسِيرِه] {(إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) أَيْ إِلَّا مَنْ خَافَ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ أَوِ الأَوْقَاتِ مِنْ شَرِّهِمْ، فَلَهُ أَنْ يَتَّقِيَهُمْ بِظَاهِرِهِ لَا بِبَاطِنِهِ وَنِيَّتِهِ، كَمَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ (إِنَّا لَنَكْشِرُ [أَيْ لَنَتَبَسَّمُ] فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ وَقُلُوبُنَا تَلْعَنُهُمْ)، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ "لَيْسَ التَّقِيَّةُ بِالْعَمَلِ، إِنَّمَا التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ")}، وعليه فإنَّه لا يَجُوزُ بحالٍ -حتى في حالِ الإكراهِ- عَمَلُ ما يُوجِبُ الكُفرَ، كإعانةِ الكُفَّارِ على المُسلِمِين ونُصْرَتِهم عليهم وإفشاءِ أَسرارِهم [أَيْ أَسرارِ المُسلِمِين] ونحوِ ذلك، قَالَ اِبْنُ جَرِيرٍ [في (جامع البيان في تأويل القرآن)] عند تَفسِيرِ قولِه [تعالى] (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) {إِلَّا أَنْ تَكُونُوا فِي سُلْطَانِهِمْ فَتَخَافُوهُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَتُظْهِرُوا لَهُمُ الْوِلَايَةَ بِأَلْسِنَتِكُمْ، وَتُضْمِرُوا لَهُمُ الْعَدَاوَةَ، وَلَا تُشَايِعُوهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَلَا تُعِينُوهُمْ عَلَى مُسْلِمٍ بِفِعْلٍ}. انتهى باختصار.

 

(8)وقالَ الشيخُ سيد قطب في كِتابِه (مَعالِمُ في الطريق): لا بُدَّ لنا مِنَ التَّخَلُّصِ مِن ضَغْطِ المُجتَمَعِ الجاهِلِيِّ والتَّصَوُّراتِ الجاهلِيَّةِ والتقاليدِ الجاهلِيَّةِ والقِيَادةِ الجاهلِيَّةِ، في خاصَّةِ نُفُوسِنا؛ ليستْ مُهِمَّتُنا أنْ نَصْطَلِحَ [أَيْ نَتَوَافَقَ ولا نَتَخَاصَمَ] مع واقِعِ هذا المجتمَعِ الجاهلِيِّ، فهو بهذه الصِّفةِ (صِفَةِ الجاهلِيَّةِ)، غَيْرُ قابِلٍ لِأنْ نَصْطَلِحَ معه، إنَّ مُهِمَّتَنا أنْ نُغَيِّرَ مِن أَنْفُسِنا أَوَّلًا لِنُغَيِّرَ هذا المجتمعَ أخيرًا، إنَّ مُهِمَّتَنا الأولى هي تغييرُ واقِع هذا المجتمع، مُهِمَّتُنا هي تغييرُ هذا الواقع الجاهلي مِن أساسِه، هذا الواقعُ الذي يَصطدمُ اصطدامًا أساسِيًّا بالمنهجِ الإسلاميِّ وبالتَّصَوُّرِ الإسلامِيِّ، والذي يَحْرِمُنا بالقَهْرِ والضَّغْطِ أنْ نَعِيشَ كما يريدُ لنا المنهجُ الإلهِيٌّ أنْ نَعِيشَ؛ إنَّ أُولَى الخطواتِ إلى طريقنا هي أن نَسْتَعْلِيَ على هذا المجتمَعِ الجاهليِّ وقِيَمِه وتَصُوُّراتِه، وأَلَّا نُعَدِّلَ في قِيَمِنا وتَصَوُّراتِنا قليلًا أو كثيرًا لِنَلْتَقِيَ معه في مُنْتَصَفِ الطريقِ، كَلَّا، إنَّنا وإيَّاه على مَفْرِقِ الطريقِ، وحين نُسايِرُه خطوةً واحدةً فإننا نَفْقِدُ المنهجَ كلَّه ونَفْقِدُ الطريقَ [قالَ ابنُ تيميةَ في (بيان تلبيس الجهمية): إنَّ دُعاةَ الباطلِ المُخالِفِين لِمَا جاءَتْ به الرُّسُلُ يَتَدَرَّجون مِنَ الأسهلِ والأقْرَبِ إلى مُوَافَقةِ الناسِ إلى أنْ يَنْتَهُوا إلى هَدْمِ الدِّينِ. انتهى]؛ وسَنَلْقَى في [سَبِيلِ] هذا عَنَتًا ومَشَقَّةً، وستُفْرَضُ علينا تَضْحِيَاتٌ باهِظةٌ، ولكننا لَسْنَا مُخَيَّرِين إذا نحن شِئْنَا أنْ نَسْلُكَ طريقَ الجِيلِ الأَوَّلَ [أَيْ جِيلِ الصحابةِ] الذي أَقَرَّ اللهُ به منهجَه الإلهيَّ ونَصَرَه على منهجِ الجاهليةِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ سيد قطب-: إنَّ نِظَامَ اللهِ خَيْرٌ في ذاتِه، لأنه مِن شَرْعِ اللهِ، ولن يكونَ شَرْعُ العبيدِ يومًا كشَرْعِ اللهِ، ولكنْ هذه ليستْ قاعِدةَ الدعوةِ، إنَّ قاعدةَ الدعوةِ أنَّ قَبُولَ شَرْعِ اللهِ وحده -أيًّا كانَ- هو ذاتُه الإسلامُ، وليس للإسلامِ مَدْلُولٌ سِوَاهُ، فمن رَغِبَ في الإسلامِ ابتداءً فقد فَصَلَ في القَضِيَّةِ، ولم يَعُدْ بحاجَةٍ إلى تَرغِيبِه بجمالِ النظامِ وأَفْضَلِيَّتِه، فهذه إحدى بَدِيهِيَّاتِ الإيمانِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ سيد قطب-: الإسلامُ لم يَكُنْ يَمْلُكُ أنْ يَتَمَثَّلَ في (نَظَرِيَّةٍ) مُجَرَّدةٍ، يَعْتَنِقُها مَن (يَعْتَنِقُها اعتقادًا ويُزَاوِلُها عِبَادةً)، ثم يَبْقَى مُعتنِقوها على هذا النحوِ أفرادًا ضِمْنَ الكيانِ العُضْوِيِّ للتَّجَمُّعِ الحَرَكِيِّ الجاهليِّ القائمِ (فِعْلًا)، فإنَّ وُجُودَهم على هذا النحوِ -مَهْمَا كَثُرَ عَدَدُهم- لا يُمْكِنُ أن يُؤَدِّيَ إلى وُجُودٍ (فِعْلِيٍّ) للإسلامِ، لِأنَّ الأفرادَ (المسلمِين نَظَرِيًّا) الدَّاخِلِين في التركيبِ العُضْوِيِّ للمجتمَعِ الجاهليِّ سَيَظَّلُون مُضْطَرُّون حَتْمًا للاستجابة لِمَطَالِبِ هذا المُجتمَعِ العُضْوِيِّ، سيَتَحَرَّكون -طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، بِوَعْيٍ أو بغير وَعْيٍ- لِقَضاءِ الحاجاتِ الأساسيَّةِ لِحَيَاةِ هذا المُجتمَعِ الضروريَّةِ لِوُجودِه، وسيُدافِعون عن كِيَانِه، وسَيَدْفَعُون [أَيْ سيُنَحُّون ويُبْعِدون ويَرُدُّون] العَوَامِلَ التي تُهَدِّدُ وُجودَه وكِيَانِه، لِأنَّ الكائنَ العُضْوِيَّ [للتَّجَمُّعِ الحَرَكِيِّ الجاهِلِيِّ] يَقُومُ بهذه الوظائفِ بكُلِّ أعضائه سَوَاءٌ أرادوا أَمْ لم يُرِيدوا، أَيْ أنَّ الأفرادَ (المسلمِين نظريًّا) سَيَظَّلُون يَقُومون (فِعْلًا) بتَقْوِيَةِ المجتمَعِ الجاهلِيِّ الذي يَعْمَلون (نظريًّا) لإزالَتِه، وسَيَظَّلُون خَلَايَا حَيَّةً في كِيَانِه تُمِدُّه بعناصرِ البَقَاءِ والامتدادِ!، وسيُعْطُونه كِفايَاتِهم [أَيْ كَفَاءَاتِهم] وخِبْراتِهم ونشاطَهم لِيَحْيَا بها ويَقْوَى!، وذلك بَدَلًا مِن أنْ تكونَ حَرَكَاتُهم في اتِّجَاهِ تَقْوِيضِ هذا المجتمَعِ الجاهلِيِّ لإقامةِ المجتمَعِ الإسلاميِّ؛ ومِن ثَمَّ لم يَكُنْ بُدٌّ أنْ تَتَمَثَّلَ القاعدةُ النظريَّةُ للإسلامِ (أَيِ العقيدةُ) في تَجَمُّعٍ عُضْوِيٍّ حركيٍّ منذ اللحظة الأولى [قالَ الشيخُ حسين بن محمود في كتابِه (مراحِل التطوُّر الفِكْريّ في حياة سيِّد قُطْب): لقد ذَكَرَ سَيِّد قطب رحمه اللهُ مُصْطَلَحَ (الإسلام الحَرَكِيّ) في مَوَاضِعَ كثيرةٍ مِن كُتُبِه، وهو يَقصِدُ بهذا المصطلحِ عَدَمَ الاكتفاءِ بالنَّظَرِ في النُّصوصِ دُونَ العَمَلِ بها، وقال في مُقَدِّمة كتابه (مُقَوِّمَات التصوُّر الإسلامي) {إن طبيعة هذا الدِّين تَرْفُضُ اختزالَ المعارف الباردة في ثلاجات الأذهان الجامدة، إن المعرفة في هذا الدِّين تتحوَّلُ لِتَوِّهَا إلى حَرَكَةٍ وإلا فهي ليست مِن جنس هذا الدِّين، وحين كان القرآنُ يَتَنَزَّلُ، لم يَتَنَزَّل بتَوْجِيهٍ أو حُكْمٍ إلا لتنفيذه لِساعَتِه، أي ليكون عنصرًا حَرَكِيًّا في المجتمعِ الحَيِّ}؛ لقد كان سَيِّدٌ يُنْتَقَدُ كثيرا مِنَ الصُّوفِيَّةِ وأهلِ الإرجاءِ، الذِين لم يكونوا يُحَرِّكُون ساكِنًا لِنُصرةِ الدِّينِ، فكان سَيِّدٌ رحمه الله يُجَدِّدُ فيهم رُوحَ الدِّينِ بِدَفْعِهم للعَمَلِ بالكتاب والسُّنَّة، وهو بذلك يقول ما قال السلفُ بأن {الإيمانَ قولٌ وعملٌ}، ولكنَّه كان يقولُه بتَعبِيرِه هو، فالتعاليم الشرعية ليست سَلْبِيَّةً، ولم يَبْعَثِ اللهُ سبحانه وتعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم لِيُعَلِّم الناسَ القُعودَ والاكتفاءَ بالعلومِ النظريَّةِ دُونَ التطبيقِ العملِيِّ، وهذا هو (الإسلامُ الحركِيُّ) الذي يَقْصِدُه سَيِّدٌ رحمه الله... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ حسين بن محمود-: بَعْدَ أنْ نَخَرَ في الأُمَّةِ رُوحُ الإرجاءِ والتَّصَوُّفِ السلبيِّ أَتَى سَيِّدٌ رحمه الله لِيُحَطِّمَ هذا الجانبَ السلبيَّ في المسلمِين ويَنْشُرَ فيهم قولَ الله تعالى {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ}، ويقولَ لهم بأن الإيمانَ مقرونٌ بالعمل الصالح، ولا إيمانَ بلا عملٍ، ومِنَ العملِ ما يَنقُضُ الإيمانَ، كالشِّرْكِ بالله، ومِن أعظمِ الشِّركِ شِركُ الحاكمِيَّةِ الذي هو دليلٌ واضحٌ على عَدَمِ رِضَا المخلوقِ بما حَكَمَ الخالِقُ، فهذه الدساتيرُ وهذه القوانينُ والمحاكمُ وهؤلاء القضاةُ وهذه المؤسساتُ وتلك الأموالُ التي تُنْفَقُ على التَّحَاكُمِ لغيرِ شرعِ اللهِ هي في حقيقتِها تَحَدٍّ صارِخٌ لأُلُوهِيَّةِ اللهِ؛ ودَعْوةُ (الحَرَكةِ) التي دَعَا إليها سَيِّدٌ رحمَه اللهُ هي دعوةٌ إلى إحياءِ الدِّينِ في قُلوبِ الناسِ وعقولِهم وفي حياتِهم، عَمَلًا بقولِ اللهِ تعالى {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فلا يَكتفِي الإنسانُ بالصلاة والزكاة والصوم والحج، بل يجبُ أنْ تكونَ حياتُه كلُّها لله رب العالمين، بل حتى مَمَاته لله، فيَحْيَا حياةً شرعيةً كاملةً، ويموتُ في سبيل إعزاز دِين الله. انتهى باختصار]، لم يَكُنْ بُدٌّ أنْ يَنْشَأَ تجمُّعٌ عُضْوِيٌّ حَرَكِيٌّ آخَرُ غيرُ التجمُّعِ الجاهليِّ، مُنْفَصِلٌ ومُستَقِلٌّ عنِ التجمُّعِ العضويِّ الحركيِّ الجاهليِّ الذي يَستهدفُ الإسلامُ إلغاءَه؛ وأن يكون مِحْوَرُ التجمُّعِ الجديدِ هو القِيَادةُ الجديدة المتمثلة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومِن بَعْدِه في كلِّ قِيَادةٍ إسلاميةٍ تَستهدفُ رَدَّ الناسِ إلى أُلُوهِيَّةِ اللهِ وحده ورُبُوبِيَّتِه وقِوَامَتِه وحاكِمِيَّتِه وسُلطانِه وشَرِيعتِه؛ وأنْ يَخْلَعَ كُلُّ مَن يَشْهَدُ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وأنَّ محمدا رسولُ اللهِ وَلَاءَه مِنَ التجمُّعِ الحركيِّ الجاهليِّ (أي التجمُّعِ الذي جاء منه)، ومِن قِيَادةِ ذلك التجمُّعِ (في أيَّةِ صُورةٍ كانت، سَوَاءٌ كانَتْ في صُورةِ قِيَادةٍ دينيَّةٍ مِنَ الكهنةِ والسَّدَنةِ والسَّحَرةِ والعَرَّافِين ومَن إليهم، أو في صُورةِ قِيَادةٍ سياسيَّةٍ واجتماعيَّةٍ واقتصاديَّةٍ كالتي كانت لقُرَيشٍ)، وأنْ يَحْصُرَ وَلَاءَه في التجمع العضوي الحركي الإسلامي الجديد، وفي قِيَادتِه المسلمةِ؛ ولم يَكُنْ بُدٌّ أنْ يَتحقَّقَ هذا منذ اللحظة الأولى لِدُخولِ المسلمِ في الإسلامِ، ولِنُطْقِه بشهادةِ أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وأنَّ محمدا رسولُ اللهِ، لِأنَّ وُجُودَ المجتمَعِ المسلمِ لا يَتَحَقَّقُ إلَّا بهذا، لا يَتَحَقَّقُ بمجردِ قيامِ القاعدةِ النظريَّةِ في قُلوبِ أفرادٍ -مَهْمَا تَبْلُغُ كَثْرَتُهم- لا يَتَمَثَّلون في تجمُّعٍ عضويٍّ مُتَناسِقٍ مُتَعَاوِنٍ له وُجُودٌ ذاتِيٌّ مُسْتَقِلٌّ يَعْمَلُ أعضاؤه عَمَلًا عُضْوِيًّا (كأعضاءِ الكائنِ الحَيِّ) على تأصيلِ وُجودِه وتعميقِه وتوسيعِه، وفي الدِّفاعِ عن كِيَانِه ضدَّ العواملِ التي تُهاجِمُ وُجودَه وكِيَانَه، ويعملون هذا تحت قيادةٍ مستقلةٍ عن قيادةِ المجتمَعِ الجاهليِّ تُنَظِّمُ حَرَكَتَهم وتُنَسِّقُها وتُوَجِّهُهم لتأصيلِ وتعميقِ وتوسيعِ وُجُودِهم الإسلاميِّ ولِمُكافَحةِ ومُقاوَمةِ وإزالةِ الوُجودِ الآخرِ الجاهليِّ؛ وهكذا وُجِدَ الإسلامُ، هكذا وُجِدَ مُتَمثِّلًا في قاعدةٍ نظريَّةٍ يَقُومُ عليها في نَفْسِ اللحظةِ تجمُّعٌ عضويٌّ حركيٌّ، مُستقِلٌّ مُنفصِلٌّ عنِ المجتمَعِ الجاهليِّ ومُوَاجِهٌ لهذا المجتمَعِ، ولم يُوجدْ قط في صورةٍ (نظريَّةٍ) مجردةٍ عن هذا الوُجُودِ (الفِعْلِيِّ)، وهكذا يُمْكِنُ أن يُوجدَ الإسلامُ مَرَّةً أخرَى، ولا سبيلَ لإعادة إنشائه في المجتمَعِ الجاهليِّ في أَيِّ زمانٍ وفي أَيِّ مَكانٍ بغيرِ الفِقْهِ الضروريِّ لِطَبِيعةِ نَشْأَتِه العضويَّةِ الحركيَّةِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ سيد قطب-: الشأنُ الدائمُ أنْ لا يَتَعايَشَ الحقُّ والباطلُ في هذه الأرضِ، وأنه متى قام الإسلامُ بإعلانِه العامِّ لإقامةِ رُبُوبِيَّةِ اللهِ للعالَمِين، وتَحرِيرِ الإنسانِ مِنَ العبوديَّةِ للعِبَادِ، رَمَاه المغتصِبون لِسُلطانِ اللهِ في الأرضِ ولم يُسالِموه قَطُّ، وانْطَلَقَ هو كذلك يُدَمِّرُ عليهم لِيُخرِجَ الناسَ مِن سُلطانِهم ويَدْفَعُ عنِ الإنسانِ في الأرضِ ذلك السلطانَ الغاصِبَ، حالةٌ دائمةٌ لا يَقِفُ معها الانطلاقُ الجهاديُّ التحريريُّ حتى يكونَ الدِّينُ كُلُّه للهِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ سيد قطب-: وحين تكونُ آصِرةُ [أَيْ رابِطةُ] التجمُّعِ الأساسِيَّةُ في مجتمَعٍ هي العقيدةَ والتَّصَوُّرَ والفكرةَ ومنهجَ الحياةِ، ويكون هذا كلُّه صادرًا مِن إلهٍ واحد تَتَمَثَّلُ فيه السِّيَادةُ العُلْيَا للبشرِ، وليس صادرًا مِن أَرْبَابٍ أَرْضِيَّةٍ تَتَمَثَّلُ فيها عُبُودِيَّةُ البشرِ للبشرِ، يكونُ ذلك التجمعُ مُمَثِّلًا لِأعْلَى ما في الإنسان مِن خصائصَ، خصائصِ الرُّوحِ والفكرِ؛ فأمَّا حين تكونُ آصِرةُ التجمع في مجتمعٍ هي الجنسَ واللونَ والقَومَ والأرضَ، وما إلى ذلك مِنَ الروابطِ، فظاهِرٌ أنَّ الجنسَ واللونَ والقَومَ والأرضَ لا تُمَثِّلُ الخصائصَ العُلْيَا للإنسان، فالإنسان يَبْقَى إنسانًا بعدَ الجنسِ واللونِ والقَومِ والأرضِ، ولكنَّه لا يَبْقَى إنسانًا بعدَ الرُّوحِ والفكرِ، ثم هو يَمْلُكُ -بِمَحْضِ إِرَادَتِهِ الحُرَّةِ- أنْ يُغَيِّرَ عقيدتَه وتَصَوُّرَه وفِكْرَه ومنهجَ حياتِه، ولكنه لا يَمْلُكُ أنْ يُغَيِّرَ لونَه ولا جنسَه، كما إنَّه لا يَمْلُكُ أنْ يُحَدِّدَ مَوْلِدَه في قَوْمٍ ولا في أرضٍ؛ فالمجتمَعُ الذي يَتَجَمَّعُ فيه الناسُ على أمرٍ يَتعلَّقُ بإرادتهم الحُرَّةِ واختيارِهم الذاتِيِّ هو المجتمَعُ المُتَحَضِّرُ، أمَّا المجتمَعُ الذي يَتَجَمَّعُ فيه الناسُ على أمرٍ خارِجٍ عن إرادتِهم الإنسانيَّةِ فهو المجتمَعُ المُتَخَلِّفُ، أو بالمصطلحِ الإسلاميِّ هو المجتمعُ الجاهليُّ؛ والمجتمَعُ الإسلامِيُّ وحده هو المجتمَعُ الذي تُمَثِّلُ فيه العقيدةُ رابِطةَ التجمُّعِ الأساسيةِ، والذي تُعْتَبَرُ فيه العقيدةُ هي الجنسيُّةُ التي تَجْمَعُ بين الأسودِ والأبيضِ والأحمرِ والأصفرِ والعربيِّ والروميِّ والفارسيِّ والحبشيِّ وسائرِ أجناسِ الأرضِ، في أُمَّةٍ واحدةٍ، رَبُّها اللهُ، وعُبُودِيَّتُها له وحده، والأكرمُ فيها هو الأَتْقَى... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ سيد قطب-: ليستْ وظيفةُ الإسلام أنْ يَصْطَلِحَ [أَيْ يَتَوَافَقَ ولا يَتَخاصَمَ] مع التصورات الجاهلية السائدة في الأرض، ولا الأوضاعِ الجاهليةِ القائمةِ في كلِّ مكانٍ، لم تكن هذه وظيفتَه يومَ جاءَ، ولن تكون هذه وظيفتَه اليومَ ولا في المستقبَلِ؛ فالجاهليةُ هي الجاهليةُ، هي الانحرافُ عن العبودية لله وحده وعنِ المنهجِ الإلهيِّ في الحياةِ، واستنباطُ النُّظُمِ والشرائعِ والقوانينِ والعاداتِ والتقاليدِ والقِيَمِ والموازينِ مِن مَصْدَرٍ آخر غيرِ المصدرِ الإلهيِّ؛ [وَ]الإسلامُ هو الإسلامُ، ووظيفتُه هي نَقْلُ الناسِ مِنَ الجاهليةِ إلى الإسلامِ؛ الجاهليةُ هي عبوديةُ الناسِ للناسِ، بتشريعِ بعضِ الناسِ للناسِ ما لم يَأْذَنْ به اللهُ، كائنةً ما كانَتِ الصُّورةُ التي يَتِمُّ بها هذا التشريعُ؛ والإسلامُ هو عبوديةُ الناسِ للهِ وحده (بتَلَقِّيهم منه وحده تَصَوُّراتِهم وعقائدَهم وشرائعَهم وقوانينَهم وقِيَمَهم وموازينَهم)، والتَّحَرُّرُ مِن عبوديةِ العبيدِ؛ هذه الحقيقةُ المنبثقةُ مِن طبيعةِ الإسلامِ وطبيعةِ دَوْرِه في الأرضِ هي التي يجبُ أنْ نُقَدِّمَ بها الإسلامَ للناس الذِين يؤمنون به والذِين لا يؤمنون به على السَّوَاءِ، إنَّ الإسلامَ لا يَقْبَلُ أنصافَ الحُلولِ مع الجاهليةِ، لا مِن ناحِيَةِ التصورِ، ولا مِن ناحِيَةِ الأوضاعِ المنبثقةِ مِن هذا التصورِ، فإمَّا إسلامٌ وإمَّا جاهليةٌ، وليس هنالك وَضْعٌ آخَرُ نِصْفُه إسلامٌ ونِصْفُه جاهليةٌ يَقْبَلُه الإسلامُ ويَرْضَاه، فنَظْرةُ الإسلامِ واضحةٌ في أنَّ الحقَّ واحدٌ لا يَتَعَدَّدُ، وأنَّ ما عَدَا هذا الحَقَّ فهو الضلالُ، وَهُمَا غيرُ قابِلَين للتَّلَبُّسِ والاِمْتِزاجِ، وأنَّه إمَّا حُكْمُ اللهِ وإمَّا حُكْمُ الجاهليةِ، وإمَّا شريعةُ الله وإمَّا الهَوَى، والآياتُ القرآنيةُ في هذا المعنَى كثيرةٌ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ سيد قطب-: لم يَجِئِ الإسلامُ لِيُرَبِّتَ على شَهَوَاتِ الناسِ المُمَثَّلةِ في تَصَوُّراتِهم وأَنْظِمَتِهم وأوضاعِهم وعاداتِهم وتقاليدِهم، سَوَاءٌ مِنْهَا مَا عاصَرَ مَجِيءَ الإسلامِ، أو ما تَخُوضُ البشريةُ فيه الآنَ، في الشرقِ أو في الغربِ سَوَاء [المراد بالشرق هو ما يُعْرَفُ بـ (الكتلة الشرقية أو الكتلة الشيوعية أو الكتلة الاشتراكية أو الكتلة السوفييتية أو العالم الشيوعي أو العالم الثاني أو المعسكر الشيوعي أو المعسكر الشرقي أو الجبهة الشرقية)، وهي مجموعة الدول الشيوعية (الاتحاد السوفياتي والصين وأُورُوبَّا الشرقية)، أو هي مجموعة الدول التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي؛ وأما المراد بالغرب فهو ما يُعْرَفُ بـ (الكتلة الغربية أو العالم الغربي أو العالم الأول أو العالم الحر أو المعسكر الرأسمالي أو المعسكر الغربي أو الجبهة الغربية أو الدول المتقدمة)، وهي مجموعة الدول الرأسمالية (أَمْرِيكا الشَّمالية وأُورُوبَّا الغربية وأُسْتُرالْيَا واليابان)، أو هي مجموعة الدول التي كانت تدور في فلك الولايات المتحدة الأَمْرِيكِيَّةِ]؛ إنَّما جاءَ لِيُلْغِيَ هذا كلَّه إلغاءً، ويَنْسَخَه نَسْخًا، ويُقِيمَ الحياةَ البشريةَ على أُسُسِه الخاصةِ، جاءَ لِيُنْشِئَ الحَيَاةَ إنشاءً، لِيُنْشِئَ حَيَاةً تَنْبَثِقُ منه انبثاقًا، وتَرْتَبِطُ بِمِحْوَرِه ارتباطًا؛ وقد تُشابِهُ جزئياتٌ منه جزئياتٍ في الحياة التي يَعِيشُها الناسُ في الجاهليةِ، ولكنَّها ليستْ هي وليستْ منها، إنَّما هي مُجَرَّدُ مُصادَفةِ التَّشابُهِ الظاهِريِّ الجانبيِّ في الفُروعِ، أمَّا أَصْلُ الشجرةِ فهو مُخْتَلِفٌ تمامًا، تلك شجرةٌ تُطْلِعُها حِكْمةُ اللهِ، وهذه شجرةٌ تُطْلِعُها أهواءُ البَشَرِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ سيد قطب-: وليس في إسلامِنا ما نَخْجَلُ منه وما نَضْطَرُّ للدفاعِ عنه، وليس فيه ما نَتَدَسَّسُ [التَدَسُّسُ هنا بمعنَى إِخْفاءِ شيءٍ داخِلَ شيءٍ آخَر] به للناس تَدَسُّسًا أو ما نَتَلَعْثَمُ في الجَهْرِ به على حقيقتِه؛ إنَّ الهزيمةَ الرُّوحِيَّةَ أمامَ الغربِ وأمامَ الشرقِ وأمامَ أوضاعِ الجاهلية هنا وهناك هي التي تَجعَلُ بعضَ الناس (المسلمِين) يَتَلَمَّسُ للإسلامِ مُوافَقاتٍ جُزئِيَّةً مِنَ النُّظُمِ البشريَّةِ، أو يَتَلَمَّسُ مِن أعمالِ (الحَضَارةِ الجاهليةِ) ما يَسْنُدُ به أعمالَ (الإسلامِ) وقَضَاءَه في بعضِ الأُمُورِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ سيد قطب-: إنَّه إذا كان هناك مَن يحتاجُ للدفاع والتبرير والاعتذار، فليس هو الذي يُقَدِّمُ الإسلامَ للناس، وإنَّما هو ذاك الذي يَحْيَا في هذه الجاهليةِ المُهَلْهَلةِ المَلِيئَةِ بالمُتَناقِضاتِ وبالنَّقائصِ والعُيوبِ، ويُرِيدُ أنْ يَتَلَمَّسَ المُبَرِّراتَ للجاهليةِ، وهؤلاء هُمُ الذِين يُهاجِمون الإسلامَ ويُلْجِئُون بعضَ مُحِبِّيه الذِين يَجْهَلون حَقِيقَتَه إلى الدفاع عنه، كأنَّه مُتَّهَمٌ مُضْطَرٌّ للدفاع عن نَفْسِه في قَفَصِ الاتِّهامِ!