حِوَارٌ حَوْلَ حُكْمِ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدٍ فِيهِ قَبْرٌ

(النُّسخةُ 1.76 - الجُزءُ الثالِثَ عَشَرَ)

 

جَمعُ وتَرتِيبُ

أَبِي ذَرٍّ التَّوحِيدِيِّ

AbuDharrAlTawhidi@protonmail.comانقر هنا للتواصل عبر البريد الإلكتروني

 

حُقوقُ النَّشرِ والبَيعِ مَكفولةٌ لِكُلِّ أحَدٍ

 

اِنتَقِلْ إلى المُقَدِّمةِ أو إلى الجُزءِ:

 

 

المسألة الثلاثون

 

زيد: كَيْفَ صَحَّحَ الشيخُ اِبنُ باز الصَّلاةَ في المَسجِدِ النَّبَوِيِّ، مع كَونِه بِداخِلِه ثَلاثةُ قُبورٍ "قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وقَبْرَي صاحِبَيه أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما"؟.

 

عمرو: صَحَّحَ الشيخُ اِبنُ باز الصَّلاةَ تَأْسِيسًا على أنَّ القبورَ الثلاثة ليست مَوجودةً داخِلَ المسجدِ، فهو يَرَى أنَّ الموجودَ داخِلَ المسجدِ هو حُجْرةُ عائشةَ لا القبورُ الثلاثة، ففي هذا الرابط على مَوقِعِ الشيخِ، قالَ الشيخُ {والرسول محمد صلى الله عليه وسلم وصاحباه رضي الله عنهما لم يُدفَنوا في المسجد، وإنما دُفِنوا في بَيْتِ عائشة، ولكن لَمَّا وُسِّعَ المسجدُ في عهد الوليد بن عبدالملك أَدْخَلَ الحُجْرةَ في المسجد في آخر القرن الأَوَّل؛ ولا يُعتبَرُ عَمَلُه هنا في حُكْمِ الدَّفْن في المسجد، لأن الرسولَ صلى الله عليه وسلم وصاحبيه لم يُنْقَلوا إلى أرضِ المسجد، وإنما أُدْخِلَت الحُجْرةُ التي هُمْ بها في المسجد مِن أَجْلِ التَّوْسِعَة، فلا يكون في ذلك حُجَّةٌ لأحَدٍ على جَوَاز البناءِ على القبور أو اتِّخاذِ المساجد عليها أو الدَّفْنِ فيها لما ذَكَرْتُه آنِفا مِن الأحاديث الصحيحة المانِعة مِن ذلك}. وفي هذا الرابط على موقع الشيخ، قال الشيخُ {فلمَّا وَسَّعَ الوليدُ بن عبدالملك مسجدَ النبي صلى الله عليه وسلم في آخر القرن الأول أَدْخَلَ الحُجْرةَ في المسجد، وقد أساءَ في ذلك، وأنْكَرَ عليه بعضُ أهل العلم}. وفي هذا الرابط على موقع الشيخِ، قالَ الشيخُ {ولكن لمَّا وَسَّعَ الوليدُ بن عبدالملك بن مروان المسجدَ أَدْخَلَ البيتَ في المسجد؛ بسبب التَّوْسِعة، وَغَلَطَ في هذا، وكان الواجِبُ أن لا يُدْخِله في المسجد}. وفي هذا الرابط على موقع الشيخ، سُئِلَ الشيخُ {كُنَّا في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذهبنا للصلاة في المسجد النبوي الشريف، وَمَعَنا أخٌ لنا، عنده نَوْعٌ مِن التشدُّد والحِرْص، فقال (إنه لا تجوز الصلاةُ في مسجد فيه قبر)، فامتنعَ أن يُصَلِّي معنا، فأشكل ذلك علينا، فَنَطْلُب الإيضاحَ؟}؛ فَكانَ مِمَّا أجابَ به الشيخُ: مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ليس فيه قبرٌ، الرسول قُبِر في بيته عليه الصلاة والسلام، ولم يُقبَر في المسجد، وإنما قُبِر في بيته عليه الصلاة والسلام، في بيت عائشة، ولكن لمَّا وُسِّعَ المسجدُ في عهد الوليد بن عبدالملك أمير المؤمنين في ذلك الوقت في آخر المائة الأُولى، أَدْخَلَ الحُجْرَةَ في المسجد مِن أجْلِ التوْسِعة، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم وصاحباه لم يَزالوا في بَيتِ عائشةَ وليسوا بالمسجد، وبينهم وبين المسجدِ الجُدُرُ القائمةُ والشَّبَكُ [المُرادُ بالشَّبَكِ السُّورُ الحَدِيدِيُّ الدائرُ حَوْلَ حائطِ قَايِتْبَايْ، وهذا السُّورُ يُطلَقُ عليه اِسمُ (المَقصورة النَّبَوِيَّة)] القائمُ، فهو في بَيتِه صلى الله عليه وسلم وليس في المسجد، وهذا الذي قال هذا الكلام جاهِلٌ لم يَعْرِف الحقيقةَ ولم يَعْلَم الحقيقةَ، فالواجبُ على المؤمن أن يُفرِّقَ بين ما أباحَ اللهُ، وبين ما حرَّمَ اللهُ، فالمساجد لا يُدفَنُ فيها المَوتى، ولا تُقامُ على المَوتى، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم ليس مِن هذا القبيل، بل هو صلى الله عليه وسلم دُفِنَ في بَيْتِه في بَيْتِ عائشة خارِجَ المسجد، شرقي المسجد، ثم لَمَّا جاءَت التَّوْسِعَةُ أَدْخَلَه الوليدُ في المسجد، أَدْخَلَ الحُجْرةَ، وقد أَخْطَأَ في ذلك، يَعْفُو اللهُ عَنَّا وعنه. انتهى.