؛ بعضُ هؤلاء كانوا يُواجِهوننا -نحن القَلَائِلَ المُنْتَسِبِين إلى الإسلامِ- في أَمْرِيكا في السنواتِ التي قَضَيْتُها هناك، وكان بعضُنا يَتَّخِذُ مَوقِفَ الدفاعِ والتبريرِ، وكنتُ على العكسِ أَتَّخِذُ مَوقِفَ المُهاجِمِ للجاهليةِ الغربيةِ، سَوَاءً في معتقداتِها الدينيَّةِ المُهَلْهَلةِ، أو في أوضاعِها الاجتماعيةِ والاقتصاديةِ والأخلاقيةِ المُؤْذِيَةِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ سيد قطب-: إننا نحن (الذِين نُقَدِّمُ الإسلامَ للناس) ليس لنا أنْ نُجارِيَ الجاهليةَ في شيء مِن تَصَوُّراتِها، ولا في شيء مِن أوضاعِها، ولا في شيء مِن تقاليدِها، مَهْمَا يَشْتَدُّ ضَغْطُها علينا؛ إنَّ وظيفتَنا الأولى هي إحلالُ التَّصوُّراتِ الإسلاميةِ والتقاليدِ الإسلاميةِ في مكانِ هذه الجاهليةِ، ولن يتحققَ هذا بِمُجاراةِ الجاهليةِ والسَّيْرِ معها خطواتٍ في أَوَّلِ الطريقِ، كما قد يُخَيَّلُ إلى البعضِ منا، إنَّ هذا معناه إعلانُ الهزيمةِ منذ أَوَّلِ الطريقِ؛ إنَّ ضَغْطَ التَّصوُّراتِ الاجتماعيةِ السائدةِ والتقاليدِ الاجتماعيةِ الشائعةِ ضَغْطٌ ساحِقٌ عَنِيفٌ، ولكنْ لا بُدَّ مما ليس منه بُدٌّ، لا بُدَّ أنْ نَثْبُتَ أَوَّلًا، ولا بُدَّ أنْ نَسْتَعْلِيَ ثانيًا، ولا بُدَّ أنْ نُرِيَ الجاهليةَ حقيقةَ الدَّرَكِ الذي هي فيه بالقِيَاسِ إلى الآفاقِ العُلْيَا المُشْرِقةِ للحياةِ الإسلاميةِ التي نُرِيدُها... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ سيد قطب-: [قالَ تَعالَى] {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}، أَوَّلُ ما يَتَبادَرُ إلى الذِّهْنِ مِن هذا التَّوجِيهِ [الذي في الآيَةِ] أنه يَنْصَبُّ على حالة الجهاد المُمَثَّلةِ في القتالِ، ولكنَّ حقيقةَ هذا التَّوجِيهِ ومَدَاه أكبرُ وأَبعَدُ مِن هذه الحالة المُفْرَدةِ بكُلِّ مُلَابَساتِها الكثيرةِ؛ إنَّه يُمَثِّلُ الحالةَ الدائمةَ التي يَنْبَغِي أنْ يكونَ عليها شُعُورُ المُؤْمِنِ وتَصَوُّرُه وتقديرُه للأشياءِ والأحداثِ والقِيَمِ والأشخاصِ سَوَاءً، إنه يُمَثِّلُ حالةَ الاستعلاءِ التي يَجِبُ أن تَستَقِرَّ عليها نَفْسُ المُؤْمِنِ إزاءَ كُلِّ شيءٍ وكُلِّ وَضْعٍ وكُلِّ قِيمةٍ وكُلِّ أَحَدٍ، الاستعلاء بالإيمان وقِيَمِه على جميع القِيَمِ المنبثقة مِن أصلٍ غيرِ أصلِ الإيمان، الاستعلاء على قُوَى الأرضِ الحائدة عن منهج الإيمان، وعلى قِيَمِ الأرضِ التي لم تَنبَثِقْ مِن أصلِ الإيمانِ، وعلى تقاليد الأرض التي لم يَصُغْها الإيمانُ، وعلى قوانينِ الأرضِ التي لم يُشَرِّعْها الإيمانُ، وعلى أوضاعِ الأرضِ التي لم يُنْشِئْها الإيمانُ، الاستعلاء، مع ضَعْفِ القُوَّةِ وقِلَّةِ العَدَدِ وفَقْرِ المالِ، كالاستعلاء مع القُوَّةِ والكَثْرةِ والغِنَى على السَّوَاءِ، الاستعلاء الذي لا يَتَهاوَى أَمَامَ قُوَّةٍ باغِيَةٍ، ولا عُرْفٍ اجتماعيٍّ، ولا تشريعٍ باطلٍ، ولا وَضْعٍ مقبولٍ عند الناس لا سَنَدَ له مِنَ الإيمانِ؛ وليست حالةُ التَّماسُكِ والثَّباتِ في الجهادِ إلَّا حالةً واحدةً مِن حالاتِ الاستعلاءِ التي يَشمَلُها هذا التَّوْجِيهُ الإلهيُّ العظيمُ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ سيد قطب-: إنَّ للمجتمع مَنْطِقَه السائدَ وعُرْفَه العامَّ وضَغْطَه الساحقَ ووَزْنَه الثَّقِيلَ، على مَن ليس يَحْتَمِي منه برُكْنٍ رَكِينٍ، وعلى مَن يُواجِهُه بلا سَنَدٍ مَتِينٍ؛ وللتَّصَوُّراتِ السائدةِ والأفكارِ الشائعةِ إيحاؤهما الذي يَصْعُبُ التَّخَلُّصُ منه بغيرِ الاستقرارِ على حقيقةٍ تَصْغُرُ في ظِلِّها تلك التَّصَوُّراتُ والأفكارُ، و[بغيرِ] الاستمدادِ مِن مَصدَرٍ أَعْلَى وأَكبَرَ وأَقْوَى؛ والذي يَقِفُ في وَجْهِ المجتمَعِ، ومَنْطِقِه السائدِ، وعُرْفِه العامِّ، وقِيَمِه واعتباراتِه، وأفكارِه وتصوراتِه، وانحرافاتِه ونَزَواتِه، يَشْعُرُ بالغُرْبةِ، كما يَشْعُرُ بالوَهَنِ، ما لم يَكُنْ يَستَنِدُ إلى سَنَدٍ أَقْوَى مِنَ الناسِ، وأَثْبَتَ مِنَ الأرضِ، وأَكْرَمَ مِنَ الحياةِ؛ واللهُ لا يَتْرُكُ المؤمنَ وحيدا يُواجِهُ الضَّغْطَ ويَنُوءُ به الثِّقَلُ ويَهُدُّه الوَهَنُ والحُزْنُ، ومِن ثَمَّ يَجِيءُ هذا التَّوجِيهُ {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}، يَجِيءُ هذا التَّوجِيهُ ليُواجِهَ الوَهَنَ، كما يُواجِهُ الحُزْنَ، وهما الشُّعوران المُباشِران اللذان يُساوِران النَّفْسَ في هذا المَقَامِ، يُواجِهُهما بالاستعلاءِ لا بِمُجَرَّدِ الصبرِ والثَّباتِ، الاستعلاء الذي يَنْظُرُ مِن عَلٍ إلى القُوَّةِ الطاغِيَةِ، والقِيَمِ السائدةِ، والتَّصَوُّراتِ الشائعةِ، والاعتباراتِ والأوضاعِ والتقاليدِ والعاداتِ، والجماهيرِ المُتَجَمِّعةِ على الضلالِ؛ إنَّ المُؤْمِنَ هو الأعلَى، الأَعْلَى سَنَدًا ومَصْدَرًا، فما تكونُ الأرضُ كُلُّها؟ وما يكونُ الناسُ؟ وما تكونُ القِيَمُ السائدةُ في الأرضِ؟ والاعتباراتُ الشائعةُ عند الناسِ؟ وهو مِن اللهِ يَتَلَقَّى وإلى اللهِ يَرْجِعُ وعلى مَنْهَجِه يَسِيرُ؟، وهو الأعلى تَصَوُّرًا للقِيَمِ والمَوازِين التي تُوزَنُ بها الحياةُ والأحداثُ والأشياءُ والأشخاصُ، وهو الأعلى ضميرا وشعورا وخُلُقًا وسُلوكا، وهو الأعلى شريعةً ونِظَامًا؛ وحين يُراجِعُ المؤمنُ كُلَّ ما عَرَفَتْه البشريةُ قديمًا وحديثًا ويَقِيسُه إلى شريعتِه ونِظَامِه، فسيراه كُلَّه أَشْبَهَ شيءٍ بمحاولاتِ الأطفالِ وخَبْطِ العُمْيَانِ إلَى جانبِ [أَيْ بالنِّسْبةِ إلَى] الشريعةِ الناضجةِ والنِّظَامِ الكامِلِ، وسينظرُ إلى البشرية الضالَّةِ مِن عَلٍ في عَطْفٍ وإشفاقٍ على بُؤسِها وشِقْوَتِها، ولا يَجِدُ في نَفْسِه إلَّا الاستعلاءَ على الشِّقْوَةِ والضلالِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ سيد قطب-: و[عندما] يَقِفُ المسلمُ مَوقِفَ المغلوبِ المُجَرَّدِ مِنَ القُوَّةِ الماديَّةِ، فلا يُفارِقُه شُعورُه بأنَّه الأَعْلَى، ويَنْظُرُ إلى غالِبِه [أَيِ المُتَغَلِّبِ عليه] مِن عَلٍ ما دامَ مُؤْمِنًا، ويَستَيقِنُ أنَّها فَتْرةٌ وتَمْضِي وأنَّ للإيمان كَرَّةً لا مَفَرَّ منها، وَهَبْها [أَيْ وَاحْسُبْها] كانَتِ القاضِيَةَ فإنَّه لا يُحْنِي لها رَأْسًا، إنَّ الناسَ كُلَّهم يَمُوتون أَمَّا هو فيَسْتَشْهِدُ، وهو يُغادِرُ هذه الأرضَ إلى الجَنَّةِ، وغالِبُه [أَيْ وَالمُتَغَلِّبُ عليه] يغادِرُها إلى النارِ، وَشَتَّانَ شَتَّانَ، وهو يسمعُ نِداءَ رَبِّه الكريمِ {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ، وَبِئْسَ الْمِهَادُ، لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ، وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ}، وتَسُودُ المجتمعَ عقائدُ وتصوراتٌ وقِيَمٌ وأوضاعٌ كُلُّها مُغايِرٌ لعقيدتِه وتَصَوُّرِه وقِيَمِه ومَوازِينِه، فلا يُفارِقُه شُعورُه بأنَّه الأعلَى، وبأنَّ هؤلاء كُلَّهم في المَوْقِفِ الدُّونِ، ويَنْظُرُ إليهم مِن عَلٍ في كَرَامةٍ واعتزازٍ، وفي رَحْمةٍ كذلك وعَطْفٍ، ورَغْبةٍ في هِدَايَتِهم إلى الخَيْرِ الذي معه، ورَفْعِهم إلى الأُفُقِ الذي يعيشُ فيه؛ ويَضِجُّ الباطلُ ويَصْخَبُ، ويَرْفَعُ صَوْتَه ويَنْفُشُ رِيشَه، وتُحيِطُ به الهالاتُ المُصْطَنَعةُ التي تَغْشَي على الأَبصارِ والبَصائرِ فلا تَرَى ما وراءَ الهالات مِن قُبْحٍ شائهٍ [أَيْ قَبِيحٍ] دَمِيمٍ، وفَجْرٍ كالِحٍ [أَيْ باهِتٍ] لَئِيمٍ، ويَنْظُرُ المؤمنُ مِن عَلٍ إلى الباطلِ المُنْتَفِشِ، وإلى الجُموعِ المَخدوعةِ، فلا يَهِنُ ولا يَحْزَنُ، ولا يَنْقُصُ إصرارُه على الحَقِّ الذي معه، وثَبَاتُه على المنهجِ الذي يَتَّبِعُه، ولا تَضْعُفُ رَغْبَتُه كذلك في هِدايَةِ الضالِّين والمخدوعِين؛ ويَغْرَقُ المجتمَعُ في شهواته الهابطة، ويَمْضِي مع نَزَواتِه الخَلِيعةِ، ويَلْصَقُ بالوَحْلِ والطِّينِ، حاسِبًا أنَّه يَستَمتِعُ ويَنطَلِقُ مِنَ الأغلالِ والقُيودِ، وتَعِزُّ في مِثْلِ هذا المجتمَعِ كُلُّ مُتْعةٍ بَرِيئةٍ وكُلُّ طَيِّبةٍ حَلَالٍ، ولا يَبْقَى إلَّا المشروعُ الآسِنُ [أَيِ النَّتِنُ]، وإلَّا الوَحْلُ والطِّينُ، ويَنْظُرُ المُؤْمِنُ مِن عَلٍ إلى الغارِقِين في الوَحْلِ اللاصِقِين بالطِّينِ، وهو مُفْرَدٌ وَحِيدٌ، فلا يَهِنُ ولا يَحْزَنُ، ولا تُراوِدُه نَفْسُه أنْ يَخْلَعَ رِداءَه النَّظِيفَ الطَّاهرَ ويَنْغَمِسَ في الحَمْأةِ [الحَمْأةُ هي الطِّينُ الأسْوَدُ الْمُنْتِنُ]، وهو الأعلَى بِمُتْعةِ الإيمانِ وَلَذَّةِ اليَقِين... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ سيد قطب-: ويَقِفُ المُؤْمِنُ قابِضًا على دِينِه كالقابضِ على الجَمْرِ في المجتمعِ الشارِدِ عن الدِّينِ، وعنِ الفَضِيلةِ، وعنِ القِيَمِ العُلْيَّا، وعنِ الاهتماماتِ النَّبِيلةِ، وعن كُلِّ ما هو طاهرٌ نظيفٌ جميلٌ، ويَقِفُ الآخَرون هازِئِين بوَقْفَتِه، ساخِرِين مِن تَصَوُّراتِه، ضاحِكِين مِن قِيَمِه، فما يَهِنُ المُؤْمِنُ وهو يَنْظُرُ مِن عَلٍ إلى الساخِرِين والهازِئِين والضاحِكِين، وهو يقولُ -كما قالَ واحدٌ مِنَ الرَّهْطِ الكِرَامِ الذِين سَبَقُوه في مَوْكِبِ الإيمانِ العَرِيقِ الوَضِيءِ [أَيِ المُشْرِقِ]، في الطَّرِيقِ اللَّاحِبِ [أَيِ الواضحِ المستقيمِ] الطَّوِيلِ، [وهو] نُوحٌ عليه السلامُ- {إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}، وهو يَرَى نِهَايَةَ المَوْكِبِ الوَضِيءِ، ونِهَايَةَ القافِلةِ البائسةِ، في قولِه تعالى {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ، وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ، وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ، وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ، وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ، فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ، عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ، هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ سيد قطب-: إنَّ المُؤْمِنَ لا يَستَمِدُّ قِيَمَه وتَصَوُّراتِه وموازِينَه مِنَ الناس حتى يَأْسَى على تَقْدِيرِ الناسِ، إنما يَستَمِدُّها مِن رَبِّ الناس وهو حَسْبُه وكافِيه؛ إنه لا يَستَمِدُّها مِن شَهَواتِ الخَلْقِ حتى يَتَأَرْجَحَ مع شَهَواتِ الخَلْقِ، وإنَّما يَستَمِدُّها مِن مِيزانِ الحقِّ الثابتِ الذي لا يَتَأَرْجَحُ ولا يَمِيلُ، فأَنَّى يَجِدُ في نَفْسِه وَهَنًا أو يَجِدُ في قَلْبِه حُزْنًا وهو موصولٌ برَبِّ الناسِ ومِيزانِ الحقِّ؟، إنَّه على الحقِّ، فماذا بعدَ الحقِّ إلَّا الضلالُ؟، وَلْيَكُنْ للضلالِ سُلْطانُه، وَلْيَكُنْ له هَيْلُه وهَيْلَمَانُه [المُرادُ بالهَيْلِ والهَيْلَمانِ المالُ الكثيرُ]، وَلْتَكُنْ معه جُمُوعُه وجَماهِيرُه، إنَّ هذا لا يُغَيِّرُ مِنَ الحقِّ شيئًا، إنَّه [أَيِ المُؤمِنَ] على الحقِّ وليس بعدَ الحقِّ إلَّا الضلالُ، ولن يَخْتارَ مُؤمِنٌ الضلالَ على الحقِّ -وهو مُؤمِنٌ- ولن يَعْدِلَ بالحقِّ الضلالَ كائنةً ما كانَتِ المُلَابَساتُ والأحوالُ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ سيد قطب-: إنَّ قِصَّةَ أصحابِ الأُخْدُودِ -كما وَرَدَتْ في سُورَةِ البُرُوجِ- حَقِيقَةٌ بأنْ يَتَأَمَّلَها المؤمنون الداعُّون إلى اللهِ في كُلِّ أرضٍ وفي كُلِّ جِيلٍ، إنَّها قِصَّةُ فِئَةٍ آمَنَتْ برَبِّها، وَاسْتَعْلَتْ حَقِيقةَ إيمانِها، ثم تَعَرَّضَتْ للفِتنةِ مِن أعداءٍ جَبَّارِين بَطَّاشِين، وقد اِرتَفَعَ الإيمانُ بهذه القُلوبِ على الفِتنةِ، وانْتَصَرَتْ فيها العقيدةُ على الحَيَاةِ، فَلَمْ تَرْضَخْ لِتَهدِيدِ الجَبَّارِين الطُّغاةِ، ولم تُفْتَنْ عن دِينِها وهي تُحْرَقُ بالنَّارِ حتى تَمُوتَ؛ لقد تَحَرَّرَتْ هذه القُلوبُ مِن عُبُودِيَّتِها للحياةِ، فَلَمْ يَسْتَذِلَّهَا حُبُّ البَقَاءِ وهي تُعايِنُ المَوتَ بهذه الطَّرِيقةِ البَشِعةِ، وانطلقتْ مِن قُيودِ الأرضِ وجَوَاذِبِها جميعًا وارتَفَعَتْ على ذَوَاتِها بانتصارِ العقيدةِ على الحياةِ فيها [أَيْ في الأرضِ]؛ وفي مُقابِلِ هذه القُلوبِ المُؤمِنةِ الخَيِّرةِ الرَّفِيعةِ الكريمةِ هناك جِبِلَّاتٌ جاحِدةٌ شِرِّيرةٌ مُجرِمةٌ لَئِيمةٌ، وجَلَسَ أَصْحابُ هذه الجِبِلَّاتِ على النَّارِ يَشْهَدون كيفَ يَتَعَذَّبُ المؤمنون ويَتَأَلَّمون، جلسوا يَتَلَهَّوْنَ بمَنْظَرِ الحياةِ تَأْكُلُها النارُ، والأَنَاسِيُّ الكِرامُ يَتَحَوَّلون وَقُودًا وتُرَابًا، وكُلَّما أُلْقِيَ فَتًى أو فَتَاةٌ، صَبِيَّةٌ أو عَجُوزٌ، طِفْلٌ أو شَيْخٌ، مِنَ المؤمِنِين الخَيِّرِين الكِرَامِ في النَّارِ، اِرْتَفَعَتِ النَّشْوةُ الخَسِيسةُ في نُفُوسِ الطُّغاة؛ هذا حادِثٌ بَشِعٌ انْتَكَسَتْ فيه جِبِلَّاتُ الطُّغاةِ، فَرَاحَتْ تَلْتَذُّ مَشْهَدَ التَّعْذِيبِ المُرَوِّعَ العَنِيفَ بهذه الخَسَاسةِ التي لم يَرْتَكِسْ فيها وَحْشٌ قَطُّ، فالوَحْشُ يَفْتَرِسُ لِيَقْتَاتَ، لا لِيَلْتَذَّ آلَامَ الفَرِيسةِ في لُؤْمٍ وخِسَّةٍ، وهو حادِثٌ ارتفعتْ فيه أَرْواحُ المؤمِنِين وتَحَرَّرَتْ وانطلقتْ إلى ذلك الأَوْجِ [أَيْ أعلَى المَراتِبِ] السَّامِي الرَّفِيعِ، الذي تَشْرُفُ به البشريَّةُ في جميعِ الأَجْيَالِ والعُصُورِ؛ في حِسَابِ الأَرْضِ يَبْدُو أنَّ الطُّغْيَانَ قد انتصرَ على الإيمانِ، وإنَّ هذا الإيمانَ الذي بَلَغَ الذُّرْوَةَ العالِيَةَ في نُفُوسِ الفِئَةِ الخَيِّرةِ الكريمةِ الثابتةِ المُسْتَعْلِيةِ، لم يَكُنْ له وَزْنٌ ولا حِسَابٌ في المعركةِ التي دارتْ بين الإيمانِ والطُّغْيَانِ؛ ولا تَذْكُرُ الرِّوَايَاتُ التي وَرَدَتْ في هذا الحادِثِ، كما لا تَذْكُرُ النُّصُوصُ القُرآنِيَّةُ، أنَّ اللهَ قد أَخَذَ أولئك الطُّغَاةَ في الأرضِ بجَرِيمَتِهم البَشِعةِ، كما أَخَذَ قَوْمَ نُوحٍ وَقَوْمَ هُودٍ وَقَوْمَ صالحٍ وَقَوْمَ شُعَيْبٍ وَقَوْمَ لُوطٍ، أو كما أَخَذَ فِرْعَونَ وجُنودَه أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ، ففي حِسَابِ الأَرْضِ تَبْدُو هذه الخاتِمةُ أَسِيفةً [أَيْ حَزِينةً] ألِيمةً، أَفَهَكَذَا يَنْتَهِي الأَمْرُ؟، وتَذهَبُ الفِئَةُ المؤمِنةُ التي ارتفعتْ إلى ذُرْوَةِ الإيمانِ، تَذهَبُ مع آلَامِها الفاجِعةِ في الأُخْدُودِ؟، بينما تَذهَبُ الفئةُ الباغِيَةُ ناجِيَةً؟؛ حِسَابُ الأَرْضِ يَحِيكُ في الصَّدْرِ شَيْئًا أمامَ هذه الخاتِمةِ الأَسِيفةِ، ولكِنَّ القرآنَ يُعَلِّمُ المؤمِنِين شيئًا آخَرَ، ويَكْشِفُ لهم عن حقيقةٍ أُخْرَى، ويُبَصِّرُهم بطبيعةِ القِيَمِ التي يَزِنُون بها، وبمَجَالِ المَعرَكةِ التي يَخُوضُونها، إنَّ الحياةَ وسائرَ ما يُلَابِسُها مِن لَذائذَ وآلَامٍ، ومِن مَتَاعٍ [أَيْ تَمَتُّعٍ] وحِرْمانٍ، ليست هي القيمةَ الكُبرَى في المِيزانِ، وليست هي السِّلْعةَ التي تُقَرِّرَ حِسَابَ الرِّبْحِ والخَسَارةِ، والنَّصْرُ ليس مقصورًا على الغَلَبةِ الظاهرةِ، فهذه صُورةٌ واحدةٌ مِن صُوَرِ النَّصرِ الكثيرةِ، إنَّ القِيمةَ الكُبرَى في مِيزانِ اللهِ هي قِيمةُ العقيدةِ، وإنَّ السِّلْعةَ الرائجةَ في سُوقِ اللهِ هي سِلْعةُ الإيمانِ، وإنَّ النَّصرَ في أَرفَعِ صُوَرِه هو انتصارُ الرُّوحِ على المادَّةِ، وانتصارُ العقيدةِ على الأَلَمِ، وانتصارُ الإيمانِ على الفِتنةِ، وفي هذا الحادِثِ انتصرتْ أرواحُ المؤمِنِين على الخَوفِ والأَلَمِ، وانتصرتْ على جَوَاذِبِ الأرضِ والحياةِ، وانتصرتْ على الفِتنةِ، انتصارًا يُشَرِّفُ الجِنْسَ البشرِيَّ كلَّه في جَمِيعِ الأعصارِ، وهذا هو الانتصارُ، إنَّ الناسَ جميعًا يَمُوتون، وتَخْتَلِفُ الأسبابُ، ولكنَّ الناسَ جميعًا لا يَنتصِرون هذا الانتصارَ، ولا يَرتَفِعون هذا الارتفاعَ، ولا يَتَحَرَّرون هذا التَّحَرُّرَ، ولا يَنطلِقون هذا الانطلاقَ إلى هذه الآفاقِ، إنما هو اختيارُ اللهِ وتكريمُه لِفِئَةٍ كريمةٍ مِن عبادِه لِتُشارِكَ الناسَ في المَوتِ، وتَنْفَرِدُ دُونَ الناسِ في المَجْدِ، المَجْدِ في المَلأِ الأعلَى، وفي دُنْيَا الناسِ أيضًا، إذا نحن وَضَعْنا في الحِسَابِ نَظْرةَ الأجيالِ بعدَ الأجيالِ، لقد كان في استطاعةِ المؤمِنِين أن يَنْجُوا بحَياتِهم في مُقابِلِ الهزيمةِ [يعني الهَزيمةَ (الظاهرةَ) إذا تَرَخَّصُوا] لإيمانِهم، ولكنْ كَمْ كانوا يَخْسَرون هُمْ أنفسُهم؟، وكَمْ كانتِ البشرِيَّةُ كُلُّها تَخْسَرُ؟، كَمْ كانوا يَخْسَرون وَهُمْ يَقْتُلون هذا المعنَى الكبيرَ، مَعْنَى زَهَادَةِ الحياةِ [أَيِ الزُّهْدِ في الحياةِ] بِلَا عقيدةٍ، وبَشاعَتِها [أَيْ وَاسْتِبشاعِها] بِلَا حُرِّيَّةٍ، وانحطاطِها حين يُسَيْطِر الطُّغاةُ على الأرواحِ بعد سيطرتِهم على الأَجْسادِ؟، إنه مَعْنًى كريمٌ جدًّا ومَعْنًى كبيرٌ جدًّا هذا الذي رَبِحُوه وَهُمْ بَعْدُ في الأرضِ، رَبِحُوه وَهُمْ يَجِدُون مَسَّ النارِ، فتَحْتَرِقُ أجسادُهم الفانِيَةُ، ويَنتصِرُ هذا المعنَى الكريمُ الذي تُزَكِّيه النارُ، ثُمَّ إنَّ مجالَ المعركةِ ليس هو الأرضَ وحدها، وليس هو الحياةَ الدنيا وحدها، وشُهُودُ المعركةِ ليسوا هُمُ الناسَ في جِيلٍ مِنَ الأجيالِ، إنَّ المَلَأ الأعلَى يُشارِكُ في أحداثِ الأرضِ ويَشْهَدُها ويَشْهَدُ عليها، ويَزِنُها بمِيزانٍ غيرِ مِيزانِ الأرضِ، والمَلأُ الأعلَى يَضُمُّ مِنَ الأرواحِ الكريمةِ أَضْعافَ أَضْعافِ ما تَضُمُّ الأرضُ مِنَ الناسِ، وما مِنْ شَكٍّ أنَّ ثَنَاءَ المَلأِ الأعلَى وتكريمَه أكبرُ وأرجحُ في أَيِّ مِيزانٍ مِن رَأْيِ أهلِ الأرضِ وتقديرِهم على الإطلاق، وبعد ذلك كلِّه هناك الآخِرَةُ، وهي المَجَالُ الأصيلُ الذي يَلْحَقُ به مَجَالُ الأرضِ، ولا يَنفَصِلُ عنه، لا في الحقيقةِ الواقعةِ، ولا في حِسِّ المُؤمِنِ بهذه الحقيقةِ، فالمعركةُ إِذَنْ لم تَنْتَهِ، وخاتمتُها الحقيقيَّةُ لم تَجِئْ بَعْدُ، والحُكْمُ عليها بالجُزْءِ الذي عُرِضَ منها على الأرضِ حُكْمٌ غيرُ صحيحٍ، لأنَّه حُكْمٌ على الشَّطْرِ [أَيِ الجُزْءِ] الصغيرِ منها والشَّطْرِ الزَّهِيدِ. انتهى باختصار.

 

(9)وقالَ الشيخُ أبو محمد المقدسي في (مِلَّة إبراهيمَ): يَقولُ تَعالَى عن مِلَّةِ إبراهِيمَ {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ}، ويَقولُ أيضًا مُخاطِبًا نَبِيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، بهذه النَّصاعةِ وبهذا الوُضوحِ بَيَّنَ اللهُ تَعالَى لنا المِنْهاجَ والطَّرِيقَ، فالطَّرِيقُ الصَّحِيحُ والمِنْهاجُ القَوِيمُ هو مِلَّةُ إبراهِيمَ، لا غُموضَ في ذلك ولا الْتِباسَ، ومَن يَرْغَبْ عن هذه الطَّرِيقِ بحُجَّةِ مَصْلَحةِ الدَّعوةِ أو أنَّ سُلُوكَها يَجُرَّ فِتَنًا ووَيْلَاتٍ على المُسلِمِين أو غيرَ ذلك مِنَ المَزاعِمِ الجَوْفاءِ [التي يَدَّعِيها أَدْعِيَاءُ السَّلَفِيَّةِ (الذِين يَحمِلُون فِكْرَ المُرْجِئَةِ) وجَمَاعةُ الإخوانِ المُسلِمِين (الذِين يَحمِلُون فِكْرَ المَدْرَسَةِ العَقْلِيَّةِ الاعْتِزالِيَّةِ)] التي يُلقِيها الشَّيطانُ في نُفوسِ ضُعَفاءِ الإيمانِ، فهو سَفِيهٌ مَغْرُورٌ يَظُنُّ نَفْسَه أَعْلَمَ بأُسلوبِ الدَّعْوَةِ مِن إبراهِيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ الذي زكَّاه اللهُ فقالَ {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ}، وقال {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}، وزَكَّى دَعْوَتَه لنا وأَمَرَ خاتَمَ الأنبِياءِ والمُرسَلِين بِاتِّباعِها، وَجَعَلَ السَّفَاهةَ وَصْفًا لِكُلِّ مَن رَغِبَ عن طَرِيقِه ومَنهَجِه؛ ومِلَّةُ إبراهِيمَ هي إخلاصُ العِبادةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ (بِكُلِّ ما تَحْوِيه كَلِمةُ العِبادةِ مِن مَعانٍ)، والبَراءةُ مِنَ الشِّركِ وأهْلِه، وهذا هو التَّوحِيدُ الذي دَعا إليه الرُّسُلُ صَلَواتُ اللهِ وسَلامُه عليهم أَجْمَعِين، وهو مَعْنَى (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، إخلاصٌ، وتَوحِيدٌ وإفرادٌ للهِ عَزَّ وجَلَّ في العِبادةِ، والوَلاءُ لِدِينِه ولأولِيائه، وكُفرٌ وبَرَاءَةٌ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ ومُعاداةُ أعدائه، فهو تَوحِيدٌ اعتِقادِيٌّ وعَمَلِيٌّ في آنٍ واحِدٍ، فسُورةُ (الإخلاصِ) دَلِيلٌ على الاعتِقادِيِّ منه، وسُورةُ (الكافرون) دَلِيلٌ على العَمَلِيِّ، وكانَ النبيُّ صَلَواتُ اللهِ وسَلامُه عليه يُكثِرُ مِنَ القِراءةِ بِهاتَين السُّورَتَين ويُداوِمُ عليهما -في سُنَّةِ الفَجْرِ وغَيرِها- لأهَمِّيَّتِهما البالغةِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المقدسي-: وقد يَظُنُّ ظانٌّ أنَّ مِلَّةَ إبراهِيمَ هذه تَتَحَقَّقُ في زَمانِنا هذا بدِراسةِ التَّوحِيدِ ومَعرِفةِ أقسامِه وأَنْوَاعِهِ الثَّلَاثَةِ مَعرِفةً نَظَرِيَّةً وَحَسْبُ، مع السُّكوتِ عن أهلِ الباطِلِ وعَدَمِ إعلانِ وإظهارِ البَراءةِ مِن باطِلِهم، فَلِمِثْلِ هؤلاء نَقولُ، لو أنَّ مِلَّةَ إبراهِيمَ كانَتْ هَكَذَا لَمَا ألقاه قَومُه مِن أجلِها في النارِ، بَلْ رُبَّما لو أنَّه داهَنَهم وسَكَتَ عن بَعضِ باطِلِهم ولم يُسَفِّهْ آلِهَتَهم ولا أعلَنَ العَداوةَ لهم واكْتَفَى بتَوحِيدٍ نَظَرِيٍّ يَتَدارَسُه مع أتْباعُه تَدارُسًا لا يَخْرُجُ إلى الواقعِ العَمَلِيِّ مُتَمَثِّلًا بالوَلاءِ والبَراءِ والحُبِّ والبُغضِ والمُعاداةِ والهِجْرانِ في اللهِ، رُبَّما لو أنَّه فَعَلَ ذلك لَفَتَحُوا له جَمِيعَ الأبوابِ، بَلْ رُبَّما أسَّسوا له مَدارِسَ ومَعاهِدَ -كما في زَمانِنا- يُدَرَّسُ فيها هذا التَّوحِيدُ النَّظَرِيُّ، ولَرُبَّما وَضَعُوا عليها لافِتاتٍ ضَخْمةً وسَمَّوْهَا (مَدرَسةَ -أو مَعهَدَ- التَّوحِيدِ، وكُلِّيَّةَ الدَّعوةِ وأُصولِ الدِّينِ) وما إلى ذلك، فهذا كُلُّه لا يَضُرُّهم ولا يُؤَثِّرُ فيهم ما دامَ لا يَخْرُجُ إلى الواقِعِ والتَّطْبِيقِ، ولو خَرَّجَتْ لهم هذه الجامِعاتُ والمَدارِسُ والكُلِّيَّاتُ آلَافَ الأُطْرُوحاتِ ورَسائلِ الماجستيرِ والدُّكْتُورَاةِ في الإخلاصِ والتَّوحِيدِ والدَّعوةِ، لَمَا أَنكَروا ذلك عليها، بَلْ لَبارَكُوها ومَنَحُوا أصحابَها جَوَائزَ وشَهَاداتٍ وألْقابًا ضَخْمةً ما دامَتْ لا تَتَعَرَّضُ لباطِلِهم وحالِهم وواقِعِهم، وما دامَتْ على ذلك الحالِ المَمْسُوخِ، يقولُ الشيخُ عبدُاللطيف بنُ عبدالرحمن [بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب] في (الدرر السنية) {لا يُتَصَوَّرُ أنَّ -أَحَدًا- يَعرِفُ التَّوحِيدَ ويَعمَلُ به ولا يُعادِي المُشرِكِين، ومَن لم يُعادِهم لا يُقالُ له (عَرَفَ التَّوحِيدَ وعَمِلَ به)}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المقدسي-: وَكَذَلِكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، لو أنَّه سَكَتَ في بادِئِ الأمْرِ عن تَسفِيهِ أَحْلامِ قُرَيْشٍ، والتَّعَرُّضِ لآلِهَتِهم وعَيْبِها، ولو أنَّه -حَاشَاهُ- كَتَمَ الآيَاتِ التي فيها تَسفِيهٌ لِمَعبوداتِهم كاللَّاتِ والعُزَّى ومَنَاةَ الثالِثَةِ الأُخرَى، والآيَاتِ التي تَتَعَرَّضُ لأَبِي لَهَبٍ والْوَلِيدِ [هو الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، أبو خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللهُ عنه، وَعَمُّ أَبِي جَهْلٍ (عَمْرِو بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ)، وقد نَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}] وغيرِهما، وَكَذَا آيَاتِ البَراءةِ منهم ومِن دِينِهم ومَعبوداتِهم -وما أكثَرَها- كَسُورةِ (الكافِرون) وغيرِها، لو فَعَلَ ذلك، وحَاشَاهُ مِن ذلك، لَجالَسُوه ولَأكْرَموه وقَرَّبُوه، ولَمَا وَضَعوا على رَأْسِه سَلَى [قَالَ النَّوَوِيُّ في (شرح صحيح مسلم): (السَّلَى) اللِّفَافَةُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْوَلَدُ فِي بَطْنِ النَّاقَةِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ، وَهِيَ مِنَ الآدَمِيَّةِ (الْمَشِيمَةُ). انتهى باختصار] الْجَزُورِ وهو ساجِدٌ، ولَمَا حَصَلَ له ما حَصَلَ مِن أذاهُمْ مِمَّا هو مَبسُوطٌ ومَذكورٌ في الثابِتِ مِنَ السِّيرَةِ، ولَمَا اِحتاجَ إلى هِجرةٍ وتَعَبٍ ونَصَبٍ وعَناءٍ، ولَجَلَسَ هو وأصحابُه في دِيارِهم وأوطانِهم آمِنِين [قالَ الشيخُ المهتدي بالله الإبراهيمي في (توفيق اللطيف المنان): شَقَّ عَلَى أَبِي طَالِبٍ الدُّخولُ في الإسلامِ، لِأنَّه كانَ يَعلَمُ أنَّ الدُّخولَ في الإسلامِ ليس تَوحِيدُ اللهِ والتَّصدِيقُ بِنَبِيِّه فَقَطْ، بَل كان يَعلَمُ أنَّ الدُّخولَ في الإسلامِ هو مُفارَقةُ دِينِ [أبِيه] عَبْدِالْمُطَّلِبِ وكُلِّ دِينٍ سِوَى الإسلامِ والحُكمُ عَلَى [أبِيه] عَبْدِالْمُطَّلِبِ بِالكُفرِ والشِّركِ وكَذا على كُلِّ مَن لم يُحَقِّقْ هذا الدِّينَ؛ قالَ الإمامُ اِبنُ قَيِّم الجوزية [في كِتابِه (مفتاح دار السعادة)] {الذي مَنَعَ أبا طالِبٍ وأمثالَه عن الإسلامِ، اِستَعظَموا آباءَهم وأجدادَهم أنْ يَشهَدوا عليهم بِالكُفرِ والضَّلالِ وأنْ يَختاروا خِلافَ ما اِختارَ أولئك لِأنفُسِهم، ورَأَوا أنَّهم إنْ أسلَموا سَفَّهوا أحلامَ أولئك وضَلَّلوا عُقولَهم ورَمَوْهُمْ بِأقبَحِ القَبائحِ وهو الكُفرُ والشِّركُ، ولِهذا قالَ أعداءُ اللهِ لِأبِي طالِبٍ عند المَوتِ (أتَرغَبُ عن مِلَّةِ عَبْدِالْمُطَّلِبِ؟)، فَكانَ آخِرُ ما كَلَّمَهم به (هو على ملَّة عَبْدِالْمُطَّلِبِ)، فَلَمْ يَدْعُه أعداءُ اللهِ إلَّا مِن هذا البابِ لِعِلمِهم بِتَعظِيمِه أباه عَبْدِالْمُطَّلِبِ، وأنَّه إنما حازَ الفَخرَ والشَّرَفَ به، فَكَيفَ يَأتِي [أَيْ أبو طالِبٍ] أمرًا يَلزَمُ منه غايَةُ تَنقِيصِه وذَمِّه، ولِهذا قالَ [أَيْ أبو طالِبٍ لِابنِ أخِيه صلى الله عليه وسلم] (لَوْلَا أَنْ تَكُونَ سُبَّةً على بَنِي عَبْدِالْمُطَّلِبِ لَأقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ) أو كَما قالَ}؛ ولِذَلِكَ أيضًا شَقَّ على هِرَقْلَ الدُّخولُ في الإسلامِ وكانَ يَعلَمُ صِدقَ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وآله وسلم ولَكِنْ لم يُتابِعْه، لِأنَّه إنْ تابَعَه سَيُحَتِّمُ ذلك عليه التَّبَرُّؤَ مِن دِينِ النَّصارَى وبِالتَّالِي مِنَ النَّصارَى أنفُسِهم وبِذَلِكَ يَخسَرُ مُلكَه فَآثَرَ مُلكَه على دُخولِ الإسلامِ. انتهى باختصار]؛ فَقَضِيَّةُ مُوالاةِ دِينِ اللهِ وأهلِه ومُعاداةِ الباطِلِ وأهلِه فُرِضَتْ على المُسلِمِين في فَجرِ دَعوَتِهم قَبْلَ فَرضِ الصَّلاةِ والزَّكاةِ والصَّومِ والْحَجِّ، ومِن أجلِها لا لِغَيرِها حَصَلَ العَذابُ والأذَى والابتِلاءُ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المقدسي-: وَهَكَذَا فإنَّ الطَّواغِيتَ في كُلِّ زَمانٍ ومَكانٍ لا يُظهِرون الرِّضَا عنِ الإسلامِ أو يُهادِنونه ويُقِيمون له المُؤْتَمَراتِ ويَنشُرونه في الكُتُبِ والمَجَلَّاتِ ويُؤَسِّسون له المَعاهِدَ والجامِعاتِ، إلَّا إذا كانَ دِينًا أَعْوَرَ أَعْرَجَ مَقْصوصَ الجَنَاحَينِ بَعِيدًا عن واقِعِهم وعن مُوَالَاةِ المُؤْمِنِين والبَرَاءةِ مِن أعداءِ الدِّينِ وإظهارِ العَداوةِ لهم ولِمَعبوداتِهم ومَناهِجِهم الباطِلةِ [قالَ الشيخُ إسحاقُ بنُ عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب (ت1319هـ): قَالَ أبو الوفاءِ ابْنُ عَقِيلٍ [في ما نَقَلَ عنه شمسُ الدين بنُ مفلح في كتاب (الآداب الشرعية)] رَحِمَه اللهُ {إذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ مَحَلَّ الإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الزَّمَانِ فَلَا تَنْظُرْ إلَى اِزْدِحَامِهِمْ فِي أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ، وَلَا إلى ضَجِيجِهِمْ [فِي الْمَوْقِفِ] بِـ (لَبَّيْكَ)، وَلَكِنِ اُنْظُرْ إلَى مُوَاطَأَتِهِمْ لأَعْدَاءِ الشَّرِيعَةِ}، فاللَّجَا اللَّجَا إلى حِصْنِ الدِّينِ والاعتصامِ بِحَبْلِ اللهِ المَتِينِ والانحِيازِ إلى أَوْلِيائِه المُؤْمِنِين، وَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِن أعدائِه المُخالِفِين، فأفضَلُ القُرَبِ إلى اللهِ تَعالَى مَقْتُ مَن حَادَّ اللهَ ورَسولَه، وجِهادُه باليَدِ وَاللِّسَانِ وَالْجَنَانِ بقَدْرِ الإمكانِ. انتهى من (الدُّرَر السَّنِيَّة في الأجوبة النَّجْدِيَّة)]؛ وإنَّنا لَنُشاهِدُ هذا واضِحًا في الدَّولةِ المُسَمَّاةِ (السُّعُودِيَّة)، فإنَّها تَغُرُّ الناسَ بتَشجِيعِها لِلتَّوحِيدِ وكُتُبِ التَّوحِيدِ، وبسَمَاحِها بَلْ وحَثّها لِلعُلَماءِ على مُحارَبةِ القُبورِ والصُّوفِيَّةِ وشِرْكِ التَّمائمِ والتِّوَلةِ [قالَ الشيخُ محمد بنُ عبدالوهاب في (كتاب التوجيد): والتِّوَلةُ هي شَيءٌ يَصنَعونه، يَزعُمون أنَّه يُحَبِّبُ المَرأةَ إلى زَوجِها، والرَّجُلَ إلى اِمْرَأَتِه. انتهى. وقالَ الشيخُ ابنُ باز في (مجموع فتاوى ومقالات ابن باز): والتِّوَلةُ نَوعٌ مِنَ السِّحرِ. انتهى] والأشجارِ والأحجارِ، وغيرِ ذلك مِمَّا لا تَخشاه ولا يَضُرُّها أو يُؤَثِّرُ في سِيَاساتِها الخارِجِيَّةِ والداخِلِيَّةِ، وما دامَ هذا التَّوحِيدُ المُجَزَّأُ الناقِصُ بَعِيدًا عنِ السَّلاطِينِ وعُرُوشِهم الكافِرةِ فإنَّه يَتَلَقَّى منهم الدَّعْمَ والمُسانَدةَ والتَّشجِيعَ، وإلَّا فأَيْنَ كِتَاباتُ جُهَيْمانَ -وأَمثالِه- رَحِمَه اللهُ تَعالَى التي تَمْتَلِئُ وتَزْخَرُ بِالتَّوحِيدِ؟ [قالَ الشيخُ مُقْبِلٌ الوادِعِيُّ في (المَخْرَج مِن الفِتنة) عنِ الشيخِ جُهَيْمانَ وجَمَاعَتِه: الإذاعاتُ والصَّحافةُ بَلْ وعُلَماءُ السُّوءِ نَزَّلُوهم مَنْزِلةَ الشَّياطِينِ، إنَّ رَسائلَهم [التي صَدَرَتْ عنهم] تَدُلُّ على أنَّهم طَلَبَةُ عِلْمٍ أخيارٌ أَفَاضِلُ، قَدِ اِنتَشَرَتْ بِسَبَبِهم سُنَنٌ كانَتْ قد أُمِيتَتْ، وما خَسِرَتْهم أَرْضُ الحَرَمَينِ فَحَسْبُ بَلْ خَسِرَهُمُ المُجتَمَعُ المُسْلِمُ، جَزاهُمُ اللهُ عنِ الإسلامِ خَيرًا... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الوادِعِيُّ-: فَمُعامَلةُ الحُكومةِ [السُّعُودِيَّةِ] لهم غَيرُ شَرعِيَّةٍ بَلْ دُوَلِيَّةٌ [أَيْ غيرُ دِينِيَّةٍ بَلْ سِيَاسِيَّةٌ]، وسَيُحاكِمون الحُكومةَ بين يَدَيِ اللَّه... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الوادِعِيُّ-: فَهؤلاء لم يُحارِبوا اللهَ ورَسولَه ولم يَسعَوْا في الأرضِ فَسادًا. انتهى باختصار. وفي رِسالةٍ للشيخِ أبي محمد المقدسي بعنوان (زَلَّ حِمَارُ العِلْمِ في الطِّين) قالَ: لقد صَدَّقْتُم يا عُلَماءَ السُّوءِ مِن قَبْلُ على قَتْلِ جُهَيْمانَ وطائفةٍ مِن إخوانِه، وهَا هِيَ فَتَاوِيكم التي قُتِلُوا بها إلى اليَومِ مَحفوظةٌ شاهِدةٌ على جَرِيمَتِكم. انتهى. وفي فتوى للشيخِ أبي محمد المقدسي على هذا الرابط قالَ: كِتَابَاتُ جُهَيْمانَ كانَتْ جَمِيعُها يَقرَؤُها طَلَبةُ عِلْمٍ مِن أَتْباعِ جُهَيْمانَ -قَبْلَ طِباعَتِها- على الشيخِ اِبْنِ باز [قُلْتُ: وهذا يَعْنِي أنَّ كِتَابَاتِ الشيخِ جُهَيْمانَ كانَتْ مَوْضِعَ تَقدِيرٍ واحتِرامٍ مِنَ الشَّيخِ اِبْنِ باز]. انتهى باختصار]، لِماذا لم تَدْعَمْها الحُكومةُ وتُشَجِّعْها، رَغْمَ أنَّه لم يَكُنْ يُكَفِّرُها في تلك الكِتَاباتِ؟، أَمْ أنَّه [أَيِ التَّوحِيدَ الذي تَمْتَلِئُ وتَزْخَرُ به كِتَاباتُ الشيخِ جُهَيْمانَ] تَوحِيدٌ يُخالِفُ أَمْزِجَةَ الطُّغاةِ وأهواءَهم ويَتَكَلَّمُ بالسِّيَاسةِ ويَتَعَرَّضُ لِلوَلاءِ والبَراءِ والبَيْعةِ والإمارةِ؟ [قالَ الشيخُ مُقْبِلٌ الوادِعِيُّ في (قمع المعاند): إنَّ السُّعُودِيَّةَ عَمِيلةٌ لِأمْرِيكا. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ مُقْبِلٌ الوادِعِيُّ أيضًا في (المُصارَعة): إنَّها [أَيِ السُّعُودِيَّةَ] قد أصبَحَتْ مُستَعبَدةً لِأمْرِيكا. انتهى. وقالَ الشيخُ مُقْبِلٌ الوادِعِيُّ أيضًا في (المَخْرَج مِن الفِتنة): الحُكومةُ [السُّعُودِيَّةُ] لا يَهُمُّها الدِّينُ، لا يَهُمُّها إلَّا الحِفاظُ على الكُرْسِيِّ. انتهى باختصار. ونَقَلَ الشيخُ أحمد بن يحيى النجمي (المُحاضِرُ بكلية الشريعة وأصول الدين، بفرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بأبها) في كِتابِه (نَسْفُ الدَّعاوِي) عنِ الشيخِ محمد سرور زين العابدين (مُؤَسِّسِ تَيَّارِ الصَّحْوَةِ "أَكْبَرِ التَّيَّاراتِ الدِّينِيَّةِ في السُّعُودِيَّةِ") أنَّه قالَ: إنَّ السُّلطةَ في السُّعُودِيَّةِ تَتَكَوَّنُ مِن شَكْلٍ هَرَمِيٍّ يَتَرَبَّعُ على رَأسِها الأعلَى رَئيسُ أَمْرِيكا... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ النجمي-: وهذا مَعْنَى ما قَرَّرَه المغراوي [أستاذ الدراسات العليا بجامعة القرويين، والذي يُوصَفُ بِأنَّه (شَيْخُ السَّلَفِيين بِالمَغْرِبِ)] هُنَا، أنَّ وُلاةَ المُسلِمِين في السُّعُودِيَّةِ -أو غَيرِها- لا يَتَصَرَّفون بِإراداتِهم، ولا يُقَرِّرون قَرارًا مِن تِلقاءِ أنفُسِهم، وإنَّما يَتَصَرَّفُ فيهم غَيرُهم، ويَقُرِّرُ لهم غَيرُهم، والمَسئولون فيها مُجَرَّدُ كمبيوتراتٍ. انتهى]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المقدسي-: وَهَا هُنَا شُبهةٌ يَطرَحُها كَثِيرٌ مِنَ المُتَسَرِّعِين، وهي قَولُهم {إنَّ مِلَّةَ إبراهِيمَ هذه إنَّما هي مَرحَلةٌ أخِيرةٌ مِن مَراحِلِ الدَّعوةِ، يَسبِقُها البَلاغُ بالحِكمةِ والجِدالُ بالتي هي أَحسَنُ، ولا يَلجَأُ الداعِيَةُ إلى مِلَّةِ إبراهِيمَ هذه، مِنَ البَراءةِ مِن أعداءِ اللهِ ومَعبوداتِهم والكُفرِ بها وإظهارِ العَداوةِ والبَغضاءِ لهم، إلَّا بَعْدَ اِستِنفاذِ جَمِيعِ أسالِيبِ اللِّينِ والحِكمةِ}؛ فَنَقولُ وباللهِ التوفيقُ، إنَّ هذا الإشكالَ إنَّما حَصَلَ بِسَبَبِ عَدَمِ وُضوحِ مِلَّةِ إبراهِيمَ لَدَى هؤلاء الناسِ، وبِسَبَبِ الخَلْطِ بَيْنَ طَرِيقةِ الدعوةِ للكُفَّارِ اِبْتِدَاءً و[بَيْنَ] طَرِيقَتِها مع المُعانِدِين منهم، وأيضًا [بِسَبَبِ عَدَمِ] الفَرْقِ بَيْنَ ذلك كُلِّه وبَيْنَ مَوقِفِ المُسلِمِ مِن مَعبُوداتِ ومَناهِجِ وشَرائعِ الكُفَّارِ الباطِلةِ نَفْسِها؛ فَمِلَّةُ إبراهِيمَ مِن حيث أنَّها إخلاصٌ لِلعِبادةِ للهِ وَحْدَه وكُفْرٌ بِكُلِّ مَعبودٍ سِوَاهُ، لا يَصِحُّ أنْ تُؤَخَّرَ أو تُؤَجَّلَ، بَلْ يَنبَغِي أنْ لا يُبْدَأَ إلَّا بها، لِأنَّ ذلك هو تَمَامًا ما تَحوِيه كَلِمةُ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) مِنَ النَّفيِ والإثباتِ، وهو أَصلُ الدِّينِ وقُطْبَ الرَّحَى في دَعوةِ الأنبِياءِ والمُرسَلِين، وَلِأجْلِ أنْ يَزولَ عنك كُلُّ إشكالٍ فَهَا هُنَا قَضِيَّتان؛ (أ)القَضِيَّةُ الأُولَى، وهي الكُفرُ بالطَّواغِيتِ التي تُعبَدُ مِن دُونِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ هذه الطَّواغِيتُ أصنامًا مِن حَجَرٍ، أو شَمسًا أو قَمَرًا، أو قَبرًا أو شَجَرًا، أو تَشرِيعاتٍ وقَوانِينَ مِن وَضْعِ البَشَرِ، فَمِلَّةُ إبراهِيمَ ودَعوةُ الأنبِياءِ والمُرسَلِين تَستَلزِمُ إظهارَ الكُفرِ بهذه المَعبوداتِ كُلِّها وإبداءَ العَداوةِ والبَغضاءِ لها، وَتَسفِيهَ قَدرِها والحَطَّ مِن قِيمَتِها وشَأنِها وإظهارَ زَيفِها ونَقائصِها وعُيوبِها مُنْذُ أَوَّلِ الطَّرِيقِ، وَهَكَذَا كانَ حالُ الأنبِياءِ حين كانوا يَبدَأُون دَعوَتَهم لِأقوامِهم بِقَولِهم {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، ومِن هذا قَولُ اللهِ تَعالَى عنِ الحَنِيفِ إبراهِيمَ عليه السَّلامُ {قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ، أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}، وَقَولُه {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ}، وَقَولُه {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}، وَكَذَا قَولُه سُبْحانَهُ عن قَومِ إبراهِيمَ {قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ، قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} قالَ المُفَسِّرون {(يَذْكُرُهُمْ) أَيْ يَعِيبُهم وَيَستَهزِئُ بهم وَيَتَنَقَّصُهم}، والكِتابُ والسُّنَّةُ يَمتَلِئان بالأدِلَّةِ على ذلك، ويَكفِينا مِن ذلك هَدْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ وكَيفَ كانَ يُسَفِّهُ آلِهةَ قُرَيشٍ ويُظهِرُ البَراءةَ منها والكُفرَ بها حتى كانوا يُلَقِّبونه بالصابِئِ [وهو مَن ارتدَّ عن دِينِه واعتَنَقَ دِينًا آخَرَ]، وإنْ شِئتَ أنْ تَتَأَكَّدَ مِن ذلك وتَتَيَقَّنَه فارجِعْ وتَدَبَّرِ القُرآنَ المَكِّيَّ [الْمَكِّيُّ مَا نَزَلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَإِنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَالْمَدَنِيُّ مَا نَزَلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ] الذي ما كانَتْ تَتَنَزَّلُ على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم منه بِضعُ آيَاتٍ حتى تُضْرَبَ بها أَكْبَادُ الْمَطِيِّ شَرقًا وغَربًا وشَمالًا وجَنوبًا وتَتَناقَلَها الألْسِنةُ في الأسواقِ والمَجالسِ والنَّوادِي، وكانَتْ هذه الآياتُ تُخاطِبُ العَرَبَ بِلُغَتِهم العَرَبِيَّةِ المَفهومةِ بِكُلِّ وُضوحٍ وجَلاءٍ، تُسَفِّهُ آلِهَتَهم وعلى رَأسِها اللَّاتُ والعُزَّى ومَنَاةُ الثالِثَةِ الأُخرَى -أعظَمُ الآلِهةِ عند القَومِ في ذلك الزَّمانِ- وتُعلِنُ البَراءةَ منها وعَدَمَ الالتِقاءِ معها أوِ الرِّضَا بها، وما كانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيَكْتُمَ شَيئًا مِن ذلك إنْ هو إلَّا نَذِيرٌ، فالذِين يُصَدِّرون أنْفُسَهم للدَّعوةِ في هذا الزَّمانِ بِحاجةٍ إلى تَدَبُّرِ هذا الأمرِ جَيِّدًا ومُحاسَبةِ أَنْفُسِهم عليه كَثِيرًا، لِأنَّ دَعوةً تَسْعَى لِنُصْرةِ دِينِ اللهِ ثم تُلْقِي بهذا الأَصْلِ الأَصِيلِ [وهو إظهارُ الكُفرِ بهذه المَعبوداتِ كُلِّها وإبداءُ العَداوةِ والبَغضاءِ لها، وَتَسفِيهُ قَدرِها والحَطُّ مِن قِيمَتِها وشَأنِها وإظهارُ زَيفِها ونَقائصِها وعُيوبِها] وَرَاءَها ظِهْرِيًّا لا يُمْكِنُ أنْ تَكونَ على مَنهَجِ الأنبِياءِ والمُرسَلِين، وها نحن نُعايِشُ في هذا الزَّمانِ اِنتِشارَ (شِركِ التَّحاكُمِ إلى الدَّساتِيرِ والقَوانِينِ الوَضعِيَّةِ) بين ظَهْرَانَيْنا، فَيَلزَمَ هذه الدَّعَواتِ -ولا بُدَّ- التَّأَسِّي بِنَبِيِّها في اِتِّباعِ مِلَّةِ إبراهِيمَ، بِتَسفِيهِ قَدْرِ هذه الدَّساتِيرِ وتلك القَوانِينِ، وذِكْرِ نَقائصِها لِلنَّاسِ، وإبداءِ الكُفرِ بها، وإظهارِ وإعلانِ العَداوةِ لها، ودَعوةِ الناسِ إلى ذلك، وبَيَانِ تَلبِيسِ الحُكوماتِ [لِلْحَقِّ بِالْبَاطِلِ] وضِحْكِها على الناسِ، وإلَّا فَمَتَى يَظْهَرُ الحَقُّ؟!، وكَيفَ يَعرِفُ الناسُ دِينَهم حَقَّ المَعرِفةِ، ويُمَيِّزُون الحَقَّ مِنَ الباطِلِ والعَدُوَّ مِنَ الوَلِيِّ؟، ولَعَلَّ الغالِبِيَّةَ [مِمَّن يُصَدِّرون أنْفُسَهم للدَّعوةِ] يَتَعَذَّرون بِمَصلَحةِ الدَّعوةِ وبِالفِتْنةِ، وأَيُّ فِتْنةٍ أَعْظَمُ مِن كِتْمانِ التَّوحِيدِ و[مِنَ] التَّلْبِيسِ على الناسِ في دِينِهم؟، وَأَيُّ مَصلَحةٍ أَعْظَمُ مِن إقامةِ مِلَّةِ إبراهِيمَ وإظهارِ المُوالاةِ لِدِينِ اللهِ والمُعاداةِ للطَّواغِيتِ التي تُعبَدُ ويُدانُ لها مِن دُونِ اللهِ؟، وإذا لم يُبْتَلَ المُسلِمون لِأجْلِ ذلك وإذا لم تُقَدَّمِ التَضْحِيَاتُ في سَبِيله فَلِأيِّ شَيءٍ إذَنْ يَكونُ البَلاءُ؟، فالكُفرُ بالطَّواغِيتِ كُلِّها واجِبٌ على كُلِّ مُسلِمٍ بِشَطرِ شَهَادَةِ الإسلامِ، وإعلانُ ذلك وإبداؤه وإظهارُه واجِبٌ عَظِيمٌ أيضًا لا بُدَّ وأنْ تَصْدَعَ به جَماعاتُ المُسلِمِين أو طائفةٌ مِن كُلِّ جَماعةٍ منهم على الأقَلِّ، حتى يَشتَهِرَ ويَنتَشِرَ ويَكونَ هو الشِّعارَ والصِّفةَ المُمَيِّزةَ لهذه الدَّعواتِ كما كانَ حالُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ليس في زَمَنِ التَّمكِينِ وَحَسْبُ، بَلْ وفي زَمَنِ الاستِضعافِ حيث كانَ يُشارُ إليه [صلى الله عليه وسلم] بالأصابِعِ ويُحَذَّرُ منه ويُوصفُ بِعَداوةِ الآلِهةِ، وإنَّنا لَنَعْجَبُ! أَيُّ دَعوةٍ هذه التي يَتَباكَى أولئك الدُّعاةُ على مَصلَحتِها؟ وَأَيُّ دِينٍ هذا الذي يُرِيدون إقامِتَه وإظهارَه؟ وأكثرُهم يَلهَجُ بِمَدحِ القانونِ الوَضعِيِّ -ويَا لَلْمُصِيبَةِ- وبَعضُهم يُثْنِي عليه ويَشهَدُ بِنَزاهَتِه وكَثِيرٌ منهم يُقسِمُ على اِحتِرامِه والالْتِزامِ بِبُنُودِه وَحُدودِه، عَكْسًا لِلقَضِيَّةِ والطَّرِيقِ، فبَدَلًا مِن إظهارِ وإبداءِ العَداوةِ له والكُفرِ به يُظهِرون الوَلاءَ له والرِّضا عنه، فهَلْ مِثْلُ هؤلاء يَنشُرون تَوحِيدًا أو يُقِيمون دِينًا؟! إلى اللهِ المُشتَكَى، وإبداءُ هذا الأمرِ [وهو الكُفرُ بِالدَّساتِيرِ والقَوانِينِ الوَضعِيَّةِ] وإظهارُه ليس له عَلَاقةٌ بِتَكفِيرِ الحاكِمِ أو إصرارِه على الحُكْمِ بِغَيرِ شَرِيعةِ الرَّحمَنِ، [بَلْ] إنَّه مُتَعَلِّقٌ بالدُّستُورِ أوِ التَّشرِيعِ أو القانونِ القائمِ المُحتَرَمِ المُطَبَّقِ المُبَجَّلِ المُحَكِّمِ بَيْنَ الناسِ؛ (ب)القَضِيَّةُ الثانِيَةُ، وهي البَراءةُ مِنَ المُشرِكِين والكُفرُ بهم وإظهارُ العَداوةِ والبَغضاءِ لَهُمْ هُمْ أنْفُسِهم، يَقولُ العَلَّامةُ اِبْنُ القيم رَحِمَه اللهُ تَعالَى [في (مَدارِجُ السالِكِين)] {وَمَا نَجَا مِنْ شَرَكِ [أَيْ مِصيَدةِ] هَذَا الشِّرْكِ الأَكْبَرِ إِلَّا مَنْ جَرَّدَ تَوْحِيدَهُ لِلَّهِ، وَعَادَى الْمُشْرِكِينَ فِي اللَّهِ، وَتَقَرَّبَ بِمَقْتِهِمْ إِلَى اللَّهِ}، وهذه القَضِيَّةُ (أَيِ البَراءةُ مِنَ المُشرِكِين) أهَمُّ مِنَ الأُولَى (أَعنِي البَراءةَ مِن مَعبوداتِهم)، يقولُ الشيخُ حَمَدُ بنُ عَتِيقٍ [ت1301هـ] رَحِمَه اللهُ تَعالَى في (سبيل النجاة والفكاك) عند قَولِه تَعالَى (إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ) {وهَا هُنَا نُكتةٌ بَدِيعةٌ، وهي أنَّ اللهَ تَعالَى قَدَّمَ البَراءةَ مِنَ المُشرِكِين العابِدِين غيرَ اللهِ، على البرَاءةِ مِنَ الأوثانِ المَعبودةِ مِن دُونِ اللهِ، لِأنَّ الأوَّلَ أَهَمُّ مِنَ الثانِي، فإنَّه إنْ تَبَرَّأَ مِنَ الأوثانِ ولم يَتَبَرَّأْ مِمَّن عَبَدَها لا يَكونُ آتِيًا بالواجِبِ عليه، وأَمَّا إذا تَبَرَّأَ مِنَ المُشرِكِين فإنَّ هذا يَستَلزِمُ البَراءةَ مِنَ مَعبوداتِهم، وَكَذَا قَولُه (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ) الآيَةَ، فَقَدَّمَ اِعتِزالَهم على اِعتِزالِ ما يَدعون مِن دُونِ اللهِ، وَكَذَا قَولُه (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ)، وقَولُه (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ)، فَعَلَيكَ بهذه النُّكتةِ فإنَّها تَفتَحُ لك بابًا إلى عَداوةِ أعداءِ اللهِ، فَكَمْ مِن إنسانٍ لا يَقَعُ منه الشِّركُ ولَكِنَّه لا يُعادِي أهلَه [أَيْ أهلَ الشِّركِ]، فلا يكونُ مُسلِمًا بذلك إذْ تَرَكَ دِينَ جَمِيعِ المُرسَلِين}، وسُئِلَ الشيخُ حسين والشيخُ عبدالله، اِبْنا الشيخِ محمد بنِ عبدالوهاب [كما في (الدُّرَرُ السَّنِيَّةُ في الأَجْوِبةِ النَّجْدِيَّةِ)] عن رَجُلٍ دَخَلَ هذا الدِّينَ وأَحَبَّه وأَحَبَّ أَهْلَه، ولكنْ لا يُعادِي المُشرِكِين، أو عاداهم ولم يُكَفِّرْهم؟