 

قُلْتُ: وهنا مُلاحَظاتٌ:

 

(1)اِتَّهَمَ الشيخُ ابنُ باز الأخَ الذي رَأَى أن القبرَ النبوي موجودٌ داخل المسجد بالجهل، مع أن هذا مذهب الشيوخ الألباني ومُقْبِل الوادِعِي وربيع المدخلي وإبراهيم بن سليمان الجبهان، على ما مَرَّ بيانُه؛ فهل يَتَّهِمُ الشيخُ أيضا هؤلاء الشيوخَ بالجهل!!!.

 

(2)قَوْلُ الشيخ عن الوليد بن عبدالملك "وقد أساءَ في ذلك، وأنْكَرَ عليه بعضُ أهل العلم" وقَوْلُه "وَغَلَطَ في هذا، وكان الواجِبُ أن لا يُدْخِله في المسجد" وقَوْلُه "أَدْخَلَ الحُجْرةَ، وقد أَخْطَأَ في ذلك، يَعْفُو اللهُ عَنَّا وعنه"، أقوالُ الشيخ هذه تَدْفَعُ إلى أن يُطْرَحَ سؤالٌ مُهِمٌّ، وهو إذا كان الوليدُ بن عبدالملك لم يُدْخِل القُبورَ الثلاثة داخِلَ المسجد النبوي، فلماذا اتَّهَمَهُ الشيخُ بأنه أساءَ وخالَفَ الواجِبَ وأخطأَ؟ وما هي المخالفة الشرعية التي بسبب وُقُوعِها دَعَا الشيخُ اللهَ أن يَعْفُو عن الوليدِ بن عبدالملك؟!!!.

 

(3)لم يُوضِّح الشيخُ ابن باز حُكمَ الصلاة في المسجد النبوي لمَن يَرَى صِحَّةَ مذهب الشيوخ الألباني ومُقْبِل الوادِعِي وربيع المدخلي وإبراهيم بن سليمان الجبهان مِن أن القبورَ الثلاثة موجودةٌ داخِل المسجد، ولا يَرَى صِحَّة ما يَراه الشيخُ مِن أن القبور الثلاثة ليست في المسجد.

 

(4)الشيخُ ابنُ باز نَفْسُه في بعضِ فَتَاواه أَوْضَحَ أنه لا فَرْقَ بين مسجدٍ بداخِله غُرْفَةٌ فيها قَبْرٌ وبين مسجدٍ فيه قَبْرٌ، وَغَيْرُ الشيخِ ابنِ باز أَوْضَحَ نَفْسَ الشَّيْء أيضًا، وإليك بَيَانُ ذلك:

 

(أ)في (فَتاوَى "نُورٌ على الدَّربِ") على هذا الرابط سُئِلَ الشيخُ اِبْنُ باز: أنا مِن جمهورية مِصْرَ العربية، ويوجد بالبلدة التي أعيشُ فيها مسجدٌ به قَبْرٌ في غُرْفةٍ بِطَرَفِ المسجدِ، يَفْصِلُ بينهما بابٌ، أُصلِّي بهذا المسجد أحيانًا، أنْكَرَ عَلَيَّ بعضُ الأشخاص، وقال "لا تُصَلِّ في هذا المسجد، لأن فيه قبرا"؟. فأجابَ الشيخُ: إذا كان القبرُ خارجَ أسوار المسجد فلا يَضُرُّك الصلاةُ في المسجد، ولكنْ ينبغي مع هذا إبعادُه عن المسجدِ إلى المقبرةِ حتى لا يَحصُل تشويشٌ على الناس، أما إذا كان في داخل المسجد، فإنك لا تُصلِّ في المسجد لقول النبي صلى الله عليه وسلم "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد"، متفق على صحته، ولقوله أيضًا عليه الصلاة والسلام "ألا وإن مَن كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوها مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك"، أخرجه مسلم في صحيحه، والرسول صلى الله عليه وسلم نَهَى عن اتِّخاذ القبور مساجد، فليس لنا أن نتِّخذَها مساجد، سواء كانت القبور للأنبياء أو للصالحين أو لغيرهم مِمَّا لا يُعْرَف، فالواجب أن تكون القبورُ على حدة في مَحَلَّات خاصة، وأن تكون المساجد سليمة مِن ذلك لا يكون فيها قبورٌ، ثم الحُكْم فيه تَفصِيلٌ، فإن كان القبرُ هو الأَوَّل أو القبورُ، ثم بُنِيَ المسجدُ فإن المسجد يُهْدَمُ ولا يجوز بقاؤه على القبور، لأنه بُنِيَ على غير شريعة الله فوَجَبَ هَدْمُه، أمَّا إن كانت القبورُ متأخِّرةً والمسجد هو السابق، فإن الواجب نَبْشُها ونَقْلُ رُفاتها إلى المقبرة العامَّة، كلُّ رُفاتِ قبرٍ تُوضَعُ في حُفْرةٍ خاصَّةٍ، ويُساوَى ظاهرُها كسائر القبور حتى لا تُمتهَن وتكون مِن تبع المقبرة التي دُفِن فيها الرُّفاتُ، حتى يَسْلَم المسلمون مِن الفتنة بالقبور، والرسول صلى الله عليه وسلم حين نَهَى عن اتِّخاذ القبور مساجد، مقصودُه عليه الصلاة والسلام سَدُّ الذريعة التي تُوَصِّلُ إلى الشرك، لأن القبور إذا وُضِعَتْ في المساجد يَغْلُو فيها العامَّةُ، ويَظنُّون أنها وُضِعتْ لأنها تَنفَعُ ولأنها تَقبَلُ النُّذورَ ولأنها تُدْعَى ويُستغاثُ بأهلها فيَقَع الشركُ، والواجبُ الحَذَرُ مِن ذلك، وأن تكون القبورُ بعيدةً عن المساجد بأن تكون في مَحَلَّات خاصَّة، وتكون المساجدُ سليمةً مِن ذلك. انتهى. قلت: لاحِظْ يرحمُك اللهُ أن السائل سألَ عن حُكم الصلاة في مسجد بداخله غرفة فيها قبر، فأجابه الشيخُ عن حُكم الصلاة في مسجد فيه قبر، وهذا يعني أن الشيخ لا يَرَى فَرْقا بين الصورَتَين.

 

(ب)وفي هذا الرابط من فتاوى الشيخ ابن باز، أن الشيخَ سُئِلَ: ولو كان القبرُ منعزلًا في حجرة خارجية يا شيخ عبدالعزيز؟. فأجاب الشيخ: ما دام في المسجد، سواء عن يمينك وإلا عن شِمالك وإلا أمامك وإلا خلفك، فلا تَصِحُّ الصلاةُ فيه، أما إذا كان خارج المسجد فلا يَضُرُّ بشيء، المهم أن القبر بُنِيَ عليه المسجدُ. انتهى. قلت: لاحِظْ يرحمُك اللهُ أن السائل سألَ عن حُكم الصلاة في مسجد بداخله غرفة فيها قبر، فأجابه الشيخُ عن حُكم الصلاة في مسجد فيه قبر، وهذا يعني أن الشيخ لا يَرَى فَرْقا بين الصورَتَين.

 

(ت)في هذا الرابط سُئلَتِ اللجنةُ الدائمةُ للبحوث العلمية والإِفتاء (عبدالعزيز بن عبدالله بن باز وعبدالرزاق عفيفي وعبدالله بن غديان وعبدالله بن قعود): يوجد بمدينتي بالجنوب التونسي مسجدٌ وبه قبر في إحدى زواياه، وهذا القبر داخل غُرفة وحده، أي لا تَقَعُ الصلاةُ داخِل هاته الغرفة، فما حُكْم الصلاة في هذا المسجد؟. فأجابت اللجنة: لا تجوز الصلاةُ في كل مسجد فيه قبر، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نَهَى عن ذلك ولَعَنَ مَن اتَّخذَ القبورَ مساجد. انتهى. قلت: لاحِظْ يرحمُك اللهُ أن السائل سألَ عن حُكم الصلاة في مسجد بداخله غرفة فيها قبر، فأجابَتْهُ اللجنةُ عن حُكم الصلاة في مسجد فيه قبر، وهذا يعني أن اللجنة (التي يَرْأَسُها الشيخُ ابنُ باز نَفْسه) لا تَرَى فَرْقا بين الصورَتَين.