، فكانَ مِمَّا أجابا به {مَن قالَ لا أُعادِي المُشرِكِين، أو عاداهم ولم يُكَفِّرْهم، فهو غَيرُ مُسلِمٍ، وهو مِمَّن قالَ اللهُ تَعالَى فيهم (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا، أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا، وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا)}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المقدسي-: المُتَجَبِّرون والظالِمون يُدعَون إلى طاعةِ اللهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ اِبْتِدَاءً، فإنِ اِستَجابوا فَهُمْ إخوانُنا نُحِبُّهم بِقَدرِ طاعَتِهم وَلَهم ما لَنا وعليهم ما عَلَينا، وإنْ أَبَوْا -مع وُضوحِ الحُجَّةِ- واستَكبَروا وأصَرُّوا على ما هُمْ عليه مِنَ الباطِلِ والشِّركِ وَوَقَفوا في الصَّفِّ المُعادِي لِدِينِ اللهِ فلا مُجامَلةَ معهم ولا مُداهَنةَ، بَلْ يَجِبُ إظهارُ وإبداءُ البَراءةِ منهم عند ذلك؛ ويَنبَغِي التَّفرِيقُ هنا بين الحِرصِ على هِدَايَةِ المُشرِكِين والكُفَّارِ وكَسبِ أنصارٍ لِلدِّينِ واللِّينِ في البَلاغِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وبين قَضِيَّةِ الحُبِّ والبُغضِ والمُوالاةِ والمُعاداةِ في دِينِ اللهِ، لِأنَّ كَثِيرًا مِنَ الناسِ يَخْلِطُ في ذلك فَتَستَشكِلُ عليهم كَثِيرٌ مِنَ النُّصوصِ مِثْلِ {اللَّهُمَّ اِهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} وما إلى ذلك، وقد تَبَرَّأَ إبراهِيمُ مِن أقرَبِ الناسِ إليه لَمَّا تَبَيَّنَ له أنَّه مُصِرٌّ على شِركِه وكُفرِه، قالَ تَعالَى عنه {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} ذلك بَعْدَ أنْ دَعاه بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، فَتَجِدُه يُخاطِبُه بِقَولِه {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ}، {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ}، وَهَكَذَا مُوسَى مع فِرعَونَ بَعْدَ أنْ أرسَلَه اللهُ إليه وقالَ {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}، فقد بَدَأَ معه بِالقَولِ اللَّيِّنِ اِستِجابةً لأمرِ اللهِ فَقالَ {هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} وَأَراه الآيَاتِ والبَيِّناتِ، فَلَمَّا أَظهَرَ فِرعَونُ التَّكذِيبَ والعِنادَ والإصرارَ على الباطِلِ قالَ له مُوسَى كَما أخبَرَ تَعالَى {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا}، بَلْ ويَدعُو عليهم قائلًا {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ، رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ}، فالذِين يُدَندِنون على نُصوصِ الرِّفقِ واللِّينِ والتَّيسِيرِ على إطلاقِها وَيَحْمِلُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَحْمَلِها ويَضَعونها في غيرِ مَوضِعِها، يَنبَغِي لهم أنْ يَقِفوا عند هذه القَضِيَّةِ طَوِيلًا ويَتَدَبَّروها ويَفهَموها فَهمًا جَيِّدًا إنْ كانوا مُخلِصِين... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المقدسي-: وَاعْلَمْ أَنْ لَا تَنَافِيَ بين القِيامِ بِمِلَّة إبراهِيمَ [يَعْنِي مِن جِهةِ إظهارِ البَراءةِ مِنَ المُشرِكِين ومَعبوداتِهم الباطِلةِ، وإعلانِ الكُفرِ بهم وبِآلِهَتِهم ومَناهِجِهم وقَوانِينِهم وشَرائعِهم الشِّركِيَّةِ، وإبداءِ العَداوةِ والبَغضاءِ لهم وَلِأوضاعِهم وَلِأحوالِهم الكُفرِيَّةِ] والأخذِ بأسبابِ السِّرِّيَّةِ والكِتمانِ في العَمَلِ الجادِّ لِنُصْرةِ الدِّينِ، إنَّ هذه السِّرِّيَّةَ يَجِبُ أنْ تُوضَعَ في مَكانِها الحَقِيقِيِّ، وهي سِرِّيَّةُ التَّخطِيطِ والإعدادِ، أمَّا مِلَّةُ إبراهِيمَ والكُفرُ بالطَّواغِيتِ ومَناهِجِهم وآلِهَتِهم الباطِلةِ فهذه لا تَدخُلُ في السِّرِّيَّةِ، بَلْ [هي] مِن عَلَنِيَّةِ الدَّعوةِ فَيَنبَغِي إعلانُها مُنْذُ أوَّلِ الطَّرِيقِ، أمَّا إخفاؤها [أَيْ مِلَّةُ إبراهِيمَ] وَكَتْمُها مُداهَنةً لِلطَّواغِيتِ وتَغَلْغُلًا في صُفوفِهم وارتِقاءً في مَناصِبِهم فليس مِن هَدْيِ نَبِيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، بَلْ هو مِن هَدْيِ وسِرَّيَّةِ أصحابِ التَّنظِيماتِ الأرضِيَّةِ الذِين يَجِبُ أنْ يُقالَ لهم أيضًا {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، وَخُلاصةُ الأمرِ أنَّها [أَيْ مِلَّةَ إبراهِيمَ] سِرِّيَّةٌ في الإعدادِ والتَّخطِيطِ عَلَنِيَّةٌ في الدَّعوةِ والتَّبلِيغِ؛ وإنَّما قُلنا ذلك لِأنَّ كَثِيرًا مِنَ الناسِ سَوَاءٌ مِنَ المُرجِفِين أو مِمَّن لم يَفهَموا دَعوةَ الأنبِياءِ حَقَّ الفَهمِ، يَقولون عن جَهلٍ منهم {إنَّ هذه الطَّرِيقَ التي تَدعون إليها تَكشِفُنا وَتَفْضَحُ تَخطِيطاتِنا وتُعَجِّلُ بالقَضاءِ على الدَّعوةِ وثَمَراتِها} [قالَ الشيخُ سيد قطب في كِتابِه (في ظلال القرآن): وَمَا حَدَثَ قَطُّ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِيَّةِ أَنِ اِسْتَقَامَتْ جَمَاعَةٌ عَلَى هُدَى اللَّهِ إِلَّا مَنَحَهَا الْقُوَّةَ وَالْمَنَعَةَ وَالسِّيَادَةَ فِي نِهَايَةِ الْمَطَافِ، بَعْدَ إِعْدَادِهَا لِحَمْلِ هَذِهِ الأَمَانَةِ (أَمَانَةِ الْخِلَافَةِ فِي الأَرْضِ وَتَصْرِيفِ الْحَيَاةِ)؛ وَإِنَّ الْكَثِيرِينَ لَيُشْفِقُونَ [أَيْ لَيَخَافُونَ] مِنِ اِتِّبَاعِ شَرِيعَةِ اللَّهِ وَالسَّيْرِ عَلَى هُدَاهُ، يُشْفِقُونَ مِنْ عَدَاوَةِ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَمَكْرِهِمْ، وَيُشْفِقُونَ مِنْ تَأَلُّبِ [أَيْ تَجَمُّعِ واحْتِشَادِ] الْخُصُومِ عَلَيْهِمْ، وَيُشْفِقُونَ مِنَ الْمُضَايَقَاتِ الاقْتِصَادِيَّةِ وَغَيْرِ الاقْتِصَادِيَّةِ، وَإِنْ هِيَ إِلَّا أَوْهَامٌ كَأَوْهَامِ قُرَيْشٍ يَوْمَ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} فَلَمَّا اِتَّبَعَتْ هُدَى اللَّهِ سَيْطَرَتْ عَلَى مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا فِي رُبْعِ قَرْنٍ أَوْ أَقَلَّ مِنَ الزَّمَانِ. انتهى]، فَيُقالُ لهم، إنَّ هذه الثَّمَراتِ المَزعومةَ لن تَينَعَ ولن يَبدُو صَلاحُها حتى يَكونَ الغِراسُ على مِنهاجِ النُّبُوَّةِ، وَواقِعُ هذه الدَّعواتِ العَصرِيَّةِ أكبَرُ دَلِيلٍ وشاهِدٍ على ذلك -بَعْدَ الأدِلَّةِ الشَّرعِيَّةِ المُتَقَدِّمةِ مِن مِلَّةِ إبراهِيمَ ودَعوةِ الأنبِياءِ والمُرسَلِين صَلَواتُ اللهِ وسَلامُه عليهم أَجْمَعِين- حيث إنَّ ما نُعانِيه اليَومَ مِن جَهلِ أبناءِ المُسلِمِين والتِباسِ الحَقِّ عليهم بِالباطِلِ وعَدَمِ وُضوحِ مَواقِفِ الوَلاءِ والبَراءِ، إنَّما هو مِن سُكُوتِ وكِتمانِ العُلَماءِ والدُّعاةِ لِهذا الحَقِّ، ولو أنَّهم صَرَّحوا وصَدَعوا به واُبْتُلُوا كما هو حالُ الأنبِياءِ لَظَهَرَ [أَيِ الحَقُّ] وبانَ لِلنَّاسِ جَمِيعًا، ولَتَمَحَّصَ وتَمَيَّزَ بذلك أهلُ الحَقِّ مِن أهلِ الباطِلِ، ولَبُلِّغَتْ رِسالاتُ اللهِ، وَلَزالَ التَّلبِيسُ الحاصِلُ على الناسِ خاصَّةً في الأمُورِ المُهِمَّةِ والخَطِيرةِ في هذا الزَّمانِ، وكما قِيلَ {إذَا تَكَلَّمَ الْعَالِمُ تَقِيَّةً وَالْجَاهِلُ بِجَهْلِه، فَمَتَى يَظهَرُ الْحَقُّ}، وإذا لم يَظهَرْ دِينُ اللهِ وتَوحِيدُه العَمَلِيُّ والاعتِقادِيُّ لِلنَّاسِ فَأَيُّ ثِمَارٍ تلك التي يَنتظرُها ويَرجُوها هؤلاء الدُّعاةُ؟!، أَهِيَ [إقامةُ] الدَّولةِ الإسلامِيَّةِ؟، إنَّ إظهارَ تَوحِيدِ اللهِ الحَقِّ لِلنَّاسِ وإخراجَهم مِن ظُلُماتِ الشِّركِ إلى أنوارِ التَّوحِيدِ هي الغايَةُ العُظمَى والمَقصودُ الأهَمُّ وإنِ ابْتُلِيَ الدُّعاةُ، وهَلْ يَظهَرُ الدِّينُ إلَّا بِالمُدافَعةِ والبَلاءِ {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ}، فَبِذلك يَكونُ إعلاءُ دِينِ اللهِ وإنقاذُ الناسِ وإخراجُهم مِنَ الشِّركِ بِاختِلافِ صُوَرِه، وهذه هي الغايَةُ التي يَكونُ مِن أَجلِها البَلاءُ وتُنحَرُ على عَتَباتِها التَّضْحِيَاتُ، وما [إقامةُ] الدَّولةِ الإسلامِيَّةِ أصلًا إلَّا وَسِيلةٌ مِن وَسائلِ هذه الغايَةِ العُظمَى، وفي قِصَّةِ أصحابِ الأُخْدُودِ عِبرةٌ لأُولِي الألْبابِ، فإنَّ ذلك الغُلامَ الدَّاعِيَةَ الصادِقَ ما أقامَ دَولةً ولا صَولةً ولَكِنَّه أَظهَرَ تَوحِيدَ اللهِ أَيَّمَا إظهارٍ وَنَصَرَ الدِّينَ الحَقَّ نَصرًا مُؤَزَّرًا ونالَ الشَّهادةَ، وما قِيمةُ الحَياةِ بَعْدَ ذلك، وما وَزنُ القَتلِ والحَرقِ والتَّعذِيبِ إذا فازَ الدَّاعِيَةُ بِالفَوزِ الأكبَرِ، كانَتِ الدَّولةُ أَمْ لم تَكُنْ، وإنْ حُرِّقَ المُؤمِنون وإنْ خُدَّتْ لهم الأَخَادِيدُ فإنَّهم مُنتَصِرون لِأنَّ كَلِمةَ اللهِ هي الظاهِرةُ والعُلْيَا [بِصَبْرِهم وثَبَاتِهم]، أَضِفْ إلى ذلك أنَّ الشَّهادةَ طَرِيقُهم والجَنَّةَ نُزُلُهم، فَأَنْعِمْ بذلك أَنْعِمْ؛ وبهذا تَعلَمُ أنَّ قَولَ أولئك الجُهَّالِ {إنَّ هذه الطَّرِيقَ تَقضِي على الدَّعوةِ وتُعجِّلُ بِبَوارِ ثَمَراتِها} جَهلٌ وإرجافٌ، لِأنَّ هذه الدَّعوةَ هي دِينُ اللهِ الذي وَعَدَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنْ يُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، وذلك كائنٌ لا رَيبَ فيه، ونُصرةُ دِينِ اللهِ وإعلاؤه لَيسَتْ مُتَعَلِّقةً بِأَشخاصِ هؤلاء المُرجِفِين، تَذهَبُ بِذِهابِهم أو تَهْلِكُ بِهَلاكِهم أو تَوَلِّيهم، قالَ تَعالَى {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم}، وهَا هِيَ دَعَواتُ الرُّسُلِ والأنبِياءِ وأَتباعِهم خَيرُ شاهِدٍ في شِعَابِ الزَّمانِ، وقد كانوا أشَدَّ الناسِ بَلاءً وامتِحانًا وما أثَّرَ ذلك البَلاءُ في نُورِ دَعَواتِهم، بَلْ ما زادَها إلَّا ظُهورًا واشتِهارًا وتَغَلغُلًا في قُلوبِ الناسِ وبين صُفوفِهم، وهَا هِيَ إلى اليَومِ ما زالَتْ نُورًا يَهتَدِي به السائرون في طَرِيقِ الدَّعوةِ إلى اللهِ، وهذا هو الحَقُّ الذي لا مِريَةَ فيه؛ ثم ومع ذلك كُلِّه فلا بُدَّ مِن مَعرِفةِ قَضِيَّة أخِيرةٍ هنا، وهي أنَّ هذا الصَّدْعَ بإظهارِ العَداوةِ والبَراءةِ مِنَ الكُفَّارِ المُعانِدِين وإبداءِ الكُفرِ بِمَعبوداتِهم وباطِلِهم المُتَنَوِّعِ في كُلِّ زَمانٍ، وإنْ كانَ هو الأصلَ في حالِ الدَّاعِيَةِ المُسلِمِ، وهو صِفةُ الأنبِياءِ وطَرِيقُ دَعوَتِهم المُستَقِيمُ الواضِحُ، ولن تُفلِحَ هذه الدَّعواتُ [العَصرِيَّةُ] ولن يَصلُحَ مُرادُها وحالُها ولن يَظهَرَ دِينُ اللهِ ولن يَعرِفَ الناسُ الحَقَّ إلَّا بِالتِزامِ ذلك واتِّباعِه، مع ذلك يُقالُ بأنَّه إذا صَدَعَتْ به طائفةٌ مِن أهْلِ الحَقِّ سَقَطَ عنِ الآخَرِين (والمُسْتَضْعَفِينَ منهم مِن بابٍ أَولَى)، وَذَلِكُمْ [هو] الصَّدْعُ به، أمَّا هو [أَيِ التَّبَرُّؤُ مِنَ الكُفَّارِ ومُعاداتُهم، والكُفرُ بِمَعبوداتِهم وباطِلِهم] بِحَدِّ ذاتِه فَإنَّه واجِبٌ على كُلِّ مُسلِمٍ [فَلا يَسقُطُ بِقِيامِ البَعضِ به، بِخِلَافِ الصَّدْعِ] في كُلِّ زَمانٍ ومَكانٍ لِأنَّه مِن (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) التي لا يَصِحُّ إسلامُ اِمْرِئٍ إلَّا بها، أَمَّا أنْ يُهمَلَ ويُلْغَى الصَّدْعُ به كُلِّيَّةً مِن حِسابِ الدَّعَواتِ [العَصرِيَّةِ]، مع أنَّه أصلٌ أصِيلٌ في دَعَواتِ الأنبِياءِ، فَأَمْرٌ غَرِيبٌ مُحدَثٌ ليس مِن دِينِ الإسلامِ في شَيءٍ، بَلْ دَخَلَ على هؤلاء الدُّعاةِ الذِين يَدعُون بِغَيرِ هَدْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِتَقلِيدِهم ومُحاكاتِهم لِلأحزابِ الأرضِيَّةِ [كالأحزابِ العَلْمَانِيّةِ والشُّيُوعِيَّةِ والقَومِيّةِ] وطَرَائقِها، التي تَدِينُ بالتَّقِيَّةِ في كُلِّ أحوالِها ولا تُبالِي بالمُداهَنةِ أو تَتَحَرَّجُ مِنَ النِّفاقِ، واستِثناؤنا هذا [يُشِيرُ الشيخُ هُنَا إلى قَولِه السابِقِ {إذا صَدَعَتْ به طائفةٌ مِن أهْلِ الحَقِّ سَقَطَ عنِ الآخَرِين}] غَيرُ نابِعٍ مِنَ الهَوَى والتَّكتِيكاتِ العَقلِيَّةِ، بَلْ مِنَ النُّصوصِ الشَّرعِيَّةِ النَّقلِيَّةِ الكَثِيرةِ، والمُتَأَمِّلُ لِسِيرةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في عَهدِ الاستِضعافِ يَتَجَلَّى له ذلك واضِحًا، وانظُرْ على سَبِيلِ المِثالِ لا الحَصرِ قِصَّةَ إِسْلَامِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ السُّلَمِيِّ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ منها قَولُه {قُلْتُ [الْقَائِلُ هُوَ عَمْرٌو] (إِنِّي مُتَّبِعُكَ)، قالَ [صلى الله عليه وسلم] (إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ يَوْمَكَ هَذَا، أَلَا تَرَى حَالِي وَحَالَ النَّاسِ، وَلَكِنِ اِرْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ فَإِذَا سَمِعْتَ بِي قَدْ ظَهَرْتُ فَأْتِنِي)} الحَدِيثَ، قَالَ النَّوَوِيُّ [في شَرحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ] {مَعْنَاهُ، قُلْتُ لَهُ (إِنِّي مُتَّبِعُكَ عَلَى إِظْهَارِ الإِسْلَامِ هُنَا، وَإِقَامَتِي مَعَكَ)، فَقَالَ (لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ لِضَعْفِ شَوْكَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَنَخَافُ عَلَيْكَ مِنْ أَذَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ، وَلَكِنْ قَدْ حَصَلَ أَجْرُكَ، فَابْقَ عَلَى إِسْلَامِكَ وَارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ وَاسْتَمِرَّ عَلَى الإِسْلَامِ فِي مَوْضِعِكَ، حَتَّى تَعْلَمَنِي ظَهَرْتُ فَأْتِنِي)}، فهذا واحِدٌ قَدْ أذِنَ له النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في عَدَمِ إعلانِ وإظهارِ الدِّينِ، لِأنَّ دِينَ اللهِ ودَعوةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كانَتْ مُشتَهِرةً مَعروفةً ظاهِرةً في ذلك الوَقتِ ويَدُلُّكَ على ذلك قَولُه صلى الله عليه وسلم في الحَدِيثِ نَفْسِه {أَلَا تَرَى حَالِي وَحَالَ النَّاسِ}، و[انظُرْ أيضًا] قِصَّةَ إِسْلَامِ أَبِي ذَرٍّ في الْبُخَارِيِّ، وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ منها قَولُه صلى الله عليه وسلم له {يَا أَبَا ذَرٍّ اكْتُمْ هَذَا الأَمْرَ وَارْجِعْ إِلَى بَلَدِكَ، فَإِذَا بَلَغَكَ ظُهُورُنَا فَأَقْبِلْ} الحَدِيثَ، ومع هذا فقد صَدَعَ به أَبُو ذَرٍّ بين ظَهْرَانَيِ الكُفَّارِ مُتابَعةً منه لِهَدْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وطَرِيقَتِه في ذلك، ومع أنَّهم ضَرَبوه لِيَمُوتَ كَما جاءَ في الحَدِيثِ [يَعْنِي قَولَ أَبِي ذَرٍّ {فَقَامُوا، فَضُرِبْتُ لِأمُوتَ، فَأَدْرَكَنِي الْعَبَّاسُ، فَأَكَبَّ عَلَيَّ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ (وَيْلَكُمْ تَقْتُلُونَ رَجُلًا مِنْ غِفَارَ وَمَتْجَرُكُمْ وَمَمَرُّكُمْ عَلَى غِفَارَ)، فَأَقْلَعُوا عَنِّي}]، ومع تِكْرارِه لذلك الصَّدْعِ، فَإنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لم يُنكِرْ عليه فِعْلَه ذلك، ولا خَذَّلَه، ولا قالَ له كما يَقولُ دُعاةُ زَمانِنا [مِن أَدْعِيَاءُ السَّلَفِيَّةِ (الذِين يَحمِلُون فِكْرَ المُرْجِئَةِ) وجَمَاعةِ الإخوان المُسلِمِين (الذِين يَحمِلُون فِكْرَ المَدْرَسَةِ العَقْلِيَّةِ الاعْتِزالِيَّةِ)] {إنَّك بِفِعلِكَ هذا سَتُبَلبِلُ الدَّعوةَ وسَتُثِيرُ فِتنةً وتَضُرُّ مَصلَحةَ الدَّعوةِ} أو {أَخَّرْتَ الدَّعوةَ مِائَةَ سَنَةٍ}، حاشاه مِن أنْ يَقولَ مِثلَ ذلك فهو قُدوةُ الناسِ كافَّةً وأُسوَتُهم إلى يَومِ القِيامةِ في هذا الطَّرِيقِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المقدسي-: فائدةٌ أُخرَى مُهِمَّةٌ، وهي جَوازُ مُخادَعةِ الكُفَّارِ وتَخَفِّي بَعضِ المُسلِمِين بين صُفوفِهم أثناءَ المُواجَهةِ والقِتالِ إذا ما كانَ الدِّينُ ظاهِرًا وأصلُ الدَّعوةِ مُشتَهِرًا، فَفِي هذه الأحوالِ يَصِحُّ الاستِشهادُ بِحادِثةِ قَتلِ كَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ [يَعْنِي الحادِثةَ التي فيها قامَ الصَّحابةُ (أَبُو نَائِلَةَ "أَخُو كَعْبٍ مِنَ الرَّضَاعَةِ"، ومُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ "ابْنُ أُخْتِ كَعْبٍ"، وأَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ، وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ) رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِدُخولِ بَنِي النَّضِيرِ والاحتِيالِ على كَعْبٍ لاغْتِيالِه. وقَدْ قالَ الشيخُ سيد إمام في (العمدة في إعداد العدة): إنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ ومَن معه أَوْهَموا كَعْبًا بِضَيْقِهم بالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم واحتالوا عليه حتى قَتَلوه. انتهى. وقالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي في (هَتكُ أستارِ الإفكِ عن حَدِيثِ "الإيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ"): ويَقولُ الإمامُ الْبَغَوِيُّ [ت516هـ] رَحِمَه اللهُ [في (شَرْحُ السُّنَّةِ)] في اِغتِيَالِ اِبْنِ الأَشْرَفِ {وفِي الْحدِيثِ دَلِيلٌ على جَوَاز قَتلِ الْكَافِرِ الّذِي بَلَغَتْه الدَّعْوَةُ بَغْتَةً وعَلى غَفلَةٍ مِنْهُ}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الصومالي-: إنَّ دَمَ الحَربِيِّ إنَّما يَحرُمُ بِالتَّأمِينِ، لا بِاغتِرارِه وغَفلَتِه، وهو قَولُ العُلَماءِ قاطِبةً، فاللَّهُ المُستَعانُ فَقَدِ اُبتُلِينا في هذا العَصرِ بِمَن يُلجِئُك إلى تَقرِيرِ البَدِيهِيَّاتِ وشَرحِ الضَّرورِيَّاتِ! [قالَ الشَّيخُ محمدُ بنُ شمس الدين في (مَن كَفَّرَ الأشعَرِيَّةَ؟): ولِكَونِنا في زَمانٍ نَحتاجُ فيه إلى بَيَانِ ما يَراه العُقَلاءُ مِنَ البَدَهِيَّاتِ.... انتهى. وقالَ الشَّيخُ حسام الحفناوي في مَقالةٍ له على هذا الرابط: فَإنَّ تَوضِيحَ الواضِحاتِ مِن أَعْضَلِ المُعْضِلاتِ، وتَبيِينَ المُسَلَّماتِ مِن أَشْكَلِ المُشْكِلاتِ، وَكَمْ مِنَ الواضِحاتِ تَمَسُّ الحاجةُ إلى تَوضِيحِها عند فُشُوِّ الجَهلِ! وَكَمْ مِنَ المُسَلَّماتِ يَلْزَمُ أهلَ الحَقِّ تَبيِينُها إذا رُفِعَ العِلْمُ!. انتهى. وقالَ الشَّيخُ محمد تقي الدين الهلالي في مَقالةٍ له على هذا الرابط: وتَوضِيحَ الواضِحاتِ مِنَ الفاضِحاتِ!. انتهى]. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي أيضًا في (اِستِيفاءُ الأقوالِ في المَأخوذِ مِن أهلِ الحَربِ تَلَصُّصًا، مِنَ الأنفُسِ والأموالِ): فالمُخادَعةُ بِالأفعالِ والأقوالِ، ثم القَتلُ أو الاستِيلاءُ على الأموالِ، لا يُعتَبَرُ غَدْرًا، إذا لم تَكُنْ [أيِ الأفعالُ والأقوالُ] صَرِيحةً في التَّأْمِينِ؛ فَإنَّ اِبنَ مَسْلَمَةَ ومَن معه رَضِيَ اللهُ عنهم خَدَعوه [أيْ خَدَعوا كَعْبَ بْنَ الأَشْرَفِ] فَأَظهَروا له غَيْرَ ما أَخْفَوْه فَتَوَهَّمَ الأمانَ بِتَأنِيسِهم واستِقراضِهم [أيْ بِمُلاطَفَتِهم له، ومُطالَبَتِهم إيَّاه بِإقراضِهم] ولم يَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك [أيْ قَتلَ كَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ بَعْدَ إيهامِه بِالأمانِ] غَدْرًا بَلْ أقَرَّه وأثنَى عليهم؛ والْبُخَارِيُّ في كِتابِ (الجِهادِ) بابِ (الكَذِبِ في الحَربِ) عَدَّ ما فُعِلَ بالأَشْرَفِ كَذِبًا وخِداعًا لا تَأمِينًا وغَدْرًا؛ ويَقولُ الحافِظُ اِبْنُ حَجَرٍ [في (فَتْحُ البارِي)] {وَلَمْ يَقَعْ لِأحَدٍ مِمَّنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ تَأْمِينٌ لَهُ بِالتَّصْرِيحِ، وَإِنَّمَا أَوْهَمُوهُ ذَلِكَ وَآنَسُوهُ حَتَّى تَمَكَّنُوا مِنْ قَتْلِهِ}؛ وقالَ الحافِظُ بدرُ الدين العيني [في (عمدة القاري شرح صحيح البخاري)] {فَإِنْ قُلْتَ (أَمَّنَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ)، قُلْتُ (لَمْ يُصَرِّحْ لَهُ بِأَمَانٍ فِي كَلَامِهِ، وَإِنَّمَا كَلَّمَهُ فِي أَمْرِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَالشِّكَايَةِ إِلَيْهِ، وَالاسْتِينَاسِ بِهِ، حَتَّى تَمَكَّنَ مِنْ قَتْلِهِ)}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الصومالي-: وعَبْدُاللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ الجُهَنِيُّ قَتَلَ خَالِدَ بْنَ سُفْيَانَ الْهُذَلِيِّ بَعْدَ ما اِستَضافَه [أيْ بَعْدَ ما اِستَضافَه خالِدٌ] ورَحَّبَ به... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الصومالي-: طَلَبَ اِبْنُ أُنَيْسٍ رَضِيَ اللهُ عنه المَبِيتَ والضِّيَافةَ فَرَحَّبَ [أيِ الْهُذَلِيُّ] به، وقَصدُه [أيْ وكانَ قَصدُ اِبْنِ أُنَيْسٍ] اِغتِيالُه. انتهى باختصار] وأمثالِها، أمَّا أنْ يُضَيِّعَ كَثِيرٌ مِنَ الدُّعاةِ أَعْمارَهم في جُيوشِ الطَّواغِيتِ مُوَالِينَ مُدَاهِنِينَ يَحْيَوْنَ وَيَمُوتُونَ وَهُمْ في خِدْمَتِهم وخِدْمةِ مُؤَسَّساتِهم الخَبِيثةِ بِحُجَّةِ الدَّعوةِ ونَصْرِ الدِّينِ فيُلَبِّسُوا على الناسِ دِينَهم ويَقْبُروا التَّوحِيدَ، فهذه السُّبُلُ في المَغرِبِ ودَعوةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وهَدْيُه عنها في أقاصِي المَشرِقِ، فَمِلَّةُ إبراهِيمَ هي طَرِيقُ الدَّعوةِ الصَّحِيحةِ، التي فيها مُفارَقةُ الأحبابِ وقَطعِ الرِّقابِ، أمَّا غَيرُها مِنَ الطَّرائقِ والمَناهِجِ المُلتَوِيَةِ والسُّبُلِ المُعْوَجَّةِ المُنحَرِفةِ تلك التي يُرِيدُ أصحابُها إقامةَ دِينِ اللهِ دُونَ أنْ يَستَغنوا عنِ المَراكزِ والمَناصَبِ ودُونَ أنْ يُغضِبوا أصحابَ السُّلطانِ أو يَفقِدوا القُصورَ والنِّسوانَ والسَّعادةَ في الأهلِ والبُيوتِ والأوطانِ، فَلَيسَتْ مِن مِلَّةِ إبراهِيمَ في شَيءٍ وإنِ اِدَّعَى أصحابُ هذه الدَّعواتِ أنَّهم على مَنهَجِ السَّلَفِ ودَعوةِ الأنبِياءِ والمُرسَلِين، فَواللهِ لقد رَأَيْناهُمْ، رَأَيْناهُمْ كَيفَ يَبَشُّون في وُجوهِ المُنافِقِين والظالِمِين بَلْ والكُفَّارِ المُحادِّين للهِ ورَسولِه، لا لِدَعَوتِهم ورَجاءِ هِدايَتِهم، بَلْ يُجالِسونهم مُداهَنةً وإقرارًا لِباطِلِهم ويُصَفِّقون لهم ويَقُومون لهم إكرامًا يُبَجِّلونهم ويَدعُونهم بِأَلْقابِهم، نَحْوِ صاحِبِ الجَلَالةِ والمَلِكِ المُعَظَّمِ والرَّئِيسِ المُؤْمِنِ وصاحِبِ السُّمُوِّ، بَلْ وإمامِ المُسلِمِين وأمِيرِ المُؤْمِنِين [قالَ الشيخُ المقدسي هُنَا مُعَلِّقًا: فائدةٌ مُهِمَّةٌ [هُنَا] تَفضَحُ عُلَماءَ الحُكوماتِ، اِعْلَمْ عافانا اللهُ وإيَّاكَ مِن تَلبِيسِ المُلَبِّسِين أنَّ ما يَفعَلُه كَثِيرٌ مِنَ الجُهَّالِ -وإنْ لُقِّبوا بالمَشايِخِ وتَمَسَّحوا بالسَّلفِيَّةِ- مِن تَلقِيبِ كَثِيرٍ مِن طُغاةِ هذا الزَّمانِ بِلَقَبِ (أَمِير المُؤمِنِين) أو (إمام المُسلِمِين)، إنَّما يَنهَجون بذلك نَهْجَ الخَوارِجِ والمُعتَزِلةِ في عَدَمِ اِعتِبارِ شَرطِ القُرَشِيَّةِ في الإمامِ، و[قَدْ] نَقَلَ الحافِظُ اِبْنُ حَجَرٍ في الفَتحِ عَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ قَولَه {اشْتِرَاطُ كَوْنِ الإِمَامِ [المرادُ هنا الإمَامَةُ العُظْمَى (أَيِ الخِلَافةُ)، وليس إمامةَ العِلْمِ] قُرَشِيًّا مَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً، وَقَدْ عَدُّوهَا فِي مَسَائِلِ الإِجْمَاعِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ فِيهَا خِلَافٌ وَكَذَلِكَ مَنْ بَعْدَهُمْ فِي جَمِيعِ الأَمْصَارِ، وَلَا اعْتِدَادَ بِقَوْلِ الْخَوَارِجِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ}؛ [وَقَدْ] رَأَيْتُ الشيخَ عبدَاللهِ أبا بُطَين [مُفْتِي الدِّيَارِ النَّجْدِيَّةِ، الْمُتَوَفَّى عامَ 1282هـ]، وهو مِن عُلَماءِ الدَّعوةِ النَّجدِيَّةِ، يَرُدُّ على بَعضِ المُعارِضِين المُنكِرِين لِتَلقِيبِ الشيخِ محمد بنِ عبدالوهاب [ت1206هـ] وعبدِالعزيز بنِ محمد بن سعود [ثانِي حُكَّامِ الدَّولةِ السُّعودِيَّةِ الأُولَى، وقد تُوُفِّيَ عامَ 1218هـ] بِلَقَبِ (الإمام) وَهُمَا غَيرُ قُرَشِيَّينِ، يَقولُ [أَيِ الشيخُ أبو بُطَين] {ومحمد بْنُ عبدالوهاب رَحِمَه اللهُ ما اِدَّعَى إمامَةَ الأُمَّةِ، وإنَّما هو عالِمٌ دَعَا إلى الهُدَى وقاتَلَ عليه، ولم يُلَقَّبْ في حَيَاتِه بـ (الإمام) ولا عبدُالعزيز بنُ محمد بن سعود، ما كانَ أَحَدٌ في حَيَاتِه منهم يُسَمَّى (إمامًا)، وإنما حَدَثَ تَسمِيَةُ مَن تَوَلَّى (إمامًا) بَعْدَ مَوْتِهما}، فَانظُرْ إلى هذا العالِمِ الرَّبَّانِيِّ كَيفَ يَتَبَرَّأُ مِن ذلك ويُنكِرُه رَغْمَ أنَّ المَذكورَين كانا مِن دُعاةِ الهُدَى، ولا يُكابِرُ مُكابَرةَ كَثِيرٍ مِن مَشايِخِ الحُكوماتِ في هذا الزَّمانِ الذِين يُصِرُّون على تَسمِيَةِ طَواغِيتِهم بـ (الإمام) و(أَمِير المُؤمِنِين)، فَبُشْراهم بأنَّهم على نَهْجِ الخَوارجِ سائرون، ذلك الوَصْفُ الذي طالَما رَمَوْا به طَلَبةَ العِلْمِ ودُعاةَ الحَقِّ الذِين يُنابِذون طَواغِيتَهم، وهذا بالنِّسبةِ لِشَرطِ القُرَشِيَّةِ، فَكَيفَ إذا اِنضَمَ إلى ذلك اِنعِدامُ العَدالةِ والعِلْمِ والحِكمةِ وغيرِ ذلك مِن شُروطِ الإمامةِ؟!