 

(ث)في هذا الرابط سُئلَ مركزُ الفتوى بموقع إسلام ويب التابع لإدارة الدعوة والإرشاد الديني بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر: ما حُكم الصلاة في المسجد الذي به ضَريحٌ؟ مع العلم أن هذا الضريح في حُجْرة مُنْفَصِلة؟. فأجاب مركز الفتوى: الصلاةُ لا تجوزُ ولا تَصِحُّ في مسجد فيه قبر لِنَهْيِه صلى الله عليه وسلم عن ذلك في الأحاديث الصريحة الصحيحة الثابتة، والنَّهْيُ يَقتضِي التحريمَ والفسادَ كما قرَّرَ ذلك العلماءُ رحمهم الله تعالى، وإذا كان القبرُ أو الضريحُ في حُجْرةٍ مُستَقِلَّةٍ خارج حدود المسجد فهذا لا علاقة له بالمسجد، وفي هذه الحالة تجوز الصلاةُ بالمسجد لأنه مُنفصِلٌ عن القبر. انتهى. قلت: لاحِظْ يرحمُك اللهُ أن السائل سألَ عن حُكم الصلاة في مسجد بداخله غرفة فيها قبر، فأجابه مركز الفتوى عن حُكم الصلاة في مسجد فيه قبر، وهذا يعني أن مركز الفتوى لا يَرَى فَرْقا بين الصورَتَين.

 

(ج)جاء في (مجموع فتاوى الشيخ صالح الفوزان) أنَّ الشيخَ سُئلَ: كان يوجد في قريتنا رجُلٌ صالح، فلما ماتَ قامَ أهلُه بدَفْنِه في المسجد الصغير الذي نؤدِّي فيه الصلاةَ، والذي بَناه هذا الرجُلُ في حياته، ورفعوا القبرَ عن الأرض ما يُقارِب مترا، وربَّما أكثر، ثم بعد عدَّة سنوات قامَ ابنُه الكبير بِهْدم هذا المسجد الصغير، وإعادة بنائه على شكل مسجد جامع أكبر مِن الأَوَّل، وجَعَلَ هذا القبرَ في غرفة مُنعَزِلة داخِل المسجد؛ فما الحُكم في هذا العمل، وفي الصلاة في هذا المسجد؟. فَأجابَ الشيخُ: بناء المساجد على القبور أو دَفْن الأموات في المساجد، هذا أمرٌ يُحرِّمُه اللهُ ورسولُه وإجماعُ المسلمين، وهذا مِن رَواسِب الجاهليَّة، وقد كان النصارى يَبْنون على أنبيائهم وصالحيهم المساجد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا ذكرَتْ له أمُّ سلمة كنيسةً رَأَتْها بأرض الحبشة وما فيها مِن التصاوير، قال عليه الصلاة والسلام "أولئك إذا ماتَ فيهم العبدُ الصالحُ -أو الرجُلُ الصالحُ- بَنَوْا على قبره مسجدا، وصَوَّروا فيه تلك التصاوير، أولئك شِرارُ الخَلْق عند الله"، وقال صلى الله عليه وسلم "اشْتَدَّ غضبُ الله على قوم اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم وصالحيهم مساجد"، وقال صلى الله عليه وسلم "ألا فلا تَتَّخِذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك"، إلى غير ذلك مِن الأحاديث التي حذَّرَ فيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن تَسْلُك هذه الأمُّةُ ما سَلَكَت النصارى والمشركون قَبْلَهم مِن البناء على القبور، لأن هذا يُفْضِي إلى جَعْلِها آلِهَة تُعْبَدُ مِن دون الله عز وجل، كما هو الواقع المُشاهَد اليوم، فإن هذه القبور والأضرحة أصبحت أوثانا عادت فيها الوَثَنِيَّةُ على أَشُدِّها، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ والواجب على المسلمين أن يَحذَروا مِن ذلك، وأن يَبتعِدوا عن هذا العمَلِ الشَّنِيعِ، وأن يُزِيلوا هذه البِنايات الشِّركيَّة، وأن يَجعلوا المقابرَ بعيدة عن المساجد، فالمساجد للعبادة والإخلاص والتوحيد، {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه}، والمقابر تكون لأمواتِ المسلمين، تكون بعيدة كما كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرون المُفَضَّلة؛ أمَّا أن يُدْفَنَ الميِّتُ في المسجد، أو يُقام المسجدُ على القبر بعد دَفْنِه، فهذا مُخالِفٌ لدين الإسلام، مُخالِفٌ لكتاب الله وسُنَّة رسوله وإجماع المسلمين، وهو وسيلة للشرك الأكبر الذي تَفَشَّى ووَقَعَ في هذه الأُمَّة بسبب ذلك؛ الحاصل، يجب عليكم إزالةُ هذا المُنْكَر الشنيع، فهذا الميِّتُ الذي دُفِنَ في المسجد بعد بناء المسجد، الواجب أن يُنْبَشَ هذا الميِّتُ، ويُنْقَلَ، ويُدْفَنَ في المقابر، ويُطَهَّرَ المسجدُ مِن هذا القبر، ويُفَرَّغَ للصلاة والتوحيد والعبادة، هذا هو الواجب عليكم. فَسُئلَ الشيخُ: قَبْلَ إزالة هذه الجُثَّة ما حُكم الصلاة؟. فَأجابَ الشيخُ: قَبْلَ إزالة هذا القبر مِن المسجد، لا تجوز الصلاةُ فيه، فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن اتِّخاذ القبور مساجد، أي اتِّخاذها مُصَلَّيات، ولو كان المُصلِّي لا يَقْصِدُ القبرَ، وإنما يَقْصِدُ اللهَ عز وجل بِصَلاتِه، لكن الصلاة عند القبر وسيلة إلى تعظيم القبر، وإلى أن يُتَّخَذ القبرُ وَثَنا يُعْبَدُ مِن دون الله عَزَّ وجَلَّ. انتهى. قُلْتُ: لاحِظْ يرحمُك اللهُ أن السائل سألَ عن حُكم الصلاة في مسجد بداخله غرفة فيها قبر، فأجابه الشيخُ عن حُكم الصلاة في مسجد فيه قبر، وهذا يعني أن الشيخ لا يَرَى فَرْقا بين الصورَتَين.