، وكَيفَ إذا عُدِمَ الإسلامُ والإيمانُ؟!. انتهى باختصار] مع أنَّهم حَربٌ على الإسلامِ والمُسلِمِين!، نَعَمْ، واللهِ لقد رَأَيْناهُمْ يَغْدُو أحَدُهم ويَرُوحُ [أَيْ يَذهَبُ أحَدُهم ويَجِيءُ]، يَبِيعُ دِينَه بأقَلِّ مِن جَناحِ بَعوضةٍ، يُمْسِي مُؤمِنًا يَدْرُسُ التَّوحِيدَ ورُبَّما دَرَّسَه، ويُصْبِحُ يُقسِمُ على اِحتِرامِ الدُّستُورِ بِقَوانِينِه الكُفرِيَّةِ ويَشهَدُ بِنَزاهةِ القانونِ الوَضعِيِّ وَيُكَثِّرُ سَوادَ الظالِمِين ويَلقاهُمْ بِوَجهٍ مُنبَسِطٍ ولِسانٍ عَذْبٍ، مع أنَّهم [أَيْ دُعاةَ زمَانِنا] يَمُرُّون بِآيَاتِ اللهِ اللَّيلَ والنَّهارَ تَنْهاهُمْ عنِ الرُّكونِ لِلظَّالِمِين أو طاعَتِهم والرِّضَا عن بَعضِ باطِلِهم، فَهُمْ يَقرَأُون هذه الآيَاتِ كَقَولِه تَعالَى {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}، وقَولِه عَزَّ وجَلَّ {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ، إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ} الآيَةَ، يَقُولُ الشيخُ سليمانُ بنُ عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب [في رِسالَتِه (فُتْيَا في حُكمِ السفرِ إلى بلادِ الشركِ)] في مَعنَى قَولِه تَبَارَكَ وتَعالَى (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) {الآيَةُ على ظاهِرِها، وهو أنَّ الرَّجُلَ إذا سَمِعَ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فجَلَسَ عند الكافِرِين المُستَهزِئِين مِن غَيرِ إكراهٍ ولا إنكارٍ ولا قِيَامٍ عنهم حتى يَخوضوا في حَدِيثٍ غَيرِه، فهو كافِرٌ مِثْلَهُمْ وإنْ لم يَفعَلْ فِعْلَهم} [قالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي في (الفتاوي الشرعية عن الأسئلة الجيبوتية): الجُلوسُ في مَجالِسِ الاستِهزاءِ والكُفرِ بِآيَاتِ اللهِ كُفرٌ. انتهى]، ويَزعُمون [أَيْ دُعاةُ زمَانِنا] أنَّهم على مَنهَجِ السَّلَفِ، والسَّلَفُ كانوا يَفِرُّون مِن أبوابِ السَّلاطِينِ ومَناصِبِهم في عَهْدِ أربابِ الشَّرِيعةِ والهُدَى لا في عُهودِ الجَوْرِ والظُّلُماتِ!، وَوَاللهِ ما وُضِعَ السَّيْفُ على رِقابِهم ولا عُلِّقوا مِن أرجُلِهم وما أُجْبِرُوا على ذلك، بَلْ فَعَلوه مُخْتارِين ومُنِحوا عليه الأموالَ الطائلةَ والحَصاناتِ الدِّبْلُوماسِيَّةَ، فَنَعوذُ بِاللهِ مِن هَوَى النُّفوسِ وطَمْسِ البَصائرِ، وَلَيتَهُمْ أعلَنوها وقالوا {فَعلَناها حِرصًا على الدُّنْيَا}، بَلْ يَقولون {مَصلَحةُ الدَّعوةِ ونَصْرُ الدِّينِ}، فَعَلَى مَن تَضحَكون يَا مَساكِين؟!، أعَلَينا نحن الضُّعَفاءِ (فإنَّنا وأمثالَنا لا نَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا ولا نَفعًا)، أمْ على جَبَّارِ السَّمَواتِ والأَرْضِين (الذي لا تَخفَى عليه خافِيَةٌ، ويَعلَمُ سِرَّكُمْ ونَجواكُمْ)؟!، ولقد سَمِعناهم يَرمُون مَن خالَفَهم أو أَنكَرَ عليهم ذلك، بِضَحالةِ الفِكْرِ وقِلَّةِ الخِبرةِ وأنَّهم ليس عندهم حِكمةٌ في الدَّعوةِ ولا صَبْرٌ في اِقتِطافِ الثَّمَرِ أو بَصِيرةٌ في الواقِعِ والسُّنَنِ الكَونِيَّةِ وأنَّهم يَنقُصُهم عِلْمٌ بِالسِّيَاسةِ وعندهم قُصورٌ في التَّصَوُّراتِ، وما دَرَى هؤلاء المَساكِينُ أنَّهم لا يَرمُون بذلك أشخاصًا مُحَدَّدِين، وإنَّما يَرمُون بذلك دِينَ جَمِيعِ المُرْسَلِين ومِلَّةَ إبراهِيمَ التي مِن أَهَمِّ مُهِمَّاتِها إبداءُ البَراءةِ مِن أعداءِ اللهِ والكُفرِ بهم وبِطَرائقِهم المُعْوَجَّةِ وإظهارُ العَداوةِ والبَغضاءِ لِمَناهِجِهم الكافِرةِ، وما دَرَوْا أنَّ كَلامَهم ذلك يَقتَضِي أنَّ إبراهِيمَ والذِين معه لم يَكُنْ عندهم حِكمةٌ بِالدَّعوةِ ولا دِرايَةٌ بِالواقِعِ وأنَّهم كانوا مُتَطَرِّفِين مُتَسَرِّعِين، مع أنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ قد زَكَّاهم وأَمَرَنا بالتَّأَسِّي بهم فَقالَ {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ}، وقالَ سُبْحانَهُ {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}، ونَزَّهَ سُبْحانَهُ إبراهِيمَ مِنَ السَّفَهِ فَوَصَفَه بالرُّشدِ فَقالَ {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}، [وَ]بَيَّنَ سُبْحانَهُ أنَّ مِلَّةَ إبراهِيمَ لا يَرغَبُ عنها إلَّا السَّفِيهُ [فَقالَ تَعالَى {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ}]، وأَنَّى لِلسَّفِيهِ حِكْمةُ الدَّعوةِ ووُضوحُ التَّصَوُّراتِ وصِحَّةُ المَنهَجِ واستِقامةُ الطَّرِيقِ المَزعومةُ؟!... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المقدسي-: واعْلَمْ ثَبَّتنا اللهُ وإيَّاكَ على صِراطِه المُستَقِيمِ أنَّ البَراءةَ والعَداوةَ التي تَقتَضِي مِلَّةُ إبراهِيمَ إعلانَها وإبداءَها لِأهلِ الكُفرِ وَمَعبوداتِهم، تُكَلِّفُ الكَثِيرَ الكَثِيرَ، فَلا يَظُنُّ ظانٌّ أنَّ هذه الطَّرِيقَ مَفروشةٌ بِالوَرْدِ والرَّيَاحِينِ أو مَحفوفةٌ بِالراحةِ والدَّعةِ، بَلْ هي واللهِ مَحفوفةٌ بالمَكارِهِ والابتِلاءاتِ ولَكِنَّ خِتَامَها مِسْكٌ وَرَوحٌ وَرَيْحَانٌ ورَبٌّ غَيْرُ غَضْبَانَ، ونحن لا نَتَمَنَّى البَلاءَ لأنْفُسِنا ولا لِلمُسلِمِين، ولَكِنَّ البَلاءَ هو سُنَّةُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ في هذه الطَّرِيقِ، لِيَمِيزَ به الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، فهي الطَّرِيقُ التي لا تُرْضِي أصحابَ الهَوَى و[أصحابَ] السُّلطانِ لِأنَّها مُصادَمةٌ صَرِيحةٌ لِواقِعِهم؛ أمَّا غَيرُ هذه الطَّرِيقِ، فإنَّك تَجِدُ أصحابَها في الغالِبِ مُترَفِين ولِلدُّنْيَا راكِنِين، لا يَبدو عليهم أَثَرُ البَلاءِ، لِأن المَرءَ إنَّما يُبتَلَى على قَدْرِ دِينِه؛ فَأَشَدُّ الناسِ بلاءً الأنبياءُ ثم الأمْثَلُ فالأمْثَلُ، وأتْباعُ مِلَّةِ إبراهِيمَ مِن أشَدِّ الناسِ بَلاءً لأنَّهم يَتَّبِعون مَنهَجَ الأنبِياءِ في الدَّعوةِ إلى اللهِ، كما قالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ}؛ فإنْ رَأَيْتَ في زَمانِنا مَن يَزعُمُ أنَّه يَدعو لِمِثلِ ما كانَ يَدعو إليه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وبِمِثلِ طَرِيقَتِه، ويَدَّعِي أنَّه على مَنهَجِه، ولا يُعادَى مِن أَهْلِ الباطِلِ و[أهْلِ] السُّلْطانِ، بَلْ هو مُطمَئنٌّ مُرْتَاحٌ بين ظَهْرَانَيْهِمْ، فانظُرْ في حالِه، إمَّا أنْ يَكونَ ضالًّا عنِ الطَّرِيقِ (لم يَأْتِ بِمِثلِ ما جاءَ به النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، واتَّخَذَ سُبُلًا مُعْوَجَّةً) أو يَكونَ كاذبًا في دَعواه يَتَزَيَّا بِما ليس هو أهلًا أنْ يَتَزَيَّا به، إما لِهَوًى مُطاعٍ وإعجابِ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِه، أو لِدُنْيَا يُصِيبُها (كأنْ يَكونَ جاسوسًا وعَيْنًا لِأصحابِ السُّلْطانِ على أهلِ الدِّينِ)؛ فارْجِعْ إلى نَفْسِكَ واعْرِضْ عليها هذا الطَّرِيقَ، فإمَّا أنْ تَكونَ مِن قَومٍ يَصبِرون على ذلك فَخُذْهَا بِحَقِّهَا واسأَلِ اللهَ عَزَّ وجَلَّ أنْ يُثَبِّتَكَ على ما يَعقُبُها مِن بَلاءٍ، أو إنَّكَ مِن قَومٍ يَخافون مِن أنْفُسِهم خِيفةً ولا تَرَى مِن نَفْسِكَ القُدرةَ على القِيامِ والصَّدْعِ بهذه المِلَّةِ فَذَرْ عنك التَّزَيِّيَ بِزِيِّ الدُّعاةِ وأَغْلِقْ عليك بَيْتَكَ وأقْبِلْ على خاصَّةِ أمْرِكَ ودَعْ عنك أمْرَ العامَّةِ، أوِ اِعْتَزِلْ فِي شِعْبٍ [وَهُوَ مَا انْفَرجَ بَيْن جَبَلَيْنِ] مِنَ الشِّعَابِ بغُنَيْمَاتٍ لك، فإنَّه واللهِ أَعْذَرُ لك عند اللهِ، نَعَمْ، إنَّ ذلك أَعْذَرُ لك عند اللهِ مِن أنْ تَضحَكَ على نَفْسِكَ وعلى الناسِ -إذْ لا تَقْوَى [أَيْ لا تَقْدِرُ] على القِيامِ بِمِلَّةِ إبراهِيمَ- فَتَتَصَدَّرُ لِلدَّعوةِ بِطُرُقٍ مُعْوَجَّةٍ وتَهتَدِي بِغَيرِ هَدْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُجامِلًا مُداهِنًا لِلطَّواغيتِ كاتِمًا غَيرَ مُظهِرٍ لِلعَداوةِ لهم ولا لِباطِلِهم، فَواللهِ ثم واللهِ، إنَّ الذي يَعتَزِلُ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ بغُنَيْمَاتٍ لَهُوَ خَيْرٌ وأهْدَى سَبِيلًا مِنْكَ سَاعَتَئِذٍ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المقدسي-: ولقد رَأَيْنَاهُمْ [أَيْ دُعاةَ زمَانِنا] كَثِيرًا يَسْخَرون مِمَّن تَبَيَّنَتْ لهم انحِرافاتُهم وسُبُلُهم المُعْوَجَّةُ فأعرَضوا عنهم [أَيْ عن دُعاةِ زَمَانِنا] وعن دَعَواتِهم تلك التي على غَيرِ مِنهاجِ النُّبُوَّةِ، رَأَيْنَاهُمْ [أَيْ دُعاةَ زمَانِنا] يَسْخَرون منهم لِاعتِزالِهم، ويَلْمِزونهم بالقُعودِ والرُّكونِ إلى الدُّنْيَا والتَّقصِيرِ في الدَّعوةِ إلى اللهِ، وإذا كانَ الأمرُ كذلك، فَأَيَّةُ دَعوةٍ هذه التي قَصَّرَ فيها هؤلاء [الذِين اِعْتَزَلُوا]؟، دَعوَتُكم هذه التي تَلِجُون بها الجَيْشَ والشُّرطَةَ ومَجالِسَ الأُمَّةِ والبَرْلَماناتِ الشِّركِيَّةَ وغيرَ ذلك مِنَ الوَظائفِ [قالَ الشيخُ الألباني في فتوى صَوتِيَّةٍ مُفَرَّغةٍ له على هذا الرابط: الشَّبَابُ اليَومَ في كُلِّ بِلَادِ الإسلامِ إلَّا ما نَدَرَ اِعتادُوا أنْ يَعِيشوا عَبِيدًا لِلحُكَّامِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الألباني-: أَنْ يُصبِحَ المُسلِمُ مُوَظَّفًا في الدَّولةِ، فمَعْنَى ذلك أنْ يَصِيرَ عَبْدًا لِلدَّولةِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الألباني-: نَنْصَحُ الشَّبَابَ المُسلِمَ أنْ يَبْتَعِدَ عن وَظائفِ الدَّولةِ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ أبو محمد المقدسي في (الرِّسالةُ الثَّلاثِينِيَّةُ): (جُهَيْمانُ) رَحِمَه اللهُ ومَن كانوا معه، فَقَدْ خالَطْتُ جَماعَتَه مُدَّةً، وقَرَأْتُ كُتُبَهم كُلَّها، وعِشْتُ معهم وعَرَفْتُهم عن قُربٍ، فَـ (جُهَيْمانُ) رَحِمَه اللهُ لم يَكُنْ يُكَفِّرْ حُكَّامَ اليَومِ لِقِلَّةِ بَصِيرَتِه في واقِعِ قَوانِينِهم وكُفرِيَّاتِهم، وكذلك كانَ أَمْرُ الحُكَّامِ السُّعودِيِّين عنده، وقد صَرَّحَ بِذلك في كِتاباتِه، ولَكِنَّه كانَ بِالفِعْلِ سَخْطَةً عليهم وغُصَّةً في حُلُوقِهم وأشَدَّ عليهم مِن كَثِيرٍ مِمَّن يُكَفِّرونهم، فَكانَ يَطْعَنُ في بَيْعَتِهم ويُبطِلُها، ولا يَسكُتُ عن شَيءٍ مِن مُنكَراتِهم التي يَعرِفُها، حتى خَرَجَ في آخِرِ أَمْرِه عليهم وقاتَلَهم هو ومَن كانوا معه في عامِ 1400هـ، والذي أُرِيدُ قَولَه هنا، أنَّ الرَّجُلَ مع أنَّه لم يَكُنْ يُكَفِّرُهم، فَهو لم يَكُنْ يُوالِيهم أو يُحِبُّهم، بَلْ كانَ يُعادِيهم ويُبغِضُهم ويُنازِعُهم ويَطعَنُ في بَيْعَتِهم، ويَعتَزِلُ هو وجَماعَتُه وظائفَهم الحُكومِيَّةَ كُلَّها، كَما اِعتَزَلوا مَدارِسَهم وجامِعاتِهم، ثم قاتَلوهم في آخِرِ الأَمْرِ. انتهى باختصار. وقالَ الشَّيخُ جُهَيْمانُ في (رَفْعُ الالتِباسِ عن مِلَّةِ مَن جَعَلَه اللهُ إمامًا لِلنَّاسِ): إنَّ الطائفةَ الناجِيَةَ التي ذَكَرَها النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم، مِن صِفاتِها أنَّها ظاهِرةٌ على الحَقِّ ولَيسَتْ مُختَفِيَةً مُستَتِرةً، والرَّسولُ صلى الله عليه وآله وسلم كانَ مُظهِرًا لِدَعوَتِه مُجاهِرًا بِدِينِه، ومُصَرِّحًا بِمُعاداةِ الكُفَّارِ والتَّبَرَّؤِ منهم عَلَنًا، وهي مِلَّةُ إبراهِيمَ عليه السلامُ، ولِذلك أُوذِيَ وأصحابُه وأُخرِجوا، أَمَّا أنتم فَتُقْبِلون مُوَظَّفِين ودُعاةً ومُدَرِّسِين وجُنودًا وخُبَراءَ... إلى آخِرِه؛ فَلَوْ أنَّكم صَرَّحْتُمْ بِالعَداوةِ لهم، ونَهَجْتُمْ مَبْدَأَ البَراءةِ منهم عَلَنًا، لَنَابَذُوكم وآذوكم أَشَدَّ الإيذاءِ، ولم يُقَلِّدوكم المَناصِبَ والمَراكِزَ، بَلْ لَأخرَجُوكم وقَتَلوا خِيَارَكم كَما حَصَلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابِه، فَمَبْدَأُ [أَيْ بِدَايَةُ] دَعوَتِهم كانَ ذلك. انتهى. وقالَتِ اللَّجنةُ الشَّرعِيَّةُ في موقع الشيخ أبي محمد المقدسي (مِنبَرُ التَّوحِيدِ والجِهادِ) في كِتابِ (إجاباتُ أسئلةِ مُنْتَدَى "المِنبَر") رَدَّا على سُؤالِ (ما حُكْمُ العَمَلِ كَمُدَرِّسٍ في مَدارِسِ حُكومةِ الطَّاغوتِ في العِراقِ وحُكْمُ الانتِسابِ إليها؟): إنَّ حُكْمَ العَمَلِ في الوَظائفِ الحُكومِيَّةِ الطَّاغُوتِيَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذلك في العِراقِ أو في غَيرِها مِن بِلادِ المُسلِمِين التي عَلَتْ فيها أحكامُ الكُفرِ، لا يَخرُجُ عن إحْدَى ثَلاثةِ أحكامٍ، إمَّا أنْ يَكونَ كُفرًا، وإمَّا أنْ يَكونَ مُحَرَّمًا، وإمَّا أنْ يَكونَ مَكروهًا، كُلُّ حُكمٍ بِحَسَبِ تَحقِيقِ مَناطِه؛ فَإذا كانَتِ الوَظِيفةُ تَتَضَمَّنُ تَوَلِّيًا لِتلك الحُكوماتِ، ومُناصَرةً ومُظاهَرةً لَهم ولِتَشرِيعاتِهم وقَوانِينِهم، سَوَاءٌ كانَ ذلك بِالدَّعوةِ إليها، أو بِالحُكمِ بِها، أو بِالتَّحاكُمِ إليها عن رِضًا أو قُبولٍ بها، فَلا شَكَّ أنَّ العَمَلَ في مِثْلِ هذه الوَظائفِ هو كُفرٌ بَوَاحٌ وشِركٌ صُراحٌ ورِدَّةٌ سافِرةٌ عن دِينِ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى، ومَن عَمِلَ في مِثْلِ هذه الوَظائفِ فَقَدْ نَقَضَ أصلَ اِجتِنابِ الطَّاغوتِ الذي لا يَصِحُ إسلامُ أحَدٍ إلَّا بِتَحقِيقِه؛ وإذا كانَتِ الوَظِيفةُ تَتَضَمَّنُ إعانةَ تلك الحُكوماتِ الطَّاغوتِيَّةِ على ظُلمِ النَّاسِ وأكْلِ أموالِهم بِالباطِلِ (كَمِثْلِ جُبَاةِ المَكْسِ والضَّرائبِ وما يُسَمَّى بِـ "الجَمَارِك" في بَعضِ بِلادِ المُسلِمِين)، أو إعانَتَها على أكْلِ الرِّبَا مِن خِلالِ ما تُقَدِّمُه مِن قُروضٍ رِبَوِيَّةٍ لِلتُّجارِ والمُزارِعِين وغَيرِهم بَعْدَ التَّضيِيقِ عليهم بحيث يُصبِحون مُجبَرِين على ذلك فَيَكونُ المُوَظَّفُ كاتِبًا لِتلك المُعامَلاتِ الرِّبَوِيَّةِ أو شاهِدًا عليها، فَإنَّ العَمَلَ في مِثْلِ هذه الوَظائفِ حَرامٌ قَطْعًا وكَبِيرةٌ مِنَ الكَبائرِ، ومَن عَمِلَ في مِثْلِ هذه الوَظائفِ فَإنَّه لم يُحَقِّقِ الاجتِنابَ الواجِبَ لِلطَّاغوتِ؛ وأمَّا إذا كانَتِ الوَظِيفةُ لا تَتَضَمَّنُ أحَدَ مَناطَيِ الحُكمَين السابِقَين أو كِلَيْهِمَا، كَأئمَّةِ الأوقافِ وخُطَبائهم ومُؤَذِّنِيهم، وكالمُدَرِّسِين أوِ المُوَظَّفِين في وِزاراتِ التَّربِيَةِ والتَّعلِيمِ، ومُوَظَّفِي وِزاراتِ الصِّحَّةِ ومُوَظَّفِي البَلَدِيَّاتِ، وغَيرِها مِنَ الوَظائفِ التي يَكونُ أقَلُّ أحوالِ العامِلِ فِيها أنَّه مُكَثِّرٌ لِسَوادِ تلك الحُكوماتِ وذَلِيلٌ صاغِرٌ تحت وَطْأَتِها، فَمِثْلِ هذه الوَظائفِ -إنْ لم يَتَخَلَّلْها شَيءٌ مِنَ المَعاصِي- تَندَرِجُ تحت الحُكمِ الثَّالِثِ مِنَ الأحكامِ التي ذَكَرْناها آنِفًا وهو الكَراهةُ، والتي لا يَكونُ العامِلُ فيها قد حَقَّقَ الاجتِنابَ المُستَحَبَّ لِلطَّاغوتِ؛ قالَ شَيخُنا أبو محمد المقدسي حَفِظَه اللهُ في رِسالَتِه (الإشراقة في سؤالات سواقة) {فالذي قُلْناه ونَقولُه، أنَّنا نُحِبُّ لِلْأخِ المُوَحِّدِ أنْ يَكونَ بَعِيدًا عن هذه الحُكوماتِ مِن بابِ كَمالِ اِجتِنابِه لَها، ولا شَكَّ أنَّ مِنهاجَ حَيَاةِ كُلِّ مُوَحِّدٍ هو قَولُه تَعالَى (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)، فَذلك مَعْنَى (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، لَكِنْ مِنه [أيْ مِن هذا المِنهاجِ] ما هو شَرطٌ لِلإيمانِ وتَركُه ناقِضٌ لِلإيمانِ، كاجتِنابِ عِبادةِ الطَّاغوتِ، واجتِنابِ التَّحاكُمِ إليه مُختَارًا، واجتِنابِ حِراسةِ تَشرِيعاتِه وقَوانِينِه الكُفرِيَّةِ أو القَسَمِ على اِحتِرامِها ونَحوِ ذلك، ومنه ما تَركُه ناقِصٌ لِلإيمانِ وليس بِناقِضٍ لِلإيمانِ}. انتهى باختصار. وقال الشيخ أبو محمد المقدسي في (حسن الرفاقة في أجوبة سؤالات سواقة): نَكْرَهُ لِلْمُوَحِّدِ العَمَلَ في أيِّ وَظِيفةٍ حُكُومِيَّةٍ، لَكِنِ الكَراهةُ شَيءٌ، والحُرمةُ (أوِ الكُفرُ) شَيءٌ آخَرُ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المقدسي-: ... مع كَرَاهِيَّتِنَا لِأيِّ وَظِيفةٍ في هذه الحُكوماتِ حتى وإنْ لم يَكُنْ فيها شَيءٌ مِن مُنكَرٍ، ونُحِبُّ لِلْمُوَحِدِّ أنْ يَكونَ بَعِيدًا عنها مُجتَنِبًا لَها مُتَحَرِّرًا مِن قُيُودِهم. انتهى. وقالَ أحمد حافظ في مقالة بعنوان (قانونٌ مِصرِيٌّ يُتيِحُ فَصلَ المُنتَمِي "فِكرِيًّا" للإخوانِ مِنَ الوَظِيفةِ العُمومِيَّةِ) على مَوقِعِ صَحِيفةِ العَرَبِ (التي تَصدُرُ عن مُؤسَّسةِ العَرَبِ العالَمِيَّةِ لِلصَّحافةِ والنَّشرِ): أكَّدَ إقرارُ مَجلِسِ النُّوَّابِ المِصرِيِّ مَشروعَ قانونٍ يَقضِي بِعَزلِ جَمِيعِ المُوَظَّفِين المُنتَمِين لِجَماعةِ الإخوانِ عنِ العَمَلِ في المُؤسَّساتِ التابِعةِ لِلدَّولةِ، أنَّ مَعرَكةَ الحُكومةِ مع جَماعاتِ الإسلامِ السِّيَاسِيِّ تَأَخُذُ مُنْحَنًى مُختَلِفًا، بِاستِهدافِ أهَمِّ ثُغْرةٍ يَنفُذون منها لِتَألِيبِ الشارِعِ ضِدَّ السُّلطةِ في مِصرَ... ثم قالَ -أَيْ أحمد حافظ-: وَلَا يَتَطَلَّبُ إقصاءُ مُوَظَّفِي الإخوانِ مِنَ الجِهازِ الحُكُومِيِّ -وَفْقًا لِقانونٍ أعَدَّه البَرْلَمانُ- تَحقِيقاتٍ إدارِيَّةً أو إجراءاتٍ تَأدِيبِيَّةً، بَلْ عَزلًا مُباشِرًا طالَما أنَّ تُهمةَ الانتِماءِ لِلجَماعةِ مُثبَتةٌ. انتهى باختصار. وجاء على موقع صحيفة (المصري اليوم) تحت عنوان (قانونٌ جَدِيدٌ يَحْظُرُ تَحَدُّثَ مُوَظَّفِي الحُكومةِ في السِّيَاسةِ أثناءَ العَمَلِ) في هذا الرابط: ويَحْظُرُ القانونُ الجَدِيدُ إبداءَ الآراءِ السِّيَاسِيَّةِ لِلْمُوَظَّفِ أثناءَ ساعاتِ العَمَلِ، أو التَّروِيجَ لِأخبارٍ سِيَاسِيَّةٍ... أضافَ العربى [هو أشرف العربى وَزِيرُ التَّخطِيطِ والإصلاحِ الإدارِيِّ والمُتابَعةِ] {المُوَظَّفُ العامُّ رَجُلٌ مُحايِدٌ ليس له أَيُّ اِنتِماءاتٍ أو اِنحِيَازاتٍ}. انتهى باختصار. وجاءَ على الموقعِ الرَّسْمِيِّ لِجَرِيدةِ الوَطَنِ المِصرِيَّةِ تحت عُنْوانِ (فَحْصُ مُوَظَّفِي الدَّولةِ لِاستِبعادِ الإخوانجِيَّةِ والمُحَرِّضِين "عُقوباتٌ بِالفَصْلِ") في هذا الرابط: وحَذَّرَتْ وِزارةُ الأوقافِ مِنَ الانضِمامِ إلى أَيِّ جَماعةٍ إرهابِيَّةٍ أو تَبَنِّي أفكارِها، وأكَدَّتْ أنَّه لا مَكانَ في وِزارةِ الأوقافِ لِصاحِبِ فِكرٍ مُتَطَرِّفٍ، أو مُنَتَمٍ لِأيِّ جَماعةٍ مُتَطَرِّفةٍ. انتهى. وقالَ أحمد شوشة في مَقَالةٍ بِعُنْوانِ (قانونُ فَصْلِ المُوَظَّفِين في مِصرَ) على شَبَكةِ بي بي سي العَرَبِيَّةِ في هذا الرابط: في وَقتٍ سابِقٍ مِن هذا العامِ أعلَنَتْ وِزارةُ التَّربِيَةِ والتَّعلِيمِ المِصرِيَّةُ فَصْلَ أَلْفٍ وَسَبعِينَ مُعَلِّمًا مِمَّن قالَتْ عنهم {إنَّهم يَنتَمون لِجَماعاتٍ إرهابِيَّةٍ}، مُضِيفةً أنَّها تُعِدُّ قَوائمَ أُخرَى لِلمَفصولِين لِتَنقِيَةِ المَدارِسِ مِنَ الأفكارِ المُتَطَرِّفةِ. انتهى. وقالَ الشيخُ أبو محمد المقدسي في (إعدادُ القادةِ الفوارسِ بهجرِ فسادِ المدارسِ): إنَّ مِن أهدافِ طَواغِيتِ الحُكَّامِ، ووَسائلِهم في تَثْبِيتِ عُرُوشِهم وكَرَاسِيِّهم أَكْبَرَ قَدْرٍ مِنَ الزَّمانِ، اِستِغلالُ التَّربِيَةِ والتَّعلِيمِ، فمِن ذلك إعدادُ وتَخرِيجُ المُدَرِّسِين المُوالِين لهم ولِحُكوماتِهم وقَوانِينِهم وطُغْيانِهم، سَوَاءٌ اِعْتَقَدَ أولئك المُدَرِّسون ذلك وتَحَمَّسوا له حَمَاسًا حَقِيقِيًّا، أو بِشِراءِ الذِّمَمِ والوَلَاءِ عن طَرِيقِ الرَّواتِبِ والدَّرَجاتِ والإغراءاتِ المُختَلِفةِ، أو عن طَرِيقِ التَّرهِيبِ والتَّخْوِيفِ بِالقَوانِينِ وزِيَاراتِ المَسؤولِين وإشرافِهم ورَقَابَتِهم الدائمةِ ونَحوِ ذلك. انتهى] التي تُكَثِّرُ سَوَادَ الظالِمِين؟! أَمْ تلك التي تَدخُلون بها مَجالسَ الفاحِشةِ مِنَ الجامِعاتِ المُخْتَلَطةِ والمَعاهِدِ والمَدارِسِ الفاسِدةِ وغَيرِها؟! بِحُجَّةِ مَصلَحةِ الدَّعوةِ فلا تُظْهِرون دِينَكم الحَقَّ وتَدْعُون فيها [أَيْ في الجامِعاتِ والمَعاهِدِ والمَدارِسِ] بِغَيرِ هَدْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟!؛ ويَحتَجُّون [أَيْ دُعاةُ زمَانِنا] بقَوْلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيما رَواه الإمامُ أَحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ وغَيرُهما {الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ}، ونحن نَقولُ، إنَّ هذا الحَدِيثَ في الشَّرقِ وأنتم عنه في الغَربِ، حيث إنَّ المُخالَطةَ يَجِبُ أنْ تَكونَ على هَدْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وليس تَبَعًا لآرائكم وأهوائكم وأسالِيبِ دَعْوَتِكم البِدعِيَّةِ، فإنْ كانتْ [أَيِ المُخالَطةُ] كذلك، أَيْ على هَدْيِه صلى الله عليه وسلم، حَصَلَ الأذَى [يُشِيرُ إلى قَولِه صلى الله عليه وسلم {وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ}] والأجْرُ مَعًا، وإلَّا فَأَيُّ أَجْرٍ هذا الذي يَنتَظِرُه مَن لا يَدعُو بهَدْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وقد أَهْمَلَ شَرْطًا عَظِيمًا مِن شُروطِ قُبولِ العَمَلِ وهو (الاتِّباعُ)، وَأَيُّ أَذًى ذلك الذي سَيُلَاقِيه مَن لا يُظهِرُ العَداوةَ لِأهلِ الفِسقِ والفُجورِ والعِصيَانِ ولا يُعلِنُ البَراءةَ مِن شِركِيَّاتِهم وطَرائقِهم المُعْوَجَّةِ بَلْ يُجالِسُهم ويُقِرُّ باطِلَهم ويَبَشُّ في وُجُوهِهم ولا يَتَمَعَّرُ أو يَغضَبُ لِلَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ إذا اِنتَهَكوا حُرُماتِ اللهِ، بِحُجَّةِ اللِّينِ والحِكمةِ والمَوعِظةِ الحَسَنةِ وعَدَمِ تَنفِيرِ النَّاسِ عنِ الدِّينِ ومَصلَحةِ الدَّعوةِ وغَيرِ ذلك، ويَهْدِمُ الدِّينَ عُرْوَةً عُرْوَةً بِمَعاوِلِ لِينِهِمْ وحِكْمَتِهم البِدْعِيَّةِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المقدسي-: كَثِيرٌ مِن دُعاةِ زَمانِنا، يُدَنْدِنون على أحادِيثِ الرُّخَصِ والإكراهِ والضَّروراتِ طَوَالَ حَيَاتِهم، وكُلُّ أَيَّامِهم في غَيرِ مَقامِها [أَيْ غَيرِ مَوضِعِ التَّرَخُّصِ والإكراهِ والضَّرورةِ]، وَيَلِجُون بِحُجَّتِها في كُلِّ باطِلٍ، ويُكَثِّرون سَوادَ حُكوماتِ الكُفرِ والإشراكِ، دُونَما إكراهٍ أَوِ اِضْطِرارٍ حَقِيقَين، فَمَتَى يُظهِرون الدِّينَ؟!... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المقدسي-: النبيُّ صلى الله عليه وسلم في مَكَّةَ زَمَنَ الاستِضعافِ كانَ مُتَّبِعًا لِمِلَّةِ إبراهِيمَ أَشَدَّ الاتِّباعِ آخِذًا بها بِقُوَّةٍ، فَما دَاهَنَ الكُفَّارَ لَحظةً واحِدةً وما سَكَتَ عن باطِلِهم أو عن آلِهَتِهم، بَلْ كانَ هَمُّه وشُغْلُهُ الشَّاغِلُ في تلك الثَّلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً هو {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، فَلا يَعنِي كَوْنُه جَلَسَ بينها [أَيْ بين الأصْنامِ] تلك الثَّلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً أنَّه مَدَحَها أو أَثْنَى عليها أو أَقسَمَ على اِحتِرامِها كَما يَفعَلُ كَثِيرٌ مِنَ الجُهَّالِ المُنتَسِبِين إلى الدَّعوةِ مع الْيَاسِقِ العَصْرِيِّ في هذا الزَّمانِ، بَلْ كانَ يُعلِنُ بَراءَتَه مِنَ المُشرِكِين وأعمالِهم ويُبدِي كُفرَه بآلِهَتِهم رَغْمَ اِستِضعافِه واستِضعافِ أصحابِه... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المقدسي-: وَهَا هُنَا مَسألةٌ قد يَرِدُ فيها إشكالٌ على البَعضِ، وهي كَيفِيَّةُ الجَمعِ بين عَيْبِه صلى الله عليه وسلم آلِهَتَهم ودِينَهم، وبين قَولِه تَعالَى {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}، فَنَقولُ وبِاللهِ التَّوفِيقُ أنَّ عَيْبَ الآلِهةِ الباطِلةِ وتَسفِيهَها والحَطَّ مِن قَدْرِها وإنْ سَمَّاه البَعضُ سَبًّا فإنَّه ليس سَبًّا مُجَرَّدًا وإنَّما أصلُ المَقصودِ به [ما يَلِي]؛ (أ)بَيَانُ التَّوحِيدِ لِلنَّاسِ، وذلك بإبطالِ أُلُوهِيَّةِ هذه الأربابِ المُتَفَرِّقةِ المَزعومةِ والكُفرِ بها وبَيَانِ زَيْفِها لِلْخَلْقِ، كَقَولِه تَعالَى {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ، فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا، أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا، أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا، أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا، قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ، إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ، وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ}، وقَولِ إبراهِيمَ عليه السَّلامُ {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا}، وقَولِه تَعالَى {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى، تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى، إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ، إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ، وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى}، وَكَذَا كُلِّ ما جاءَ في وَصفِ هذه الآلِهةِ كَبَيَانِ أنَّها لا تَستَحِقُّ العِبادةَ أو تَسمِيَتِها بالطاغوتِ أو جَعْلِ عِبادَتِها طاعةً لِلشَّيطانِ وإنَّها وإيَّاهم حَصَبُ جَهَنَّمَ وغَيرِ ذلك؛ (ب)وَكَذَلك القِيامُ بهذا التَّوحِيدِ عَمَلِيًّا بإظهارِ عَداوَتِها وبُغْضِها والبَراءةِ منها والكُفرِ بها، كَقَولِه تَعالَى عن إبراهِيمَ {قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ، أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}، وقَولِه {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ}؛ فذلك كُلُّه لا يَدخُلُ في السَّبِّ المُجَرَّدِ الذي نَهَتْ عنه الآيَةُ المَذكورةُ [وهي قَولُه تَعالَى {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}]، والذي مِن طَبِيعَتِه أنْ يَستَثِيرَ الخَصْمَ ويُهِينَه ويُعَيِّرَه فَقَطْ دُونَ فائدةٍ أو بَيَانٍ، فَيَسُبَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ عَدْوًا وجَهْلًا؛ وَكَذَلِكَ الحالُ بِالنِّسبةِ لِعَبِيدِ الياسِقِ، فإنَّ مِلَّةَ إبراهِيمَ تَقتَضِي أنْ يُحَذَّرَ مِن ياسِقِهم ويُعادَى [أَيِ الْيَاسِقُ] ويُبْغَضَ ويُدْعَى الناسُ إلى الكُفرِ به والبَراءةِ منه ومِن أولِيائه وعَبِيدِه المُصِرِّين على تَحكِيمِه، بذِكْرِ فَضائحِه، وكَشفِ زُيُوفِه وبُطْلانِ أحكامِه ومُصادَمَتِها الصَّرِيحةِ لِدِينِ اللهِ (بِإباحَتِها لِلرِّدَّةِ والرِّبَا، وتَسهِيلِها لِلفاحِشةِ والفُجورِ، وتَعطِيلِها لِحُدودِ اللهِ كَحَدِّ الزِّنَى والقَذفِ والسَّرِقةِ وشُرْبِ الخَمْرِ، وما إلى ذلك وهو كَثِيرٌ جِدًّا)، فهذا كُلُّه [أَيِ الكُفرُ بالْيَاسِقِ، والبَراءةُ مِنه ومِن أولِيائه] لا يَدخُلُ فيما نَهَتْ عنه الآيَةُ [وهي قولُه تَعالَى {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}] وإنْ سَمَّاه عَبِيدُ الْيَاسِقِ وسَدَنَتُهم سَبًّا (أو إطالةَ لِسانٍ)؛ أمَّا سَبُّهم [أَيْ سَبُّ عَبِيدِ الْيَاسِقِ] وسَبُّ حُكوماتِهم وحُكَّامِهم ودَساتِيرِهم سَبًّا مُجَرَّدًا، هَكَذَا للاستِثارةِ المُجَرَّدةِ، فهو المَنْهِيٌّ عنه لِما يَتَرَتَّبُ عليه مِن سَبِّ أولئك الجُهَّالِ لِلسَّابِّ وَلِدِينِه وطَرِيقَتِه وإنْ كانوا [أَيْ عَبِيدُ الْيَاسِقِ وحُكوماتُهم وحُكَّامُهم] يَنتَسِبون إلى الإسلامِ زُورًا وبُهتانًا وَيَشهَدون بِرُبوبِيَّةِ اللهِ ورُبَّما يُوَحِّدونه بِبَعضِ أنواعِ أُلُوهِيَّتِه دُونَ الحُكْمِ والتَّشرِيعِ؛ فالاستِثارةُ المُجَرَّدةُ تُعْمِي الخَصْمَ عنِ التَّفكِيرِ والتَّدَبُّرِ وتَحْمِلُه على السَّبِّ، بِخِلافِ تَدخِيلِ العَقْلِ والدَّعوةِ إلى إعمالِه ومُخاطَبَتِه ولَفْتِ اِنتِباهِه إلى زَيْفِ هذه الآلِهةِ وكَونِها لا تَسمَعُ ولا تُبْصِرُ ولا تَضُرُّ ولا تَنفَعُ ولا تُقَرِّبُ ولا تَشفَعُ ولا تُغنِي عن أَنْفُسِها وأَتْباعِها شَيئًا، وتَأَمَّلْ قِصَّةَ إبراهِيمَ مع قَومِه وكَيفَ يَلْفِتُ فيها اِنتِباهَهم إلى زَيْفِ تلك الآلِهةِ المَزعومةِ، ويَستَثِيرُهم لا لِمُجَرَّدِ الاستِثارةِ أو الإهانةِ بَلْ لِيُفَكِّروا ويَتَصادَموا مع عُقولِهم في ذلك، وتَأَمَّلْ كَيفَ يَفْتَضِحُ أَمْرُهم بذلك ويَنتَكِسوا ويَتَناقَضوا ويَتَخَبَّطوا، فيَقُولُ لهم عند ذلك مُعَنِّفًا {أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ، أَفَلَا تَعْقِلُونَ}، والخُلاصةُ أنَّ ذلك لا يَدخُلُ في السَّبِّ المُجَرَّدِ الذي نَهَى اللهُ عنه في الآيَةِ [وهي قولُه تَعالَى {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}]، ولا هو مَقصودٌ بها، حتى ولو تَرَتَّبَ على مِثْلِه أنْ يَسُبَّ الكافِرُ اللهَ أو الدِّينَ عَدْوًا فَلَيسَ للمُسلِمِ أنْ يَتْرُكَ لِأجْلِه ما أَوْجَبَ اللهُ عليه مِنَ الصَّدْعِ بالتَّوحِيدِ وإظهارِ الدِّينِ، فالسَّبُّ هنا لا يَكونُ إلَّا عَدْوًا بِعِلْمٍ، لِوُرودِ الحُجَّةِ والبَيَانِ، وإلَّا لو حَسَبْنا حِسابًا لِمِثْلِ ذلك لَتَرَكْنا دِينَنا كُلَّه وتَنَازَلْنا عنه لِسَوادِ عُيُونِ الكُفَّارِ لِأنَّه كُلَّه قائمٌ على أصْلِ الإيمانِ بِاللهِ والكُفرِ بكُلِّ طاغوتٍ [يُشِيرُ إلى قَولِه تَعالَى {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}]، فَتَنَبَّهْ، وقِسْ على ذلك ما يُقالُ في هذه الطَّواغِيتِ العَصرِيَّةِ مِن دَساتِيرَ ومَناهِجَ وقَوانِينَ وحُكَّامٍ وغيرِهم ولا تُقْصِرُ المَعْنَى على الأصْنامِ الحَجَرِيَّةِ فتُحَجِّرَ واسِعًا... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المقدسي-: وهو صَلَّى اللهُ عليه وسلم لم يَكُنْ لِيَرْبِطَه بِعَمِّهِ [أَبِي طَالِبٍ] الكافِرِ وُدٌّ ولا حُبٌّ، كَيفَ وهو صلى الله عليه وسلم قُدْوَتُنا ومَثَلُنا الأعْلَى في قَولِه تَعالَى {لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} الآيَةَ، مع حِرْصِه [صلى الله عليه وسلم] على هِدَايَتِه، فذلك [أَيِ الحِرْصُ على الهِدَايَةِ] شَيْءٌ والحُبُّ والوُدُّ شَيْءٌ آخَرُ، وما كانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَغْمَ إيواءِ عَمِّهِ وحِمَايَتِه له ودِفَاعِه عنه لِيُصَلِّيَ عليه يَوْمَ أنْ ماتَ، بَلْ نَهاه اللهُ عَزَّ وجَلَّ عن مُجَرَّدِ الاستِغفارِ له يَوْمَ أُنْزِلَ عليه {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الآيَةَ، وما كانَ منه صَلَواتُ اللهِ وسَلامُه عليه عندما جاءَه عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عنه فَقالَ له {إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ مَاتَ، فَمَنْ يُوَارِيهِ [أَيْ فَمَنْ يُغَطِّيه بِالتُّرابِ]؟} غَيْرَ أنْ يَقُولَ [صلى الله عليه وسلم] له {اذْهَبْ فَوَارِهِ} [قالَ الْبَغَوِيُّ في (معالم التنزيل) عند تَفسِيرِ قَولِه تَعالَى (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ): قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} أَيْ أَحْبَبْتَ هِدَايَتَهُ، نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ. انتهى باختصار. وقَالَ الطَّبَرِيُّ في (جامع البيان): يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [مَا مَعْنَاهُ] {إِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ هِدَايَتَهُ}. انتهى. وقالَ الشيخُ ابنُ باز في (شرح كتاب التوحيد) على موقعِه في هذا الرابط: قالَ عَزَّ وجَلَّ {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} يَعنِي (يَا مُحَمَّدُ، لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ هِدَايَتَهُ) كَأَبِيه وأُمِّه وعَمِّهِ ونَحوِ ذلك. انتهى. وقالَ الشيخُ ابنُ عثيمين في (مجموع فتاوى ورسائل العثيمين): قَولُه تَعالَى {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}، الخِطابُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وكانَ يُحِبُّ هِدايَةَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ أو مَن هو أَعَمُّ. انتهى. وقالَ الشيخُ محمد صالح المنجد في هذا الرابط على موقِعِه: عندما قَدِمَ أَبُو سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبْلَ أنْ يُسْلِمَ، وكانَ كافِرًا، قَدِمَ الْمَدِينَةَ يُرِيدُ أنْ يُمَدِّدَ العَهْدَ، عَهْدَ الْحُدَيْبِيَةِ، دَخَلَ عَلَى اِبْنَتِهِ أُمِّ حَبِيبَةَ، وهي رَمْلَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ زَوجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا ذَهَبَ لِيَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أَبُوها يُرِيدُ أنْ يَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ زَوجِها- طَوَتْهُ عَنْهُ، فَقَالَ {يَا بُنَيَّةُ، مَا أَدْرِي أَرَغِبْتِ بِي عَنْ هَذَا الْفِرَاشِ أَمْ رَغِبْتِ بِهِ عَنِّي؟} [يَعْنِي] أَنَا أَقَلُّ مِنَ الْفِرَاشِ فَطَوَيْتِهِ عَنِّي؟، أَمِ الْفِرَاشُ أَقَلُّ مِن مُسْتَوَايَ فَطَوَيْتِهِ عَنِّي؟، قَالَتْ {بَلْ هُوَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْتَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ نَجَسٌ، وَلَمْ أُحِبَّ أَنْ تَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ}، تَقولُ لأَبِيها {أَنْتَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ نَجَسٌ}، هَكَذَا كانَ شُعُورُهم، ومَن كانَ هذا شُعُورُه كَيفَ يُقَلِّدُ الكافِرَ؟! كَيفَ يُحِبُّ الكافِرَ؟! كَيفَ يَتَأَثَّرُ بالكافِرِ؟!، ولَكِنْ خُذِ الآنَ ماذا يَفعَلون، وانظُرْ إليهم ماذا يَفعَلون، لِأنَّهم لا يَشعُرون أنَّ الكُفَّارَ نَجَسٌ، ولذلك يُحِبُّونهم ويُقَلِّدُونهم؛ وقِصَّةُ رَمْلَةَ عند أَبِي إِسْحَاقَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ سعد فياض (عضو المكتب الدعوي والعلمي بالجبهة السلفية) في مَقالةٍ بِعُنوانِ (مَقاصِدُ الكُفرِ العالَمِيِّ) على هذا الرابط: تَكَفَّلَ اللهُ تَعالَى بِالرَّدِّ على [عَبْدِاللَّهِ] بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولَ بِآياتٍ تُتلَى إلى يَومِ القِيامةِ، فَأنزَلَ قَولَه تَعالَى {[يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ]، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}، بَلْ وَقَدَّرَ سُبحانَه إذلالَ اِبْنِ أُبَيِّ [بْنِ] سَلُولَ على يَدِ اِبنِه الصَّحابِيِّ الجَلِيلِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولَ الذي قالَ لِأبِيه {وَاللَّهِ لَا تَنْقَلِبُ حَتَّى تُقِرَّ أَنَّكَ الذَّلِيلُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَزِيزُ} أخرَجَه التِّرْمِذِيُّ، وصَحَّحَه الألبانِيُّ في صَحِيحِ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ [قالَ الشيخُ أسامة سليمان (مديرُ إدارة شؤون القرآن بجماعة أنصار السُّنَّةِ المُحَمَّدِيَّةِ) في (شرح صحيح البخاري): ثم وَقَفَ على بابِ المَدِينةِ إلى أنْ جاءَ أبوه، فَقَالَ {دَعْنِي أدخُلْها}، قالَ {لن تَدخُلَ المَدِينةَ إلَّا أنْ تَقولَ (أنَا الأَذَلُّ، وَرَسُولُ اللَّهِ الأَعَزُّ)}، فقال عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ {أنَا الأَذَلُّ، وَرَسُولُ اللَّهِ الأَعَزُّ}، فَسَمَحَ له بِدُخولِها؛ ومَوقِفُ الابنِ هُنَا عِزَّةٌ وكَرامةٌ لِلإسلامِ {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}، واليَومَ العِزَّةُ والكَرامةُ ضاعَتْ في بِلادِ المُسلِمِين لِأنَّهم تَخَلَّوْا عن دِينِهم وعن عَقِيدَتِهم. انتهى]. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ أبو فيصل البدراني في (بسط القول والإسهاب في بيان حكم مودة المؤمن للكافر): قالوا [أَيْ بَعضُ العُلَماءِ] أنَّه لا يَجوزُ مَودَّةُ الكافِرِ أبَدًا، ولو كانَتْ [أَيِ المَوَدَّةُ] جِبِلِّيَّةً، ولو كانَ الكافِرُ غَيرَ مُحارِبٍ، ولو كانَ الكافِرُ زَوجةً كِتابِيَّةً... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ البدراني-: قالَ فَرِيقٌ [أَيْ مِنَ العُلَماءِ] {إنَّه يَجوزُ مَحَبَتُهم [أَيْ مَحَبَّةُ الوالِدِ الكافِرِ والزَّوجةِ الكِتابِيَّةِ] بِمُقتَضَى الجِبِلَّةِ البَشَرِيَّةِ والطَّبعِ إلَّا أنَّه يَجِبُ أنْ يُصاحِبَ مَحَبَّتَهم المَحَبَّةَ الطَّبِيعِيَّةَ البُغضُ لهم في الدِّينِ}، وقالوا {لا مُنافاةَ بين بُغْضِهم في اللهِ وبُغْضِ أشخاصِهم لِكُفْرِهم، و[بين] مَحَبَّتِهم بِمُقتَضَى الطَّبعِ}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ البدراني-: قالَ [أَيْ بَعضُ العُلَماءِ] تَعلِيقًا على بَعضِ الآيَاتِ والأحادِيث التي يَحتَجُّ بها المُخالِفُ لهم مِثْلِ قَولِه تَعالَى {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا، وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} ومِثْلِ قَولِه تَعالَى {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} وغير ذلك، بِأَنَّ البِرَّ والإحسانَ لِلكُفَّارِ لا يَستَلزِمُ المَحبَّةَ والمَوَدَّةَ كَما أنَّ البُغضَ والكَراهِيَةَ لا تَستَلزِمُ عَدَمَ البِرِّ والإحسانِ، وقالوا أنَّ الصِّلةَ والمُكافأةَ الدُّنْيَوِيَّةَ وحُسنَ المُعامَلةِ شَيءٌ، والمَوَدَّةَ شَيءٌ آخَرُ، وقالوا أنَّ البِرَّ هو إيصالُ الخَيرِ إلى الغَيرِ مع قَطعِ النَّظَرِ عن مَحَبَّتِكَ له مِن عَدَمِها، واستَدَلُّوا بِما وَرَدَ في صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنه قَالَ {قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ [أَيْ يَدُورُ بِبِئْرٍ] كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا [المُوقُ جِلْدٌ يُلْبَسُ فَوْقَ الْخُفِّ لِحِفْظِهِ مِنَ الطِّينِ وَغَيْرِهِ] فَسَقَتْهُ، فَغُفِرَ لَهَا بِهِ)}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ البدراني-: وقالَ صاحبُ (أضواء البيان) الإمامُ الشنقيطي رَحِمَه اللهُ {قَوْلُهُ تَعَالَى (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)، هَذِهِ الآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى الأَمْرِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ، وَقَدْ جَاءَتْ آيَةٌ أُخْرَى يُفْهَمُ مِنْهَا خِلَافُ ذَلِكَ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى (لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ) الآيَةَ، ثُمَّ نَصَّ عَلَى دُخُولِ الآبَاءِ فِي هَذَا بِقَوْلِهِ (وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ)، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الآيَتَيْنِ، وُوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُصَاحَبَةَ بِالْمَعْرُوفِ أَعَمُّ مِنَ الْمُوَادَّةِ، لِأنَّ الإِنْسَانَ يُمْكِنُهُ إِسْدَاءُ الْمَعْرُوفِ لِمَنْ يَوَدُّهُ وَمَنْ لَا يَوَدُّهُ، وَالنَّهْيُ عَنِ الأَخَصِّ لَا يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ الأَعَمِّ، فَكَأَنَّ اللَّهَ حَذَّرَ مِنَ الْمَوَدَّةِ الْمُشْعِرَةِ بِالْمَحَبَّةِ وَالْمُوَالَاةِ بِالْبَاطِنِ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ، يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الآبَاءُ وَغَيْرُهُمْ، وَأَمَرَ الإِنْسَانَ بِأَنْ لَا يَفْعَلَ لِوَالِدَيْهِ إِلَّا الْمَعْرُوفَ، وَفِعْلُ الْمَعْرُوفِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْمَوَدَّةَ لِأنَّ الْمَوَدَّةَ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ لَا مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ البدراني-: ورَدُّوا [أَيْ بَعضُ العُلَماءِ] على مَن قالَ بِأَنَّ {مَسألةَ (المَيلُ القَلْبِيُّ لا اِختِيارَ لِلشَّخصِ فيه)}، قالوا {نَعَمْ، المَحَبَّةُ والبُغضُ أمْرانِ بِيَدِ اللهِ، لَكِنْ لهما أسبابٌ، وبِإمكانِ المُسلِمِ رَفْعُه [أَيْ رَفْعُ المَيلِ القَلْبِيِّ] بِقَطعِ أسبابِ المَوَدَّةِ التي يَنشَأُ عنها مَيلُ القَلبِ}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ البدراني-: أَوجَبَ [أَيْ بَعضُ العُلَماءِ] هَجْرَ وقَطعَ أسبابِ المَوَدَّةِ مع كُلِّ مَن يَغْلِبَ على ظَنِّكَ مَحَبَّتُه [أَيْ مِنَ الكُفَّارِ] بِسَبَبِ صِلَتِه ولو حَمَلَكَ ذلك على رَدِّ ما ثَبَتَ بالشرعِ جَوازُه كالهَدِيَّةِ [ذَكَرَ الشيخُ رياض المسيميري (عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام) في مقالةٍ له على هذا الرابط أنَّ مِن ضَوَابِطِ قُبولِ هَدَايَا المُشرِكِين والإهْداءِ إليهم: ألَّا يَتَرَتَّبَ على قُبولِ الهَدِيَّةِ أو إهدائِها مَوَدَّةٌ أو مَحَبَّةٌ، لِقَولِه تَعالَى {لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}. انتهى]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ البدراني-: ورَدُّوا [أَيْ بَعضُ العُلَماءِ] على مَنِ اِستَدَلُّوا بِقَولِ اللهِ تَعالَى {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} على أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يُحِبُّ عَمَّه وهو مُشرِكٌ، فَ[قالوا]، الجَوابُ أنَّ المَعنَى (مَن أَحْبَبْتَ هِدَايَتَهُ لا مَن أَحْبَبْتَ شَخصَه)، كما جَاءَ ذلك مُوَضَّحًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَن يُضِلُّ} الآيَةَ... ثم نَقَلَ -أَيِ الشيخُ البدراني- عن بَعضِ العُلَماءِ قَولَهم: لو حَصَلَ مَيْلٌ طَبِيعِيٌّ إليها [أَيْ إلى الزَّوجةِ الكِتابِيَّةِ] بِلا قَصدٍ ولا إرادةٍ، وفيه نَوعُ مَوَدَّةٍ لها طَبِيعِيَّةٍ وفِطْرِيَّةٍ مِن أَجْلِ إحسانِها إليه ولِمَا بينهما مِنَ العِشْرةِ والأولادِ، فهذا لا يُلامُ عليه الإنسانُ بشرطِ مُدافَعةِ مَحَبَّتِها وعَدَمِ الرُّكونِ إلى مَحَبَّتِها ويَجِبُ عليه أنْ يُبْغِضَها لِمَا فيها مِنَ الكُفْرِ... ثم نَقَلَ -أَيِ الشيخُ البدراني- عن بَعضِ العُلَماءِ أنَّهم: يَرَوْنَ أنَّ المُسلِمَ إذا رَأَى مِن نَفسِه مَيلًا ومَحَبَّةً طَبِيعِيَّةً لِلكافِرِ بِسَبَبِ هَدِيَّتِه أو إحسانِه أو صِلَتِه، فإنَّه يَجِبُ عليه في هذه الحالِ قَطعُ أسبابِ هذه المَوَدَّةِ، ولو أَدَّى ذلك إلى رَدِّ الهَدِيَّةِ وعَدَمِ قُبولِها، والامتِناعِ مِنَ الزِّيَارةِ، وعليه [أَيْ على المُسلِمِ] هَجْرُ الأقارِبِ الكُفَّارِ هَجرًا جَمِيلًا إذا آنَسَ مِن نَفسِه إضمارَ المَحَبَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ تِجاهَهم بِاستِثناءِ هَجْرِ الوالِدَين والزَّوجةِ الكِتابِيَّةِ فإنَّه لا يَجوزُ هَجْرُهم لِهذا السَّبَبِ [أَيْ إِينَاسِ إضمارِ المَحَبَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ تِجاهَهم]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ البدراني-: يَقولُ الشيخُ عبدُالرحمن البرَّاك [أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية] {المَحَبَّةُ الطَّبِيعِيَّةُ قد تَكونُ مع بُغضٍ دِينِيٍّ، كَمَحَبَّةِ الوالِدَين المُشرِكَين فإنَّه يَجِبُ بُغضُهما في اللهِ ولا يُنافِي ذلك مَحَبَّتَهما بِمُقتَضَى الطَّبِيعةِ، ومِن هذا الجِنسِ مَحَبَّةُ الزَّوجةِ الكِتابِيَّةِ فإنَّه يَجِبُ بُغضُها لِكُفرِها بُغضًا دِينِيًّا ولا يَمنَعُ ذلك مِن مَحَبَّتِها المَحَبَّةَ التي تَكونُ بين الرَجُلِ وزَوجِه}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ البدراني-: جاءَ في تَفسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ {قِيلَ فِي قَوْلِهِ (وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ) نَزَلَتْ فِي أَبِي عُبَيْدَةَ [هو عَامِرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الْجَرَّاحِ، أَحَدُ الْعَشَرَةِ المُبَشَّرِين بالجَنَّةِ]، قَتَلَ أَبَاهُ يَوْمَ بَدْرٍ؛ (أَوْ أَبْنَاءَهُمْ) فِي الصِّدِّيقِ، هَمَّ يَوْمَئِذٍ بِقَتْلِ ابْنِهِ عَبْدِالرَّحْمَنِ؛ (أَوْ إِخْوَانَهُمْ) فِي مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَتَلَ أَخَاهُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَوْمَئِذٍ؛ (أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) فِي عُمَرَ قَتَلَ قَرِيبًا لَهُ يَوْمَئِذٍ أَيْضًا، وَفِي حَمْزَةَ وَعَلِيٍّ وَعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ، قَتَلُوا عُتْبَةَ، وَشَيْبَةَ، وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، يَوْمَئِذٍ [حيث قَتَلَ حَمْزَةُ شَيْبَةَ (أَخَا عُتْبَةَ)، وَقَتَلَ عَلِيٌّ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، وأَمَّا عُتْبَةُ فقد جَرَحَه عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وأَجْهَزَ عليه عَلِيٌّ وحَمْزَةُ]؛ وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، حِينَ اسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمُسْلِمِينَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ فَقَالَ عُمَرُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ تُمَكِّنِّي مِنْ فُلَانٍ -قَرِيبٍ لِعُمَرَ- فَأَقْتُلَهُ؟، وَتُمَكِّنُ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ [هو عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، أَخُو عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]؟، وَتُمَكِّنُ فُلَانًا مِنْ فُلَانٍ؟، لِيَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَتْ فِي قُلُوبِنَا هَوَادَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ)}. انتهى باختصار]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المقدسي-: إنَّنا مُكَلَّفون في مُعامَلاتِنا وأحكامِنا في الدُّنْيَا بالظاهِرِ دُونَ الباطِنِ، وهذا مِن فَضلِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ عَلَينا، وإلَّا لَأمْسَى الإسلامُ وأهلُه أُلْعُوبةً وأُضْحُوكةً لِكُلِّ جاسُوسٍ وخَبِيثٍ وزِنْدِيقٍ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المقدسي-: إنَّ هؤلاء الطَّواغِيتَ أَشَدُّ خُبْثًا وأعظَمُ مَكْرًا مِن فِرْعَوْنَ، فَهُمْ لا يَلْجَأُونَ إلى أُسْلُوبِه في تَقتِيلِ الأبناءِ، إلَّا في آخِرِ الأمْرِ حِينَ تَعْجِزُ أسالِيبُهم الخَبِيثةُ الأُخْرَى، فيُحاوِلون جاهِدِين قَبْلَ ذلك أنْ يَقْتُلوا هذه المِلَّةَ في نُفوسِهم، فبَدَلًا مِن أنْ يُهْلِكوا الأجْيالَ حِسِّيًّا كما فَعَلَ فِرْعَوْنُ، يَقْتُلون فيهم هذه المِلَّةَ فيُهْلِكونهم أَيَّما إهلاكٍ، وذلك بتَرْبِيَتِهم على حُبِّهم والوَلاءِ لهم ولِقَوَانِينِهم وحُكوماتِهم عَبْرَ مَدارِسِهم الفاسِدةِ هذه، ووَسائلِ إعلامِهم الأُخْرَى التي يُدْخِلُها ويَنْقُلُها كَثِيرٌ مِن جُهَّالِ المُسلِمِين إلى بُيُوتِهم، فبَدَلًا مِن أنْ يُثِيرَ هؤلاء الطَّواغِيتُ الناسَ بِاستِعجالِ القَتْلِ الحَقِيقِيِّ، يَتَّبِعون هذه السِّياسةَ الخَبِيثةَ لِيُسَبِّحَ الناسُ بِحَمْدِهم وبِأفْضالِهم على أنَّهم ماسِحو الأُمِّيَّةِ وناشِروا العِلْمِ والحَضَارةِ، وفوقَ ذلك كُلِّه وتَحْتَ هذا الغِطَاءِ يُرَبُّون مِن ذَرَارِيِّ [(ذَرَارِيّ) جَمْعُ (ذُرِّيَّة)، والّذُرِّيَّةُ هُمُ الصِّبْيَانُ أوِ النِّسَاءُ أَوْ كِلَاهُمَا] المُسلِمِين أَتْباعًا أَوْفِيَاءَ وخَدَمًا مُخلِصِين لِحُكوماتِهم ولِقَوَانِينِهم وأُسَرِهم الحاكِمةِ، أو على أَقَلِّ الأحوالِ يُرَبُّون جِيلًا مائعًا جاهِلًا مُنحَرِفًا راغِبًا عن هذه الدَّعوةِ الصُّلْبةِ والمِلَّةِ القَوِيمةِ مُداهِنًا لأهلِ الباطِلِ لا يَقْوَى بَلْ ولا يَصْلُحُ لِمُواجَهَتِهم أو يُفَكِّرُ فيها... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المقدسي-: أَمَا آنَ لهم [أَيْ لدُعاةِ زمَانِنا] أنْ يَستَيقِظوا مِنَ الغَفَلاتِ ويُقَوِّموا الانحِرافاتِ؟، أَوَ مَا كَفَاهُمْ سُقُوطًا في أَلاعِيبِ الطُّغاةِ وكِتْمانًا لِلحَقِّ وتَلْبِيسًا على الناسِ ومَضْيَعةً لِلْجُهودِ والأَعْمارِ؟، فإنَّه واللهِ اختِيارٌ واحِدٌ (إمَّا شَرِيعةُ اللهِ، وإمَّا أَهْواءُ الذِين لا يَعْلَمون)، وليس هناك طَرِيقٌ وَسَطٌ بين الشَّرِيعةِ المُستَقِيمةِ والأهْواءِ المُتَقَلِّبةِ. انتهى باختصار.