 

 

المسألة الحادية والثلاثون

 

زيد: هناك مَن يُصَحِّحُ الصَّلاةَ في المَسجِدِ النَّبَوِيِّ، مع كَونِه بِداخِلِه القَبْرُ النَّبَوِيُّ، تَأْسِيسًا على قاعِدةِ "ما حُرِّمَ سَدًّا لِلذَّرِيعةِ يُباحُ لِلحاجَةِ أو المَصلَحةِ الراجِحةِ"، ومِن هؤلاء الشيخُ محمد حسن عبدالغفار الذي قالَ في (القَواعِدُ الفِقهِيَّةُ بَيْنَ الأصالةِ والتَّوجِيهِ) {ظَهَرَ على الساحةِ كَثِيرٌ مِمَّن يُنْكِرون على مَن يُنْكِرُ الصَّلاةَ في القُبورِ، فَيَقولُ (إنَّ عندكم قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في المَسجِدِ النَّبَوِيِّ، فَكَيْفَ تَصِحُّ الصَّلاةُ فيه؟)، فَنَقولُ لهم، المَنْعُ مِنَ الصَّلاةِ في المَسجِدِ الذي فيه قَبْرٌ ليس مَنْعًا لِذاتِه، ولَكِنْ لِغَيرِه، أيْ لِمَا يؤدِّي إليه، وهو الخَوفُ مِنَ الشِّركِ، وهناك مَصلَحةٌ أعْظَمُ مِن هذه المَفسَدةِ المَظنونةِ، وهذه المَصلَحةُ هو أنَّ الصَّلاةَ في المَسجِدِ النَّبَوِيِّ بِأَلْفِ صَلاةٍ، وهذه المَصلَحةُ لا تَجِدُها في أيِّ مَسجِدٍ آخَرَ إلَّا المَسجِدَ الحَرامَ، فَهذه مَصلَحةٌ أعْظَمُ وأَرْجَحُ، فَنَقولُ، المَنْعُ كانَ خَوفًا مِن مَفسَدةٍ، فَيُباحُ مِن أَجْلِ المَصلَحةِ الراجِحةِ (وهي أنَّ الصَّلاةَ بِأَلْفِ صَلاةٍ)، وأيضًا نَقولُ، الخَوفُ مِنَ الشِّركِ في المَسجِدِ النَّبَوِيِّ بِالذَّاتِ مَمْنوعٌ كَوْنًا وشَرْعًا، أو قُلْ قَدَرًا وشَرْعًا، لِأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعا وقالَ (اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ)، ودُعاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُستَجابٌ، وأيضًا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَهَى وقالَ (لَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا)، فالخَوفُ مِنَ الشِّركِ مَمنوعٌ شَرْعًا وقَدَرًا، فَهذه المَفسَدةُ مُنْتَفِيَةٌ}؛ فَكَيْفَ تَرَى صِحَّةَ هذا التَّخرِيجِ؟.

 

عمرو: الجَوابُ عن هذا التَّخرِيجِ يَتَّضِحُ مِمَّا يَلِي:

 

(1)حديثُ {اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ} يرويه الإمامُ مالك في الموطأ عن عطاء بن يسار أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ {اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ}، وعطاء بن يسار ليس مِنَ الصحابةِ، بَلْ مِن التابعِين، فحديثُه مُرسَلٌ، ولكنْ وَرَدَ الحديثُ مُسندا بدون كلمةِ {يُعْبَدُ} مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا، لَعَن اللهُ قومًا اِتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ} رواه أحمد، وقال أحمد شاكر مُحقِّقُ المُسْنَدِ {إسنادُه صحيح}، وقال الألباني في تحذير الساجد {سَنَدُه صحيحٌ}، وقالَ شُعَيب الأرناؤوط مُحقِّقُ المُسْنَدِ {إسنادُه قَوِيٌّ}.

 

(2)في هذا الرابط سُئلَتِ اللجنةُ الدائمة للبحوث العلمية والإِفتاء (عبدالعزيز بن عبدالله بن باز وعبدالرزاق عفيفي وعبدالله بن غديان): ما معنى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم "سألت ربي عز وجل ثلاثَ خِصالٍ، فأعطاني اثْنَتَيْنِ ومَنَعَنِي واحدةً، سألتُ ربي أن لا يُهْلِكَنَا بما أهْلَكَ به الأممَ فأعطانيها، فسألت ربي عز وجل أن لا يُظْهِرَ علينا عَدُوًّا مِن غيرنا فأعطانيها، فسألت ربي أن لا يَلْبِسَنَا شِيَعًا فمَنَعَنِيها"؟. فأجابت اللجنةُ: الحديث رواه الترمذي، وقال "حديث حسن صحيح"، والنسائي واللفظ له، ورواه مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه، ومعنى الحديث أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم سألَ ربَّه عز وجل ثلاث مسائل لأُمَّته، الأُولَى ألَّا يُهْلِكهم بما أهْلَكَ به الأُممَ مِن الغَرَق والرِّيح والرَّجْفَة وإلقاء الحجارة مِن السماء، وغيرِ ذلك مِن أنواع العذاب العظيم العامِّ، والثانية عَدَمُ ظُهورِ عَدُوٍّ عليهم مِن غيرهم فيَستَبِيح بَيْضَتَهم، والثالثة عَدَمُ لَبْسِهم شِيَعًا، واللَّبْسُ الاختلاطُ والاختلافُ بالأهواء، والشِّيَعُ جَمْعُ شِيعَة وهي الفِرْقَة، وقد أخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن ربه عز وجل تَفضَّلَ عليه واستَجابَ له في الأُوْلَيَينِ، ومَنَعَهُ الثالثةَ لحِكْمةٍ يَعْلَمُها تبارك وتعالى. انتهى. ويقول بدر الدين العيني (ت855هـ) في (عمدة القاري شرح صحيح البخاري) عند شرح قوله صلى الله عليه وسلم "لكلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُو بها، وأُرِيدُ أن أخْتَبِئَ دَعْوَتي شَفاعةً لأُمَّتِي في الآخرة": فإن قُلْتَ وَقَعَ للكثير مِن الأنبياء عليهم السلام مِن الدعوات المُجابة، ولا سِيَّمَا نَبِيُّنا صلى الله تعالى عليه وسلم، وظاهِره أن لِكُلِّ نبيٍّ دعوة مُجابة فقط؛ قُلْتُ أُجِيبَ بأن المراد بالإجابة في الدعوة المذكورة القَطْعُ بها، وما عدا ذلك مِن دَعَواتِهم فهو على رَجاء الإجابة، وقِيلَ معنى قوله "لِكُلِّ نبيٍّ دعوة"، أَيْ أفْضَل دعواته، وقيل لِكُلٍّ منهم دعوةٌ عامَّةٌ مُستجابةٌ في أُمَّته، إمَّا بإهلاكِهم، وإما بنَجاتِهم، وأمَّا الدَّعَوات الخاصَّة، فمِنها ما يُستجابُ، ومنها ما لا يُستجابُ. انتهى. قلت: وعلى ذلك فإن دَعْوَى الشيخ محمد حسن عبدالغفار أن الله استجابَ دَعْوَتَه صلى الله عليه وسلم "اللهم لا تَجْعَلْ قبري وثنًا" دَعْوَى تحتاجُ إلى دليلٍ خاصٍّ يَنُصُّ على استجابة هذه الدَّعْوَة بِعَيْنِها.

 