 

(10)وقالَ الشيخُ عبدُالله التهامي في (مجلة البيان، التي يَرْأَسُ تحريرَها الشيخُ أحمد بن عبدالرحمن الصويان "رئيس رابطة الصحافة الإسلامية العالمية") تحت عنوان (ضوابط الضرورة في الشريعة الإسلامية): فقد استسلمَ مُعظَمُ الناسِ إلى نِعمةِ التَّرَخُّصِ، ورَغِبَوا في استِبقاءِ هذه النِّعمةِ وعَدَمِ زَوالِها، مع أنَّ مسألةَ التَّرَخُّصِ تُعتَبَرُ مِنَ الأُمورِ العارِضةِ والقَضايَا الطارِئةِ، إلَّا أنَّها صارَتْ في كثيرٍ مِنَ الأحْيانِ عند بعضِ الناسِ ذَرِيعةً إلى التَّخَلُّصِ والتَّفَلُّتِ مِنَ الالتِزامِ بقُيودِ هذه الشريعةِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ التهامي-: إنَّ أَهْلَ الزَّيْغِ والهَوَى، كَثِيرًا ما يَتَعَلَّقون بسِتَارِ الضرورةِ في تحقيقِ مَآرِبِهم ونَيْلِ أغراضِهم، فيُحَمِّلون هذه الشريعةَ باطِلَ صَنِيعِهم وسُوءَ مَكْرِهِمْ، بَلْ ورُبَّما يَنسَلِخون مِنَ الدِّينِ كُلِّه باسمِ الضرورةِ أو الحِكمةِ أو المَصلَحةِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ التهامي-: المرادُ بحالةِ الضرورةِ عند علماءِ الشَّرِيعةِ في مِثْلِ قولِهم {يَجوزُ كذا عند الضرورةِ (أو لِأجْلِ الضرورةِ)} تلك الحالةُ التي يَتَعَرَّضُ فيها الإنسانُ إلى الخَطَرِ في دِينِه أو نَفْسِه أو عَقْلِه أو عِرضِه أو مالِه، فَيَلْجَأَ -لكي يُخَلِّصَ نَفْسَه مِن هذا الخَطَرِ- إلى مُخالَفةِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ الثَّابِتِ، وذلك كمَن يَغَصُّ بِلُقْمَةِ طَعَامٍ ولا يَجِدُ سِوَى كَأْسٍ مِنَ الخَمْرِ يُزِيلُ هذه الغُصَّةَ؛ وقد تَواتَرَتِ الأدِلَّةُ على أنَّ هذه الشريعةَ جاءَتْ لِحفْظِ الضَّرُورِيَّاتِ الخَمْسِ (الدِّينِ والنَّفْسِ والعَقْلِ والنَّسلِ والمالِ)، والمُرادُ بالضَّرُورِيَّاتِ الأمُورُ التي لا بُدَّ مِنَ المُحافَظةِ عليها حتى تَستَقِيمَ مصالحُ الدُّنْيَا والآخِرَةِ على نَهْجٍ صحيحٍ دُونَ اختِلَالٍ، وإنَّما يكونُ ذلك بالمُحافظةِ على هذه الأمُورِ الْخَمْسَةِ، لذا تُسَمَى الضَّرُوراتِ (أو الضَّرُورِيَّاتِ) الْخَمْسَ، وتُسَمَى بالكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ أيضًا لِكَونِها جامِعةً لجميعِ الأحكامِ والتكالِيفِ الشَّرعِيَّةِ، فهي كُلِّيَّةٌ تَنْدَرِجُ تحتها جميعُ جُزئِيَّاتِ الشَّرِيعةِ، وتُسَمَى أيضًا بمَقاِصدِ الشَّرِيعةِ لِمَا ثَبَتَ -بالاستقراءِ التَّامِّ لهذه الشَّرِيعةِ دَقِيقِهَا وَجَلِيلِهَا- كَوْنُ المُحافَظةِ على هذه الأمُورِ الخَمْسةِ أَمْرًا مَقصُودًا للشارِعِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ التهامي- تحت عنوان (الفرق بين الضرورة والحاجة): الضرورةُ حالةٌ تَستَدعِي إنقَاذًا، أَمَّا الحاجَةُ فهي حالةٌ تَستَدعِي تَيْسِيرًا وتَسْهِيلًا، فهي مَرْتَبةٌ دُونَ الضَّرُورةِ، إذْ يَتَرَتَّبُ على الضَّرُورةِ ضَرَرُ عظيمٌ في إحْدَى الكُلِّيَّاتِ الخَمْسِ. انتهى. وقالَ الشيخُ محمد صالح المنجد في خُطْبَةٍ له بِعُنْوانِ (التساهُل في الاحتجاج بالضرورة) مُفَرَّغَةٍ على موقِعِه في هذا الرابط: حَدِيثُنا في هذه الخُطْبَةِ عن موضوعٍ حَصَلَ فيه خَلْطٌ كثيرٌ، وحَصَلَ فيه استغلالاتٌ سَيِّئةٌ كثيرةٌ مِن كثيرٍ مِن أصحابِ النَّوَايَا السَّيِّئةِ، ولذلك كان لا بُدَّ للمُسلمِ مِن فَهْمِه وفَهْمِ ما يَتَعَلَّقُ به، ألَا وهو القاعدةُ الشرعيَّةُ العظيمةُ {الضَّرُوراتُ تُبِيحُ المحظوراتِ}، هذه القاعدة التي ظُلِمَتْ ظُلْمًا عَظِيمًا مِن كثيرٍ مِن أَبْناءِ المسلمِين، هذه القاعدةُ التي أَصْبَحَ الاستدلالُ بها على ما هَبَّ ودَبَّ مِنَ الأُمُورِ دَيْدَنَ عامَّةِ الذِين يَعْصُونَ اللهَ سُبحانَهُ وتَعالَى، كُلَّمَا أَرادَ أَحَدُهم أنْ يَفعَلَ مَعصِيَةً -أو فَعَلَها- فناقَشْتَه في ذلك كان مِن حُجَجِه {الضَّرُوراتُ تُبِيحُ المحظوراتِ}!، فما هي حقيقةُ هذه القاعدةِ وما هي ضَوابِطُها؟؛ قالَ اللهُ تَعالَى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، وقالَ {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، وقالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}، لماذا شَرَعَ رَبُّنا جَوَازَ أَكْلِ المَيْتةِ للضَّرُورةِ وجَوَازَ تَناوُلِ الأَمْرِ المُحَرَّمِ للضَّرُورةِ؟، لأنَّه قالَ عَزَّ وَجَلَّ {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وقالَ {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}، وقالَ {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ}، وقد أَجْمَعَ الفُقهاءُ على أنَّ للجائعِ المُضْطَرِّ الذي لا يَجِدُ شيئًا حَلَالًا يَدْفَعُ به الهَلَاكَ عن نَفْسِه أنْ يَتَناوَلَ المُحَرَّمَ إذا لم يَجِدْ غيرَه، فيَتَناوَلُ منه بقَدْرِ ما يُزِيلُ ضَرُورَتَه، لأنَّ اللهَ قالَ {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإثْمٍ، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}؛ وقالَ اللهُ سُبْحانَهُ وتَعالَى مُبَيِّنًا حالةً أُخْرَى مِن حالاتِ الاِضْطِرارِ {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}، فإذا كانَ المُسلمُ قد تَعَرَّضَ لتَهدِيدٍ حَقِيقِيٍّ وتَعذِيبٍ وَحْشِيٍّ، يُرادُ منه أنْ يَنْطِقَ بكلمةِ الكُفرِ، نَطَقَ بها لِسانُه، وقَلْبُه مُطْمَئِنٌّ بالإيمانِ؛ فإذَنْ، هذه القاعدةُ في الشَّرِيعةِ مَحفُوظةٌ بأَدِلَّتِها، قائِمةٌ، مِن عَلَاماتِ ومَيْزاتِ هذا الدِّينِ؛ ولكنْ أَيُّها المسلمون، مَتَى يُصْبِحُ الشيءُ ضَرورةً، ما مَعْنَى كلمةِ الضَّرورةِ؟، إنَّ كثيرًا مِنَ الناسِ يُفَسِّرون الضَّرورةَ بأَيِّ مَشَقَّةٍ تَعْرِضُ، بأَيِّ دَرَجةٍ تكونُ، أو يُفَسِّرون الضَّرورةَ بحاجَتِهم إلى التَّوَسُّعِ في الأمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، ولأجْلِ ذلك يَنتَهِكون حُرْمةَ الشَّرِيعةِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجد-: فأمَّا الضَّرورةُ فقد ذَكَرَ العلماءُ تَعرِيفَها، وقالوا {إذا تَرَتَّبَ على عَدَمِ فِعْلِ الشيءِ المُحَرَّمِ هَلَاكٌ، أو إلْحاقُ الضَّرَرِ الشَّدِيدِ، بأَحَدِ الضَّرُورِيَّاتِ الخَمْسِ (وهي الدِّينُ والنَّفْسُ والعَقْلُ والمالُ والعِرْضُ)، فإنَّه عند ذلك يَجُوزُ له أنْ يَتَناوَلَ المُحَرَّمَ للضَّرُورةِ}، فتأمَّلْ كَلَامَهم رَحِمَهم اللهُ في قولِهم {هَلَاكٌ، أو إلْحاقُ ضَرَرٍ شَدِيدٍ، عند ذلك يَجُوزُ له أنْ يَرتَكِبَ هذا المُحَرَّمَ للضَّرُورةِ}، وهذا الكلامُ أيضًا فيه تَفْصِيلٌ، ولذلك فإنَّنا لا يَجوزُ لنا أنْ نَترُكَ الجِهادَ في سبيلِ اللهِ مِن أَجْلِ المُحافَظةِ على النُّفُوسِ ونَقُولَ {إنَّ تَرْكَ الجِهادِ ضَرورةٌ لأنَّ الجِهادَ يُسَبِّبُ قَتْلَ النَّفْسِ}، كَلَّا، لأنَّ حِفْظَ الدِّينِ أَعْلَى [مِن حِفْظِ النَّفْسِ] والجِهادُ لا بُدَّ منه لِحِفْظِ الدِّينِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجد-: وهناك أُمُورٌ تُقَدَّمُ وتُؤَخَّرُ في أبوابِ الضَّرورةِ، فلو أنَّه غَصَّ بِلُقْمةٍ [وَ]لم يَجِدْ إلَّا خَمْرًا لِيَبتَلِعَها [أَيٍ اللُّقْمةَ] وإلَّا لَمَاتَ وهَلَكَ واخْتَنَقَ، جازَ له أنْ يَتَناوَلَ ما يُسَلِّكُ به تلك الغُصَّةَ ويَنْجُوَ به مِنَ الهَلَاكِ، فَتَنْجُو نَفْسُه ولو أَدَّى لإلْحاقِ ضَرَرٍ بعَقْلِه [وذلك لأنَّ حِفْظَ النَّفْسِ أعلى مِن حِفْظِ العَقْلِ]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجد-: لا بُدَّ لَنَا أنْ نَعْلَمَ ونَعْرِفَ ما هي القواعدُ [يَعْنِي ضَوَابِطَ قاعدةِ (الضَّروراتُ تُبِيحُ المحظوراتِ)] التي ذَكَرَها العُلماءُ، لِنَكُونَ على بَيِّنةٍ عند اِستِخدامِ هذا الأمرِ الخَطِيرِ، الذي إنْ لم يُحْسَنِ استِخدامُه تَعَرَّضَ المُستَخدِمُ للهَلَاكِ في العاجِلِ والآجِلِ؛ أوَّلًا، يَجِبُ أَلَّا يَتَسَبَّبَ الإنسانُ لإيقاعِ نَفْسِه في الضَّرورةِ، فلو أنَّه أَتلَفَ مالَه وطَعَامَه الطَّيِّبَ، وهو يَعْلَمُ أنَّه سيَضْطَرُّ [أَيْ بسَبَبِ ذلك] لِأكْلِ طَعَامٍ مُحَرَّمٍ، كان آثِمًا عند اللهِ بفِعْلِه هذا؛ ثانيًا، فإنَّ الضَّرُورَةَ لا بُدَّ أنْ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، إنَّ بابَ الضَّرُورةِ ليس مَفتُوحًا عَلَى مِصْرَاعَيْهِ يَدخُلُ منه كُلُّ مَن هَبَّ ودَبَّ بأَيِّ طَرِيقةٍ شاءَ، وإنَّما هو مَضبُوطٌ بضَوابِطَ يَعْلَمُها أهلُ العِلمِ الثِّقاتُ، ذَكَروها في كُتُبِهم، ويَذكُرُها المُفْتُون المُخْلِصون للناسِ إذا سُئِلُوا، فالضَّرُورَةُ لا بُدَّ أن تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، فمَنِ اُضْطُرَّ إلى الكَذِبِ (مَثَلًا) فَإِنْ أَمْكَنَهُ التَّوْرِيَةُ لا يَجوزُ له أنْ يَكذِبَ، والتَّوْرِيَةُ أنْ يَأْتِي بلَفظٍ له مَعْنًى بَعِيدٌ في نَفْسِه، ومَعْنًى قَرِيبٌ في نَفْسِ الوَقْتِ يَفهَمُه السامِعُ، فعند ذلك لا يَجوزُ أنْ يَكذِبَ، ويَستَخدِمُ [أَيْ على سَبِيلِ الوُجوبِ] التَّوْرِيَةَ، وإذا اُضْطُرَّ إلى الكَذِبِ، كأنْ يكونَ عنده مالُ إنسانٍ مَعصُومٍ مُخَبَّأٌ، فَجَاءَ ظالِمٌ يقولُ له {هَلْ عندك المالُ؟}، ولم يَجِدْ طَرِيقةً لِلتَّوْرِيَةِ، فيَجوزُ له أنْ يَكْذِبَ في هذا الأمْرِ فَقَطْ، بجُمْلَةٍ مُحَدَّدةٍ لا يَنتَشِرُ الكَذِبُ إلى غيرِها، ومَن أُكْرِهَ على النُّطقِ بكلمةِ الكُفرِ لا يَجُوزُ له أنْ يَكْفُرَ بقَلْبِه، لأنَّ الكُفْرَ على اللِّسانِ فَقَطْ إذا اُضْطُرَّ إلى ذلك [قالَ الشيخُ أبو بصير الطرطوسي في كتابِه (شُروطُ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"): الإكراهُ سُلْطانُه على الجَوَارِحِ الظاهِرةِ لا الجَوَارِحِ الباطِنةِ [(جَوَارِحُ الإِنْسَانِ الظاهِرةِ) هي أَعْضَاؤُهُ الظاهِرةِ الَّتِي يَكْتَسِبُ بِهَا، وَهِيَ الْعَيْنُ وَالأُذُنُ وَاللِّسَانُ وَالْبَطْنُ وَالْفَرْجُ وَالْيَدُ وَالرِّجْلُ؛ أَمَّا (الجَوَارِحُ الباطِنةُ) فهي القَلْبُ فَقَطْ، وقد غَلَبَ التَّعبِيرُ بالجَمْعِ لمُشاكَلةِ قَولِهم {الجَوَارِحُ الظاهرةُ}]. انتهى]، ومَن جازَ له التَّيَمُّمُ للضَّرورةِ، فإذا قَدِرَ على استِعمالِ الماءِ لا يَجوزُ له أنْ يُوَاصِلَ في التَّيَمُّمِ، ومَنِ اُضْطُرَّ للإفطارِ في شَهْرِ رَمَضانَ مِن أَجْلِ المَرَضِ، فإذا اِشتَدَّ وقَوِيَ وأَطاقَ الصِّيَامَ ما جازَ له أنْ يُكْمِلَ في إفطارِه، وكذلك المُسافِرُ لو أقامَ لا يَجوزُ له الإكْمالُ في الإفطارِ في رَمَضانَ، وخُذْ مَثَلًا مِنَ الأمْثِلةِ التي يَتَعَرَّضَ لها كثيرٌ مِنَ النَّاسِ في هذه الأيَّامِ بسببِ عَدَمِ الاحتِيَاطِ في الشَّرِيعةِ، وعَدَمِ وُجودِ الجُهودِ الصَّحِيحةِ التي تُزِيلُ الحَرَجَ عن كثيرٍ مِن نِساءِ المُسلمِين، (كَشْفُ الطَّبِيبِ على المرأةِ المَرِيضةِ)، [فَ]بِسَبَبِ تَقصِيرِنا وإهمالِنا وعَدَمِ تَخطِيطِنا وانتِباهِنا للمُحَرَّماتِ، حَصَلَ تَقصِيرٌ شَدِيدٌ في تنظيمِ الأمُورِ، فصارَتِ المرأةُ تُضْطَرُّ في كثيرٍ مِنَ الأحْيَانِ للكَشْفِ عند الطَّبِيبِ الأَجْنَبِيِّ، وهنا لا بُدَّ أنْ نَفهَمَ مَعْنَى تَقدِيرِ الضَّرورةِ بقَدْرِها في مِثْلِ هذا المَوضِعِ، فمَثَلًا لا بُدَّ أنْ تَبحَثَ عن طَبِيبةٍ مُسلِمةٍ لِزَوجَتِكَ أو بِنْتِكَ، فإنْ لم يُوجَدْ طَبِيبةٌ مُسلِمةٌ مُؤَهَّلةٌ، في أَيِّ مَكانٍ تَستَطِيعُ الوُصولُ إليه، وتَستَطِيعُ دَفْعَ أَجْرِه، جازَ اللُّجوءُ إلى طَبِيبةٍ كافرةٍ، فإنْ لم تُوجَدْ طَبِيبةٌ كافرةٌ مُؤَهَّلةٌ أيضًا جازَ اللُّجوءُ إلى الطَّبِيبِ المُسلمِ المُؤَّهَلِ [قلتُ: ويُراعَى هنا تَقدِيمُ الطَّبِيبِ السُّنِّيِّ على الطَّبِيبِ المُبتَدِعِ. وقد قالَ الشيخُ صالح الفوزان في فيديو له بعُنْوانِ (ما حُكْمُ مُجالَسةِ أَهْلِ البِدَعِ بِحُجَّةِ التَّقَرُّبِ إليهم وتَعلِيمِهم الدِّينَ الصّحِيحَ؟): لا تَقْرَبْ مِن أَهْلِ البِدَعِ أَبَدًا، يُؤَثِّرون عليك، وتَأْثَمُ بجُلوسِك معهم، اِبتَعِدْ عنهم إلَّا إذا دَعَتِ الحاجَةُ إلى مُناظَرَتِهم وبَيَانِ ما هُمْ عليه مِنَ الباطِلِ وأنتَ عندك أَهْلِيَّةٌ لذلك، فلا مانِعَ، في حُدُودٍ. انتهى]، فإنْ لم يُوجَدْ جازَ اللُّجوءُ إلى الطَّبِيبِ الكافِرِ، فَهَلْ يَتَّبِعُ الناسُ هذا التَّنفِيذَ؟، ثم إذا جازَ للطَّبِيبِ الكَشْفُ عنِ المرأةِ الأجنَبِيَّةِ، فيَجِبُ أنْ يكونَ بدُونِ خَلْوَةٍ، وأن يَحْضُرَ مَحْرَمُها (مَثَلًا)، وأنْ يَكْشِفَ على مَوضِعِ العِلَّةِ فَقَطْ ولا يَتَعَدَّاه، وإذا كانَ النَّظَرُ إلى مَوضِعِ العِلَّةِ يَكفِي فلا يَجوزُ له أنْ يَلمِسَ، وإذا كانَ يَكْفِيه لَمْسٌ مِن وَراءِ حائلٍ لا يَجوزُ له أنْ يَلمِسَ بغيرِ حائلٍ، وإذا كانَ يَتَوَجَّبُ أنْ يَلمِسَه بغيرِ حائلٍ فلا يَلمِسُ ما حَوْلَه مِنَ المِنْطَقةِ التي لا عَلَاقةَ لها بالعِلَّةِ، ولا عَلَاقةَ لها بالعِلَاجِ أيضًا، وإذا كانَ يَكفِيه أنْ يَفْحَصَ لِمُدَّةِ دَقِيقةٍ (مَثَلًا) فلا يَجوزُ له أنْ يَتَعَدَّى هذه الِفَتْرةَ، وكُلُّ إنسانٍ مُؤتَمَنٌ على حَرِيمِه، وَمَا أَكْثَرَ التَّفرِيطَ في هذا الأمرِ في هذه الأيَّامِ؛ ثالثًا، إنَّ الضَّرَرَ لا يُزالُ بمِثْلِه أو شيءٍ أَكْبَرَ مِنْهُ، فمَثَلًا لو قالوا له {اُقْتُلْ فُلَانًا وإلَّا سَلَبْنا مالَكَ} فلا يَجوزُ له أنْ يَقْتُلَه، بَلْ لو قالوا له {اُقْتُلْ فُلَانًا وإلَّا قَتَلْناكَ} وفُلَانٌ هذا مُسلِمٌ مَعصومٌ، لا يَجوزُ له أنْ يَقْتُلَه لأنَّ النُّفوسَ في الشَّرِيعةِ سَوَاسِيَةٌ، وكذلك لو أُكْرِهَ جُنْدِيٌّ مُسلِمٌ بالقَتْلِ على أنْ يَدُلَّ الْعَدُوَّ على ثُغْرَةٍ يَنفُذون منها إلى البَلَدِ المُسلِمِ، لِكَيْ يَحتَلُّوه ويُوقِعوا القَتَلَ والتَّشرِيدَ في أَهْلِه، ما جازَ له أنْ يَدُلَّهم ولو قَتَلُوه... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجد-: ثم إنَّ كثيرًا مِنَ الناسِ يقولون لك {نحن مُكْرَهون (أو أُكْرِهْنا)}، فما هو الإكراهُ الذي يُبَاحُ به الأمْرُ المُحَرَّمُ؟، هل هو ضَرْبُ سَوْطٍ أو سَوْطَين (مَثَلًا) لِأنْ يَنْتَهِكَ حُرْمةَ اللهِ بالزِّنَى (على سَبِيلِ المِثالِ)؟؛ قالَ الفُقَهاءُ {الضَّربُ الذي يُعتَبَرُ إكراهًا هو ما كانَ فيه خَشْيَةُ تَلَفِ النَّفْسِ أو أَحَدِ الأعضاءِ، أو أَلَمٌ شَدِيدٌ لا يُطِيقُ تَحَمُّلَه} [قالَ اِبنُ الجوزي في (زاد المسير): قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى {فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ [أَيْ قِصَّةِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ] دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْخَوْفَ عَلَى الْمَالِ وَالْوَلَدِ لَا يُبِيحُ التَّقِيَّةَ فِي إِظْهَارِ الْكُفْرِ، كَمَا يُبِيحُ فِي الْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ، وَيَبِينُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الْهِجْرَةَ، وَلَمْ يَعْذُرْهُمْ فِي التَّخَلُّفِ لِأجْلِ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ}. انتهى]، بَلْ إنَّهم ذَكَروا شُروطًا للإكراهِ، كأنْ يكونَ المُكْرِهُ مُتَمَكِّنًا مِنَ التَّنفِيذِ [وإلَّا كان تَهدِيدُه هَذَيَانًا وضَرْبًا مِنَ اللَّغْوِ الذي لا يُلتَفَتُ إليه]، وأنْ يكونَ المُكْرَهُ عالِمًا [أَيْ مُتَيَقِّنًا] أو غالِبًا على ظَنِّه أنَّ المُكْرِهَ سيُنَفِّذُ وَعِيدَه [لأنَّ الأحكامَ الشَّرعِيَّةَ تُنَاطُ باليَقِينِ والظُّنُونِ الغالِبةِ، لا بالأوهامِ والظُّنُونِ المَرجوحةِ والاحتِمالاتِ البَعِيدةِ]، وأنْ يكونَ المُكْرَهُ عاجِزًا عن دَفْعِ الإكراهِ عن نَفْسِه (إمَّا بالمُقاوَمةِ أو الفِرَارِ)، وأنْ يكونَ الإكراهُ بشيءٍ فيه هَلَاكٌ للمُكْرَهِ أو ضَرَرٌ عَظِيمٌ (كالقَتْلِ أو إتْلَافِ عُضْوٍ مِنَ الأعضاءِ أو التَّعذِيبِ الْمُبَرِّحِ أو السَّجْنِ الطَّوِيلِ الذي لا يَخرُجُ منه)، وأنْ يكونَ الإكراهُ فَوْرِيًّا (كأنْ يُهَدِّدَه بالقَتلِ فَورًا إذا لم يُنَفِّذْ) أمَّا إذا قالَ له {إذا لم تَفعَلْ كذا ضَرَبْتُكَ غَدًا (أو بَعْدَ غَدٍ)} فلا يُعتَبَرُ إكراهًا صَحِيحًا [قالَ ابنُ حجر في (فتح الباري): فَلَوْ قَالَ (إِنْ لَمْ تَفْعَلْ كَذَا ضَرَبْتُكَ غَدًا) لَا يُعَدُّ مُكْرَهًا، وَيُسْتَثْنَى مَا إِذَا ذَكَرَ زَمَنًا قَرِيبًا جِدًّا أَوْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ. انتهى]؛ فتأمَّلِ الشُّروطَ التي وضَعَها الفُقَهاءُ لهذا، لِتَعْلَمَ أيَّها المُسلِمُ أنَّ المسألةَ ليستْ أُلْعُوبةً، وأنَّ القَضِيَّةَ ليستْ سَهْلةً، ثم قارِنْ بين هذا وبين ما يَقُومُ به كثيرٌ مِن مُفْتِي السُّوءِ بإفتاءِ الناسِ ببَعضِ الأمُورِ بِحُجَّةِ الضَّرُورةِ، في غيرِ مَحَلِّها [قالَ الشيخُ أبو محمد المقدسي في (مِلَّة إبراهيمَ): كَثِيرٌ مِن دُعاةِ زَمانِنا، يُدَنْدِنون على أحادِيثِ الرُّخَصِ والإكراهِ والضَّروراتِ طَوَالَ حَيَاتِهم، وكُلُّ أَيَّامِهم في غَيرِ مَقامِها [أَيْ غَيرِ مَوضِعِ التَّرَخُّصِ والإكراهِ والضَّرورةِ]، وَيَلِجُون بِحُجَّتِها في كُلِّ باطِلٍ، ويُكَثِّرون سَوادَ حُكوماتِ الكُفرِ والإشراكِ، دُونَما إكراهٍ أَوِ اِضْطِرارٍ حَقِيقَين، فَمَتَى يُظهِرون الدِّينَ؟!. انتهى]... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجد-: لماذا يَتَساهَلُ بعضُهم في إفتاءِ الناسِ في أُمُورٍ بِحُجَّةِ الضَّرُورةِ، وليس فيها ضَرُورةٌ؟؛ (أ)عَدَمُ خَوفِهم مِنَ اللهِ؛ (ب)وعَدَمُ تَمَكُّنِهم مِنَ العِلمِ؛ (ت)وسَيطَرةُ رُوحِ التَّيسِيرِ -في غيرِ مَحَلِّه- على نُفُوسِهم [قالَ الشيخُ يوسفُ بنُ أحمد القاسم (عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء) في مقالةٍ له بعنوان (موقف العامة من خلاف المفتِين) في هذا الرابط على موقع الشيخ سليمان الماجد (عضو مجلس الشورى السعودي): في زَمَانِنا كَثُرَ المُفْتُون الذِين يَجْرُون وَراءَ رُخَصِ الفُقَهاءِ بحُجَّةِ المَصلَحةِ أو التَّيسِيرِ على الناسِ!. انتهى باختصار]، والتَّيسِيرُ أمْرٌ مُعتَبَرٌ في الشَّرِيعةِ، وهو مِمَّا تَقومُ عليه الشَّرِيعةُ، لكنَّ التَّيسِيرَ إذا تَعارَضَ مع أَحَدِ مَقاصِدِ الشَّرِيعةِ فلا يُعتَبَرُ تَيْسِيرًا شَرعِيًّا، قالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ، قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ، قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا، فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ، وَسَاءَتْ مَصِيرًا}، فلماذا لم يُعتَبَروا مُكْرَهِين؟، لأنَّهم كانوا يستطيعون الهِجرةَ مِن بِلَادِ الكُفرِ، أقاموا تحتَ رَايَةِ الكُفرِ يُفتَنُون في دِينِهم، ويَتَنازَلون عن أُمُورِ الدِّينِ، وقالوا {مُسْتَضْعَفِينَ}، لماذا لم تُهاجِروا؟!، وكذلك لو قالَ إنسانٌ {إنَّ مِنَ التَّيسِيرِ ألَّا نَخرُجَ إلى الجِهادِ في وَقْتِ الْحَرِّ}، فاسمَعْ ماذا يقولُ اللهُ {وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ، قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا}؛ (ث)ومِنَ الأُمُورِ التي تَجعَلُ بعضَ المُفتِين بالباطلِ يُفْتون الناسَ بالضَّرورةِ الحِرْصُ على مُوافَقةِ رَغْبةِ المُستَفْتِي، لإغراءاتِه أو ضُغُوطِه على المُفْتِي، مِن جِهَةٍ تَرغَبُ (مَثَلًا) استِصدارَ فَتْوَى تُوافِقُ مُيولَها وأَهْواءَها، فالمُفْتِي إذا لم يَكُنْ عنده خَوفٌ مِنَ اللهِ أَفْتَى بما يُوافِقُ رَغْبةَ القَومِ مُستَنِدًا إلى رَفْعِ الحَرَجِ، أو التَّيسِيرِ على الأُمَّةِ، أو أنَّ الضَّرورةَ تُبِيحُ المحظوراتِ، أو أنَّ اختِلَافَ الأُمَّةِ رَحمةٌ، أو أنَّ هذا الزَّمَانَ والعَصْرَ يَختَلِفُ وأنَّ له حُكْمًا خاصًّا، وأنَّ الأحْوالَ قد تَغَيَّرَتْ، ونحوِ ذلك مِن أبْوابِ الكَلَامِ الخَطِيرِ الذي يَقولُ به بعضُهم، كَلَامٌ يَحسَبونه هَيِّنًا وهو عند اللهِ عَظِيمٌ؛ (ج)وقد يكونُ الشَّخصُ الذي يَقولُ للناسِ {اِفْعَلوا ولا حَرَجَ، هذه ضَرورةٌ}، قد يكونُ مُتَوَرِّطًا في أمْرٍ مُحَرَّمٍ في حَيَاتِه الشَّخصِيَّةِ، فَلِكَيْ لَا يَلُومَه الناسُ يُفْتِيهم بالجَوَازِ [أَيْ جَوَازِ الأمْرِ المُحَرَّمِ المُتَوَرِّطِ فيه]؛ (ح)وكذلك عَدَمُ العِلمِ الدَّقِيقِ والقُدرةِ على تَصَوُّرِ الواقِعِ؛ (خ)وهناك أُنَاسٌ عندهم حُسْنُ نِيَّةٍ، يقولون للناسِ {اِفْعَلوا، ضَرورةٌ}، ما هو السَّبَبُ؟، قالوا {نحن نُرِيدُ أنْ نُحَبِّبَ الناسَ في الدِّينِ، ولذلك نحن نُيَسِّرُ عليهم، ونَفْتَحُ المَجَالَاتِ لهم، ونَقولُ (اِعمَلوا ولا حَرَجَ، وهذه ضَرورةٌ)}، لماذا؟، [قالوا] {لِتَحبِيبِ الناسِ في الدِّينِ}!