(3)ثَبَتَ في الصحيحين عن عائشة وعبدالله بن عباس رضي الله عنهم قالا "لما نُزِل برسول الله صلى الله عليه وسلم طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصةً له على وجهه فإذا اغْتَمَّ كَشَفَها عن وجهه فقال وهو كذلك لَعْنَةُ اللهِ على اليهودِ والنصارى اتَّخذوا قُبورَ أنبيائهم مساجدَ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا". ويقول الشيخ حمزة محمد قاسم في منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري: معنى الحديث: يقول ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم "لما نُزِل برسول الله صلى الله عليه وسلم" أي لما نَزَل به الموتُ واشْتَدَّ عليه المرضُ، "طفق يطرح خميصة" وهي كِسَاءٌ مُخَطَّطٌ، "على وجهه" أي صارَ يُرْخِي هذا الكساء على وجهه، "فإذا اغتم كشفها" أي فإذا ضاقَتْ أنفاسُه بسبب اشتداد الحرارة كَشَفَ الخميصةَ، "فقال وهو كذلك لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" أي فأخبرَ الحاضرين عنده مِن الصحابة عن حلول اللعنة باليهود والنصارى، وطَرْدِهم مِن رحمةِ الله بسبب بنائهم المساجد على قُبورِ أنبيائهم. انتهى من كتاب منار القاري. ويقول الشيخُ صالح آل الشيخ (وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد) في (كفاية المستزيد بشرح كتاب التوحيد): هذا الحديث مِن أعظم الأحاديث التي فيها التغليظ في وسائل الشرك وبناء المساجد على القبور واتِّخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، ووَجْهُ ذلك أنه عليه الصلاة والسلام وهو في ذلك الغمِّ وتلك الشِّدَّةِ ونزولِ سكرات الموت به عليه الصلاة والسلام يُعانِيها، لم يَفْعَلْ عليه الصلاة والسلام؟ بل اهْتَمَّ اهتماما عظيما وهو في تلك الحال بتحذير الأُمَّة مِن وسيلة مِن وسائل الشرك، وتوجيه اللعن والدعاء على اليهود والنصارى بلعنة الله، لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، سبب ذلك أنه عليه الصلاة والسلام يَخشَى أن يُتَّخذ قبرُه مسجدا كما اتُّخِذَتْ قبورُ الأنبياء قَبْلَه مساجد، ومَن اتَّخذَ قبورَ الأنبياء مساجد؟ شرارُ الخَلْقِ عند الله مِن اليهود والنصارى الذين لَعَنَهم النبيُّ عليه الصلاة والسلام، فقال "لَعْنَة اللّهُ على الْيَهُودَ وَالنّصَارَى"، واللعنة هي الطرد والإبعاد مِن رحمةِ الله، وذلك يدُلُّ على أنهم فَعَلُوا كبيرةً مِن كبائر الذنوب، وهذا كذلك، فإن البناء على القبور واتخاذ قبور الأنبياء مساجد هذا مِن وسائل الشرك وهو كبيرةٌ مِن الكبائر، قال "اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ"، فإذَن سَبَب اللَّعنِ أنهم اتَّخذوا قُبورَ الأنبياء مساجد، والنبيُّ عليه الصلاة والسلام يَلْعَنُ ويُحذِّرُ وهو في ذلك المَوْقِفِ العَصِيبِ، فقامَ ذلك مَقامَ آخِرِ وَصِيَّةٍ أَوْصَى بها عليه الصلاة والسلام ألَّا تُتَّخَذ القُبورُ مساجد فخالَفَ كثيرٌ مِنَ الفِئَامِ في هذه الأُمَّةِ، خالَفوا وَصِيَّةَ عليه الصلاة والسلام. انتهى. قلتُ: وفي ذلك دَلَالةٌ واضِحةٌ على خَوْفِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على أُمَّتِه مِن الغُلُوِّ فيه ومِن وُقُوعِهم في الشرك حال اتِّخاذهم قبره مسجدا، فَهَل الخوفُ المذكور بالصفة المذكورة في الحديث يَدُلُّ على أنه صلى الله عليه وسلم كان يَعْلَمُ أن دعاءَه "اللهم لا تجعل قبري وثنًا" قد استُجيب؟ وكان يَعْلَمُ أن وُقُوع الشرك في المسجد النبوي بالذات ممنوع قَدَرًا؟!!! أعتقد أن الإجابة واضحة جدا، أَمْ أنَّ الشيخ محمد حسن عبدالغفار عَلِمَ ما لم يَعْلَمْهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم!!!.

 

(4)لو قالَ رَجُلٌ لِآخَرَ {لا تَطِرْ في الهَواءِ}، فَهَلْ هذا القَولُ يَزِيدُ على أنْ يَكونَ عَبَثًا؟، نَعَمْ هو عَبَثٌ واضِحٌ، لِأنَّ الطَّبِيعةَ البَشَرِيَّةَ لا تَعرِفُ الطَّيَرانَ في الهَواءِ؛ ولَمَّا كانَ مِنَ المَعلومِ قَطْعًا نَزَاهةُ كَلامِ النُّبُوَّةِ عنِ العَبَثِ، فَكَيفَ يَتَصوَّرُ أحَدٌ أنَّ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى الناسَ عن شَيْءٍ هو مِنَ المَمنوعِ كَوْنًا، أو يَنْهَى الناسَ عن شَيْءِ عَلِمَ أنَّه لا يَقَعُ منهم قَدَرًا، فَما فائدةُ النَّهْيِ إذَنْ!!! [قالَ الشيخُ أبو سلمان الصومالي في (هَتكُ أستارِ الإفكِ عن حَدِيثِ "الإيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ"): الحَدِيثُ إمَّا أن يَدُلَّ على شَيءٍ أو لا، والثانِي باطِلٌ بِالاتِّفاقِ لِأنَّه عَبَثٌ وتَعطِيلٌ ومُخالَفةٌ لِلأصلِ يُنَزَّهُ الشَّرعُ عنه. انتهى]. وقد قالَ الشيخُ عبدُالله الغنيمان (رئيس قسم العقيدة بالدراسات العليا بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة) في (شَرحُ فَتحِ المَجِيدِ) عند شَرحِ قَولِ الشَّيخِ محمدِ بنِ عبدالوهاب {إنَّه صلى الله عليه وسلم لَم يَستَعِذْ إلَّا مِمَّا يُخافُ وُقوعُه}: المَقصودُ بهذا أنَّه [صلى الله عليه وسلم] قالَ {اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ}، فاستِعاذَتُه باللهِ جَلَّ وعَلا وطَلَبُه منه ذلك خَوفًا مِمَّا يُتَوَقَّعُ دَلَّ على أنَّ الخَوفَ مِنَ الافتِتانِ بالقُبُورِ وارِدٌ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الغنيمان-: قَولُه [أَيْ قَولُ الشَّيخِ محمدِ بنِ عبدالوهاب] {إنَّه ما يَستَعِيذُ إلَّا مِن شَيءٍ يُخافُ وُقوعُه} يَعنِي اِستَعاذَ بِرَبِّه ألَّا يَجعَلَ قَبْرَه وَثَنًا يُعبَدُ، لِأنَّه يَخشَى أنْ يَقَعَ ذلك صَلَواتُ اللهِ وسَلامُه عليه. انتهى باختصار. وفي هذا الرابط على موقعِ الشيخِ اِبْنِ باز، سُئِلَ الشيخُ: هَلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَم يَستَعِذْ إلَّا مِمَّا يُخافُ وُقوعُه؟. فأجابَ الشيخُ: نَعَمْ، وَقَدْ وَقَعَ، خافَ وُقوعَه، وَقَدْ وَقَعَ واشْتُهِرَ. انتهى.