، هؤلاء -يا أيُّها الإخوةُ- يُدخِلون الناسَ إلى الدِّينِ مِن بابٍ ثم يُخرِجونهم مِنَ الدِّينِ مِن بابٍ آخَرَ، مُسِيئُون وليسوا بمُحسِنِين، وأَضْرِبُ لكم مَثَلًا، شَيْخٌ في حَلَقةٍ جاءَه شَخْصٌ -ومع الأسَفِ، أيُّها الإخوةُ، أهلُ العِلمِ المُتَمَكِّنون مِنَ العِلمِ قِلَّةٌ جِدًّا، ولذلك الناسُ لا بُدَّ لهم أنْ يَذَهَبوا إلى المَأْمُونِ، وليس لهم أنْ يَسألوا أَيَّ شَخْصٍ، كَلَّا- أَحَدُهم في مَجْلِسٍ مِنَ الناسِ، جاءَه شَخْصٌ فقالَ {يا شَيْخُ، أُرِيدُ أنْ أَنْقُلَ عَفْشَ بَيْتِي في نَهارِ رَمَضانَ، وهذا أمْرٌ مُتْعِبٌ في رَمَضانَ، هَلْ يَجوزُ أنْ أُفْطِرَ؟}، قال {لا بأسَ، للضَّرورةِ أَفْطِرْ}، حتى قالَ أَحَدُ الحاضرِين مِنَ النُّبَهاءِ مِن عامَّةِ الناسِ، قالَ {يا شَيْخُ، لماذا لا تقولُ له أنْ يَنْقُلَ في اللَّيلِ؟}!... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجد-: لا بُدَّ للشيخِ والمُفْتِي أنْ يُبَيِّنَ للناسِ إذا وَقَعوا في ضرورةٍ حَقِيقَةً أُمُورًا؛ ومِن هذه الأمُورِ أنْ يَقولَ {إنَّ الضَّرورةَ حالةٌ استِثنائِيَّةٌ وليستْ هي الأصْلُ -لِكَيْ يَشْعُرَ المُستَفتِي أنَّه يَعِيشُ في دائرةٍ ضَيِّقةٍ وهو يَفعَلُ هذا الأمْرَ المُحَرَّمَ- وأنَّ عليه أنْ يَخرُجَ منها بأَيِّ وَسِيلةٍ}؛ ثانيًا، أنَّ المباحَ للضَّرورةِ ليس مِنَ الطَّيِّباتِ، المَيْتةُ إذا أُبِيحتْ للضَّرورةِ لا تُصبِحُ طَيِّبةً، لا زالَتْ خَبِيثةً نَتِنَةً، لكنَّ الفَرْقَ أنَّ الذي يَتَناوَلُها للضَّرورةِ يَسقُطُ عنه الإثمُ، فلا بُدَّ أنْ يَشعُرَ الذي يَأْكُلُ المَيْتةَ للضَّرورةِ أنَّه يَأْكُلُ شَيْئًا مُنْتِنًا حَرَامًا في الأصْلِ، لا يَجوزُ في الأصْلِ، لا بُدَّ أنْ يَستَشعِرَ هذا؛ ثالثًا، أنْ يُحَمِّلَ المُفْتِي المُستَفْتِي المَسئُولِيَّةَ عن كامِلِ التَّفاصِيلِ التي يُقَدِّمها له، وأنَّ فَتْوَاه له بالضَّرورةِ مَبْنِيَّةٌ على صِحَّةِ المعلوماتِ، فإذا كانَ المُستَفْتِي مُزَوِّرًا ويُقَدِّمُ معلوماتٍ خاطِئةً ويقولُ {ما دَامَ الشيخُ سَيُفْتِي فَأَنَا أَخْرَجتُ نَفْسِي مِنَ الْعُهْدَةِ ما دَامَ أَخَذْتُها مِن فَمِه}، وهو يُقَدِّمُ معلوماتٍ خاطِئةً، يُقَدِّمُ معلوماتٍ لِيُشعِرَ الشيخَ أنَّه [أَيِ المُستَفْتِي] في حَرَجٍ، وأنَّ المسألةَ لا مَخرَجَ مِنْها، حتى يَقولَ له الشيخُ {اِفْعَلْ للضَّرورةِ}؛ رابعًا: لا يَجوزُ الإفتاءُ بالضَّرورةِ إلَّا بعدَ اِنسِدادِ جَمِيعِ الأبوابِ، واستِنفاذِ جَمِيعِ الحُلولِ والبَدائلِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجد-: إنَّ مِنَ القَواعِدِ المُهِمَّةِ أنَّه لا بُدَّ مِنَ السَّعْيِ لإزالةِ الضَّرورةِ (على المُضْطَرِّ أنْ يَسعَى بكُلِّ قُوَّتِه أنْ يَتَخَلَّصَ مِنَ الضَّرورةِ، لا أَنْ يَستَسلِمَ لها، لا بُدَّ أنْ يَتَخَلَّصَ، كَمْ مِنَ الناسِ اليومَ إذا وَقَعوا في ضَرورةٍ يُحاوِلون التَّخَلُّصَ فِعْلًا مِن هذا المَجَالِ الضَّيِّقِ، مِن هذا المَكانِ الحَرِجِ الذي وَقَعوا فيه؟)، وأنَّ المُضْطَرَّ إذا لم يَسْعَ للخُروجِ مِنَ الضَّرورةِ فإنَّه يَأْثَمُ؛ فإذا قُدِّرَ مَثَلًا، كما ضَرَبَ العُلَماءُ مَثَلًا حَيًّا في كُتُبِهم، قالوا في كُتُبِهم {إذا جازَ للمسلمِين في عَصرٍ مِنَ العُصورِ مُصالَحةُ العَدُوِّ لِضَرورةٍ -مع تَوَفُّرِ الشُّروطِ الشَّرعِيَّةِ- فلا بُدَّ أنْ يَسعَى المُسلِمون للخُروجِ مِن هذه الضَّرورةِ التي أَلْجَأَتْهم إلى مُصالَحةِ العَدُوِّ}، ومَعْنَى الشُّروطِ الشَّرعِيَّةِ أنْ يَتَوَلَّى عَقْدَ الصُّلْحِ مَثَلًا خَلِيفةُ المُسلِمِين الذي وَكَّلَه المُسلِمون عليهم، أو نائبُه الذي وَكَّلَه الخَلِيفةُ (أَمَّا أنْ يَتَوَلَّى عَقْدَ الصُّلْحِ مع العَدُوِّ رَجُلٌ ظالِمٌ تَسَلَّطَ على المُسلِمِين، أو كافِرٌ أو قَومِيٌّ عَلْمانِيٌّ أو نَصْرانِيٌّ أو مُلْحِدٌ أو لادِينِيٌّ، يَتَكَلَّمُ باسمُ المُسلِمِين ويُفاوِضُ عنهم، مَنِ الذي وَكَّلَه؟!، ومَن هي الأُمَّةُ الإسلامِيَّةُ التي وَكَّلَتْه في شُؤُونِها؟!)، وأنْ يكونَ هذا الصُّلْحُ هو أفْضَلَ حَلٍّ للمسلمِين فِعْلًا، وألَّا يُؤَدِّي إلى مَفاسِدَ أَكْثَرَ مِنْ تَرْكِ الصُّلْحِ، وأنْ يكونَ مُوَقَّتًا بوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وأكثرُ مُدَّةٍ اِشْتَرَطَها الفُقَهاءُ للصُّلْحِ عَشْرُ سِنِينَ [قالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي في (النصائح المنجية): وقَدَّرَها أَكثَرُ الفُقَهاءِ على عَشْرِ سِنِينَ، فَإنْ تَجاوَزَتِ المُدَّةُ العَشْرَ بَطَلَتْ فِيما زادَ عليها... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الصومالي-: وحُجَّةُ الجَمهورِ في ذلك أنَّ مُدَّةَ عَقْدِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ هو أبعَدُ أَجَلٍ عَقَدَه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَخَصَّصَتِ السُّنَّةُ عُمومَ آياتِ السَّيفِ والقِتالِ، فَما زادَ عنِ العَشْرِ يَبقَى على عُمومِه. انتهى باختصار]، إذا تَوَفَّرَتِ الشُّروطُ في الصُّلْحِ فِعْلًا فإنَّه يَجِبُ على المسلمِين أنْ يَسْعَوْا لإزالةِ الضَعْفِ والشُّعورِ بأنَّهم في ذُلٍّ، وأنْ يُعِدُّوا العُدَّةَ للجِهادِ حتى يُنْهُوا هذا الضَّيْمَ والهَوَانَ المَفرُوضَ عليهم، وبذلك تَعْلَمُ أنَّ كَثِيرًا مِمَّا يَحدُثُ في هذه الأيَّامِ لا عَلَاقةَ له بِالإسلامِ أَصْلًا... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجد-: ومِن قَواعِدِ الشَّرِيعةِ أنَّ الضَّرورةَ لا بُدَّ أنْ تَكونَ ضَرورةً فِعْلًا، فيها حَرَجٌ عَظِيمٌ على الشَّخصِ لا يُطِيقُ تَحَمُّلَه فِعْلًا، وليستْ مَسأَلةَ تَوَسُّعٍ في مَكاسِبَ وزِيَادةِ أَرْباحٍ مَثَلًا، أو مَشَقَّةٍ بَسِيطةٍ يُمْكِنُ تَحَمُّلُها، فهذه ليستْ ضَرورةً، وَلَا دَاعِيَ لِأنْ نُخادِعَ أَنْفُسَنا، ونَكْذِبَ على اللهِ سُبحانَهُ وتَعالَى، وهو {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}، فَهَلْ عَرَفْنا الآنَ سَبِيلَ المُتَلَاعِبِين، وأنَّه يَجِبُ أنْ نَصْدُقَ مع اللهِ سُبحانَهُ وتَعالَى؟... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجد-: أيُّها المسلمون، لا بَأْسَ أنْ نَذْكُرَ الآنَ بعضَ الحالاتِ التي فيها ضَرورةٌ صَحِيحةٌ، وبعضَ الحالاتِ التي ليس فيها ضَرورةٌ وإنَّما يَستَخدِمُ [فيها] الناسُ كَلِمةَ (الضَّرورةِ) زُورًا وبُهْتانًا على الشَّرِيعةِ؛ فمَثَلًا، الكَذِبُ في الحَرْبِ ضرورةٌ مع الكُفارِ، كما قالَ صَلَى اللهُ عليه وسَلَّمَ {الْحَرْبُ خُدْعَةٌ}؛ والكَذِبُ لأجْلِ الإصلاحِ بين المُتَخاصِمَين ضَرورةٌ مِن أجْلِ التَّوفِيقِ بين المُتَخاصِمِين مِنَ المُسلِمِين، إذا لم يَجِدْ حَلًّا إلَّا ذلك؛ وكذلك غِيبةُ رَجُلٍ لا يَصْلُحُ في الزَّواجِ تَقَدَّمَ إلى أُناسٍ وأنتَ تَعْلَمُ حالَه، يَجُوزُ أنْ تَغتابَه للضَّرورةِ، لا حَرَجَ في ذلك؛ وسَفْرُ المرأةِ بغَيرِ مَحْرَمٍ يكون ضرورةً في حالاتٍ، كَمَن ماتَ مَحْرَمُها في الطَّرِيقِ، أو أُجْبِرَتْ -بالقُوَّةِ- على الخُروجِ مِن بَلَدٍ وليس عندها مَحْرَمٌ، أو مُضْطَرَّةٍ للهِجرةِ مِن بِلَادِ الكُفرِ إلى بِلَادِ الإسلامِ وليس عندها مَحْرَمٌ، لو شاهَدْتَ حادِثَ سَيَّارةٍ في الطَّرِيقِ -طَرِيقِ سَفَرٍ- وامْرَأَةً تَحتاجُ إلى إِسْعافٍ، تَأْخُذُها للضَّرورةِ، لا حَرَجَ في ذلك؛ تَرْكُ [صَلَاةِ] الجَماعةِ في المَسجِدِ لِوُجودِ مَجْنونٍ أو مَرِيضٍ في البَيْتِ يُخْشَى عليه، يَحْتاجُ إلى مَن يَقِفُ بِجَانِبِه ويَرْعاه لأنَّ حالتَه خَطِرةٌ، هذه ضرورةٌ تُتْرَكُ لأجْلِها صلاةُ الجماعة؛ وَضْعُ النُّقودِ في البُنُوكِ الرِّبَوِيَّةِ لحِفْظِها إذا لم يُوجَدْ إلَّا هي ضرورةٌ، لأنَّ المالَ بالتَّجْرِبةِ يَضِيعُ أو يُسرَقُ، وهناك مُؤَسَّساتٌ عندها أَمْوالٌ كثيرةٌ، وأُنَاسٌ أَغْنِياءُ مِنَ المسلمِين، أَيْنَ يَضَعون نُقُودَهم؟، فيَضَعُونها إذنْ في البُنُوكِ الرِّبَوِيَّةِ إذا لم يُوجَدْ إلَّا هي، مع وُجوبِ السَّعْيِ لإقامةِ البُنوكِ الإسلامِيَّةِ مِنَ القادِرِين على السَّعْيِ؛ السَّفَرُ إلى بِلَادِ الكُفَّارِ لِعِلَاجٍ لا يُوجَدُ إلَّا في بِلَادِ الكُفَّارِ جائزٌ للضَّرورةِ؛ وذَكَرَ بعضُ أَهْلِ العِلمِ حالةً عَصرِيَّةً (الاِضْطِرارُ إلى عَقْدِ التَّأْمِينِ -المُحَرَّمِ- على السَّيَّاراتِ، في بَلَدٍ لا تستطيعُ قِيَادةَ سَيَّارَتِكَ فيه إلَّا بعَقْدِ التَّأْمِينِ [الإجْبارِيِّ])، لا تستطيعُ، يَسحَبُون رُخْصَتَكَ ويَمْنَعونكَ مِن قِيَادةِ السَّيَّارةِ، أنتَ مُكْرَهٌ في هذه الحالةِ، لأنَّكَ لا بُدَّ أنْ تستعملَ سَيَّارَتَكَ، لا تستطيعُ أنْ تَمْشِي المَسافاتِ الطَّوِيلةَ، ولكنْ ما رَأْيُكم بمَن يُؤَمِّنون على سَيَّارَتِهم لغيرِ ضرورةٍ [يَعْنِي التَّأْمِيناتِ الغيرَ إجْبَارِيَّةٍ]؟، ما أَحَدٌ دَفَعَه إليها، ولا ضَرَبَ يَدَه عليها، ومع ذلك يَقومُ بعَقْدِ التَّأْمِينِ المُحَرَّمِ، يقولُ {أَخْشَى أنْ يَحدُثَ حادِثٌ، ولا أستطيعُ كذا، أَتَوَقَّعُ...، يُمْكِنُ...}، وبِنَاءً على هذه المُمْكِناتِ يَرتَكِبون عَقْدَ التَّأْمِينِ (المُحَرَّمَ قطعًا، وهو نَوعٌ مِن أنواعِ المَيْسِرِ والقِمَارِ لا يَجوزُ فِعْلُه)؛ العَمَلُ في البُنوكِ الرِّبَوِيَّةِ حَرامٌ، ليس بضَرورةٍ أَبَدًا، ولا يَجوزُ، الأعمالُ الأُخْرَى مَوجُودةٌ، وأَرْضُ اللهِ واسِعةٌ، إذا لم تَجِدْ في البَلَدِ فَأَرْضُ اللهِ واسِعةٌ، وإذا لم تَجِدْ يَجوزُ لك أنْ تَمُدَّ يَدَكَ إلى الناسِ، لو قالَ شَخصٌ {ما وَجَدْتُ}، نقولُ {الشِّحاذَةُ جائزةٌ للضَّرورةِ}، فالعلماءُ أباحُوا التَّسَوُّلَ للضَّرورةِ، فيَجوزُ، لكنَّ العَمَلَ في البُنوكِ لا يَجوزُ؛ الاِسْتِلافُ مِنَ البُنوكِ الرِّبَوِيَّةِ، للمَشارِيعِ التِّجارِيَّةِ أو الزَّواجِ ونحوِه، حَرامٌ لا يَجوزُ، وكَذَّابٌ الذي يَدَّعِي أنَّها ضَرورةٌ، لا يَجوزُ؛ السَّمَاحُ ببَيعِ الخُمورِ في بِلَادِ المُسلمِين، وفَتْحِ المَلَاهِي، ودُخولِ الكُفَّارِ إلى المَساجِدِ للفُرْجَةِ، بِحُجَّةِ أنَّ البَلَدَ مُضْطَرٌّ إلى العُمْلةِ الصَّعْبةِ التي يَأْتِي بها هؤلاء السُّيَّاحُ، سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ؛ العِلَاجُ بالمُحَرَّماتِ، اللَّهُ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّةِ محمد صَلَى اللهُ عليه وسَلَّمَ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا؛ حَلْقُ اللِّحيَةِ لِمُجَرَّدِ الخَوفِ مِن تَوقِيفٍ بَسِيطٍ أو مُساءَلةٍ، لا يَجوزُ، وليس بضَرورةٍ، لكنْ لو خافَ أنَّه يُسجَنُ سَجْنًا مُؤَبَّدًا أو يُقْتَلُ [أو] يَلْحَقُ به ضَرَرُ عَظِيمٌ، يَجوزُ له حَلْقُها للضَّرورةِ، أَمَّا لِمُجَرَّدِ كَلِمةٍ أو كَلِمَتَين يَسمَعُها مِنَ الأذَى يَجِبُ عليه أنْ يَتَحَمَّلَ ذلك في سَبِيلِ اللهِ؛ وزَعَموا أنَّ الرِّبا ضَرورةٌ عَصرِيَّةٌ، {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، أَنَّى يُؤْفَكُونَ}؛ وجَلْبُ عُمَّالِ الكُفَّارِ إلى جزيرةِ العَرَبِ لِفَتحِ أَعْمالٍ تِجارِيَّةٍ لا يَجوزُ، لا يَجوزُ جَلْبُ الكُفَّارِ للتَّوَسُّعِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ المنجد-: أَيُّها الإخوةُ، إنَّ هذا الموضوعَ مُؤْلِمٌ وخَطِيرٌ، لكنَّني أَرْجُو مِنَ اللهِ سُبْحانَهُ وتَعالَى أنْ يُفَقِّهَنا وإيَّاكم في دِينِه، لأنَّ الفِقْهَ في الدِّينِ أَمْرٌ مُهِمٌ جِدًّا، لكي لا نَقَعَ في هذه المحظوراتِ بحُجَجٍ واهِيَةٍ لا يَقْبَلُها اللهُ، هذا دِينٌ، وهذه أَمَانةٌ، وهناك حِسَابٌ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ عبدُالقادر أحنوت في (مجلة البيان، التي يَرْأَسُ تحريرَها الشيخُ أحمد بن عبدالرحمن الصويان "رئيس رابطة الصحافة الإسلامية العالمية") تحت عنوان (أحكام الإكراه في الفقه الإسلامي): يُعَدُّ الإكراهُ حالةً مِن حالاتِ الاِضْطِرارِ [قالَ الشيخُ طارق عبدالحليم في مقالة له بعنوان (الضرورة والإكراه في الشريعة) على موقعه في هذا الرابط: الفَرْقُ بين الإكراهِ والضَّرورةِ، هو أنَّه في حالةِ الإكراهِ يَدْفَعُ المُكْرَهَ إلى إتْيَانِ الفِعْلِ شَخصٌ آخَرُ ويُجْبِرُه عليه، أَمَّا في حالةِ الضَّرورةِ فإنَّ الشَّخصَ [المُكْرَهَ] يُوجَدُ في ظُرُوفٍ تُحَتِّمُ عليه فِعْلَ المُحَرَّمِ دُونَ تَدَخُّلٍ مِن أَحَدٍ. انتهى باختصار] لأنَّه يَأْسِرَ الإرادةَ مُباشَرةً... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ أحنوت-: يُشْتَرَطُ في الإكْراهِ ليكونَ مُعتَبَرًا ومُؤَثِّرًا فيما يُقْدِمُ عليه المُكَلَّفُ مِن أقوالٍ أو أفعالٍ أو تُرُوكٍ، الشُّروطُ الآتِيَةُ؛ (أ)أنْ يكونَ المُكْرِهُ قادِرًا على إيقاعِ ما هَدَّدَ به، وإلَّا كانَ هَذَيَانًا وضَرْبًا مِنَ اللَّغْوِ الذي لا يُلتَفَتُ إليه؛ (ب)أنْ يَعْلَمَ [أَيْ يَتَيَقَّنَ] الْمُسْتَكْرَهُ أو يَغْلِبَ على ظَنِّه، أنَّ المُكْرِهَ سيُنَفِّذُ تَهْدِيدَه إنْ لم يَفعَلْ ما أُكْرِهَ عليه، ويَكُونُ [أَيِ الْمُسْتَكْرَهُ] عاجِزًا عنِ الدَّفْعِ أو التَّخَلُصِ مِمَّا هُدِّدَ به "إِمَّا بهُروبٍ أو مُقاوَمةٍ أو استغاثةٍ"؛ (ت)أنْ يَقَعَ الإكراهُ بما يُسَبِّبُ الهَلَاكَ، أو يُحْدِثُ ضَرَرًا كبيرًا يَشُقُّ على المُستَكْرَهِ تَحَمُّلُه، كأنْ يُهَدَّدَ بقَتْلٍ، أو قَطْعِ عُضْوٍ، أو ضَرْبٍ شَدِيدٍ، أو حَبْسٍ وقَيْدٍ مَدِيدَين، وهو الإكراهُ المُلْجِئُ [قالَ الشيخُ أحنوت في مَوضِعٍ آخَرَ مِن مَقَالَتِه: الإكراهُ له حالتَان؛ أَمَّا الحالةُ الأُولَى فتُسَمَّى (الإكْراهَ المُلْجِئَ "أو الكامِلَ")، كأنْ يُهَدَّدَ [أَيِ الْمُسْتَكْرَهُ] بالقتلِ، أو بقَطْعِ عُضْوٍ أو بضَرْبٍ شَدِيدٍ مُتَوالٍ يَخَافُ منه أنْ يُؤَدِّي إلى ذلك؛ وأَمَّا الحالةُ الثانِيَةُ، فالإكْراهُ [فيها] غيرُ مُلْجِئٍ، ويُسَمَّى (الإكْراهَ الناقِصَ)، وهو ما لا يكونُ التَّهْدِيدُ فيه مُؤَدِّيًا إلى إتلافِ النَّفْسِ أو العُضْوِ، كالتَّهدِيدِ بالضَّرْبِ اليَسِيرِ الذي لا يَخافُ منه التَّلَفُ، أو [كالتَّهدِيدِ] بإتلافِ بعضِ المالِ، وهذا النَّوعُ مِنَ الإكْراهِ غيرُ مُفسِدٍ للاختيارِ، لأن الْمُسْتَكْرَهَ ليس مُضْطَرًا إلى مُباشَرةِ ما أُكْرِهَ عليه، لِتَمَكُّنِه مِنَ الصَّبرِ على ما هُدِّدَ به. انتهى باختصار]؛ (ث)أنْ يكونَ الإكْراهُ عاجِلًا غيرَ آجِلٍ، بأنْ يُهَدَّدَ بتَنفِيذِه في الحالِ، فإنْ كان بشيءٍ غيرِ فَورِيٍّ ولا حالٍّ فلا يُعتَبَرُ إكْراهًا، لأنَّ التأجِيلَ مَظَنَّةُ التَّخَلُّصِ مِمَّا هُدِّدَ به، فإنْ كان الزمَنُ قصيرًا لا يُتَمَكَّنُ فيه مِن إيجادِ مَخْرَجٍ يكونُ حِينَئِذٍ إكْراهًا؛ (ج)أَلَّا يُخالِفَ المُستَكْرَهُ المُكْرِهَ، بِفِعْلِ غَيْرِ ما أُكْرِهَ عليه، أو بزِيَادةٍ على ما أُكْرِهَ عليه، فمَنْ أُكْرِهَ على طَلَاقِ اِمْرَأَتِه طَلْقَةً وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً فَطَلَّقَها ثَلَاثًا، أو أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَى فَأَوْلَجَ، وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَنْزِعَ فَيَتَمَادَى حَتَّى يُنْزِلَ، فلَا يكونُ إكْراهُه مُعتَبَرًا، لأنَّ المُخالَفةَ بالزِّيَادةِ أو بِفِعْلِ غيرِ ما أُكْرِهَ عليه تَدُلُّ على اِختِيارِه، وهي [أَيِ المُخالَفةُ المذكورةُ للمُكْرِهِ] إنَّما تَنُمُّ عن تَهاوُنٍ وعَدَمِ اِكْتِراثٍ بالمحظوراتِ، فيُسألُ عنها الفاعِلُ لأنَّها تَجاوَزَتْ حُدودَ ما أُكْرِهَ عليه، أمَّا المُخالَفةُ بالنُّقْصانِ فيكونُ معها مُكْرَهًا، لأنَّه يُحتَمَلُ أنْ يَقْصِدَ التَّضْيِيقَ في فِعْلِ المُحَرَّمِ ما أَمْكَنَ؛ (ح)أنْ يَتَرَتَّبَ على فِعْلِ المُكْرَهِ عليه الخَلَاصُ مِنَ المُهَدَّدِ به، فلو قالَ إنسانٌ لآخَرَ {اُقْتُلْ نَفسَكَ وإلَّا قَتَلْتُكَ} لا يُعَدُّ إكْراهًا، لأنَّه لا يَتَرَتَّبُ على قَتْلِ النَّفْسِ الخَلَاصُ مِمَّا هُدِّدَ به، فلا يَصِحُ له حِينَئِذٍ أنْ يُقْدِمَ على ما أُكْرِهَ عليه؛ (خ)ألَّا يكونَ الإكْراهُ بحَقٍّ، فإنْ كان بحَقٍّ فليس بإكْراهٍ مُعتَبَرٍ، لأنَّ التَّبَعِيَّةَ والمَسؤُولِيَّةَ حِينَئِذٍ تكونُ مُتَوَجِّهةً بكامِلِها إلى المُستَكْرَهِ، وذلك كما لو أَكْرَهَ الدائنُ المَدِينَ على بَيْعِ مالِه لِقَضاءِ الدَّينِ الواجِبِ، أو أَكْرَهَ الحاكِمُ المُمْتَنِعَ مِنَ الزَّكاةِ على الأَدَاءِ، أو إكْراهِ المالِكِ على بَيْعِ أَرْضِه للدَّوْلةِ لِتَوسِيعِ الطَّرِيقِ العَامِّ، ونحوِ ذلك، فكُلُّ ما يَجِبُ على الشَّخصِ في حالِ الطَّوَاعِيَةِ فإنَّه يَصِحُّ مع الإكْراهِ؛ هذا، وإنَّ ثَمَّةَ شُرُوطًا أُخْرَى ذَكَرَها الفُقَهاءُ، وهي تَرْجِعُ في حَقِيقَتِها إلى جُمْلةِ ما ذَكَرْتُ [قلتُ: مِنَ الشُّروطِ التي ذَكَرَها العلماءُ: (أ)أنْ يكونَ المُستَكرَهُ مُمْتَنِعًا عنِ الفِعْلِ الذي أُكْرِهَ عليه قَبْلَ الإكْراهِ، فمَن أُكْرِهَ على شُرْبِ الخَمْرِ ومِن عادَتِه شُرْبُه لا يكونُ مُكْرَها؛ (ب)أنْ يكونَ المُهَدَّدُ به أَشَدَّ خَطَرًا على المُستَكرَهِ مِمَّا أُكْرِهَ عليه، فلو هُدِّدَ إنسانٌ بصَفْعِ وَجْهِه إنْ لم يُتْلِفْ مالَه أو مالَ الغَيْرِ، وكانَ صَفْعُ الوَجْهِ بالنِّسبةِ إليه أقَلَّ خَطَرًا مِن إتلافِ المالِ، فلا يُعَدُّ هذا إكْراهًا؛ (ت)ألَّا يكونَ المُهَدَّدُ به حَقًّا للمُكْرِهِ يَتَوَصَّلُ به إلى ما ليس حَقًّا له ولا واجِبًا، فإذا كانَ كذلك -كتَهدِيدِ الزَّوجِ زَوجَتَه بطَلَاقِها إنْ لم تُبْرِئْهُ مِنْ دَينٍ لَهَا عَلَيْهِ- فلا يكونُ إكْراهًا؛ (ث)إذا كانَ الإكْراهُ على أَحَدِ أَمْرَين، تَعيَّنَ اختيارُ أَخَفِّهما وإلَّا ما صَحَّ الإكْراهُ، فمَن أُكْرِهَ على أنْ (يَزْنِيَ، أو يَأْكُلَ لَحْمًا لم يُذَكَّى) فاختارَ الزِّنَى لا يكونُ مُكْرَهًا]. انتهى باختصار. وقالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي (الْمُغْنِي): وَإِنْ تَوَعَّدَ [أَيِ المُكْرِهُ] بِتَعْذِيبِ وَلَدِهِ [أَيْ وَلَدِ المُكْرَهِ]، فَالأَوْلَى أَنْ يَكُونَ إكْرَاهًا. انتهى باختصار. وفي هذا الرابط قالَ مركزُ الفتوى بموقع إسلام ويب التابع لإدارة الدعوة والإرشاد الديني بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر: وَلْيُعْلَمْ أنَّ الإكراهَ المُعتَبَرَ عند جُمْهورِ العلماءِ هو التَّهدِيدُ بإتْلافِ النَّفْسِ أوِ الأعضاءِ، أو ما شابَهَ ذلك مِمَّا يَشُقُّ على النَّفْسِ تَحَمُّلُه، أمَّا مُجَرَّدُ الشَّتْمِ والسَّبِّ والتَّشهِيرِ، فليس ذلك مِن نَوعِ الإكْراهِ المُعتَبَرِ عندهم. انتهى. وقالَ مركزُ الفتوى أيضا في هذا الرابط: إذا كانَ إعفاءُ اللِّحيَةِ يُسبِّبُ للمَرْءِ ضَرَرًا مُجْحِفًا مُحَقَّقًا، كالقَتْلِ أو التَّشرِيدِ أو الحَبْسِ أو التَّعذِيبِ، ولم يَستَطِعْ دَفْعَ ذلك الضَّرَرَ إلَّا بالتَّخفِيفِ مِن لِحْيَتِه أو حَلْقِها، فإنَّه يَجوزُ له اللُّجوءُ إلى الأخَفِّ، وهو التَّخفِيفُ، ولا يَصِيرُ إلى الحَلْقِ إلَّا إذا ثَبَتَ أنَّ ما دُونَه لا يَدْفَعُ عنه الأذَى، لأنَّه فَعَلَ ذلك ضَرورةً، والضَّرُورَةُ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا... ثم قالَ -أي مركز الفتوى-: قد ثَبَتَ بالتَّتَبُّعِ والسُّؤَالِ وباستِقراءِ أحوالِ أُناسٍ كثيرِين، أنَّ دَعْوَى الإكْراهِ على حَلْقِ اللِّحْيَةِ لا يَكونُ إلَّا في نِطَاقٍ ضَيِّقٍ، وأنَّ أكثرَ الناسِ يَتَخَوَّفون مِن دُونِ سَبَبٍ حَقِيقِيٍّ، ثم يَبْنُون على هذا التَّخَوُّفِ أَحْكامًا ويَدَّعُون ضَروراتٍ، وليس الأمرُ كذلك، وكثيرٌ منهم لا يُرِيدُ أنْ يَلْحَقَه أَيُّ أَذًى أو مُضايَقةٍ بِسَبَبِ تَدَيُّنِه والْتِزامِه بالمَظْهَرِ الإسلامِيِّ والأخْذِ بالسُّنَّةِ، وهذا مُخالِفٌ لِسُّنَّةِ اللهِ في عِبَادِه المُؤمِنِين، قالَ تَعالَى {الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}، فالأذَى والمُضايَقةُ بِسَبَبِ التَّدَيُّنِ الصَحِيحِ مِنَ الأمُورِ المُتَوَقَّعةِ، والسلامةُ منها على خِلَافِ الأصْلِ، والمقصودُ أنَّ ما يَقَعُ مِنَ الأذَى هو أمْرٌ عادِيٌّ يَجِبُ أنْ نَتَقَبَّلَه ونَحتَسِبَ عند اللهِ ما نَلْقَى، فهذه ضَرِيبةُ الإيمانِ وثَمَنُ الجَنَّةِ، ولو أَنَّا كُلَّما أَحْسَسنا بالأذَى تَراجَعْنا في الْتِزامِنا لم نَلْبَثْ أنْ نَنْسَلِخَ مِن شَعائرِ دِينِنا الظاهِرةِ، وهذا بالضَّبْطِ ما يُرِيدُ أعداؤنا أنْ نَصِلَ إليه، لِتَخْفَى مَعالِمُ الحَقِّ على الناسِ وتَنْدَرِسُ رُسُومُه، وهذا مِن أخْطَرِ العَواقِبِ، فَلْيُتَنَبَّهْ لذلك فإنَّه مِن مَزالِقِ الشَّيطانِ. انتهى. وقالَ مركزُ الفتوى أيضًا في هذا الرابط: وَلْيُعْلَمْ أنَّ كثيرًا مِنَ الناسِ قد حَصَلَ منهم التَّساهُلُ، فوَقَعوا في المُحَرَّماتِ بحُجَّةِ أنَّهم مُضْطَرُّون إلى ذلك. انتهى.

 

 

تَمَّ الجُزءُ السابِعُ بِحَمدِ اللَّهِ وَتَوفِيقِهِ

الفَقِيرُ إلى عَفْوِ رَبِّهِ

أَبُو ذَرٍّ التَّوحِيدِي

AbuDharrAlTawhidi@protonmail.comانقر هنا للتواصل عبر البريد الإلكتروني

تابع الشيخ أبا سلمان الصومالي على:
فيسبوك
تويتر
يوتيوب
tgstat