 

(5)يقول الشيخ سعد الحصيّن في هذا الرابط: بَيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن أكْثَرَ هذه الأمة سَيَتَّبِعُ اليهودَ والنصارى، كما في الصحيحين ومسند الإمام أحمد "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كان قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ أنهم دَخَلوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ" فسأله بعض مَن سَمِعَه مِن صاحبته، قالوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَن! الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ "فَمَنْ إذن"، أَيْ مَن غَيْرُهم، وصَدَقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يَنْطِقُ عن الهَوَى، إن هو إلا وَحْيٌ يُوحَى، فَلَمْ يَنْتهِ القرنُ السادس مِن الهِجرة حتى ظَهرَتْ بَوادِرُ الوَثنيَّةِ بِبناءِ الفاطميين وَثَنًا باسم الحُسَيْن في مِصْرَ، وبناءِ صلاح الدين الأيوبي وَثَنًا باسم الشافِعِيّ في مِصْرَ غير بعيد عنه في المكان والزمان، ووَقَفْتُ عليهما بعد نحو ثمانية قُرون، ورَأَيْتُ عَمائمَ الأزْهَرِيِّين تَطُوفُ عليهما، وتحت العَمائم أَجْسامُ المَشايخ الذين يَتقرَّبون إلى الله بأكبر معصيةٍ. ويقول المنفلوطي رحمه الله في كتابه النظرات: (إن علماء مِصْرَ يَتهافتون على يوم الكنسة تهافت الذباب على الشارب) للتبرك بِكُناسة ضريح الشافِعِيّ. ويقول رحمه الله: (لِمَ يَنْقَمُ المسلمون التثْلِيثَ مِن النصارى وهم لم يَبْلُغوا مِن الشرك مَبْلَغَهم، ولم يَغْرَقوا فيه إغراقَهم، فَهُمْ يدينون بآلهة ثلاثة ولكنهم يشعرون بِغَرابة هذا التعدُّد وبُعْدِه عن العقل فيتأوَّلون فيه، ويقولون إن الثلاثة في حُكْمِ الواحد، الأب والابن وروح القدس إله واحد، أمَّا المسلمون فيدينون بآلاف مِن الآلهة أكثرها جُذُوعُ أَشْجارٍ وجُثَثُ أَمْواتٍ وقطعُ أَحْجارٍ)؛ فهَلْ بعد هذا الاتِّباع اتِّباع؟! بل التَّنافُس والتَّجاوُز!!!. انتهى كلام الشيخ سعد الحصيّن. قُلْتُ: وفي ذلك دلالةٌ واضحةٌ على تَنَبُّؤِ النبي صلى الله عليه وسلم بِمَجِيءِ زَمَان يَتَّخذُ أكثرُ هذه الأُمَّة فيه قبرَه مسجدا، ويَقَعُ منهم الغُلُوُّ فيه صلى الله عليه وسلم، تماما كما فَعَلَ اليهودُ والنصارى عليهم لعناتُ الله المتتالية. قلتُ أيضًا: وفي ذلك رَدٌّ على دعوى الشيخ محمد حسن عبدالغفار {الخوف من الشرك في المسجد النبوي بالذات ممنوع كونًا وشرعًا، أو قُلْ قَدَرًا وشرعًا}.

 

(6)استدَلَّ الشيخ محمد حسن عبدالغفار بدعاءِ النبي صلى الله عليه وسلم {اللهم لا تجعلْ قبري وَثَنًا} ونَهَيِه {لا تجعلوا قبري عيدا}، على صحة قوله {الخوف من الشرك في المسجد النبوي بالذات ممنوع كونًا وشرعًا، أو قُلْ قَدَرًا وشرعًا}؛ فماذا عن قَبْرَي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما الموجودَين أيضا داخِل المسجد النبوي؟!!!.

 

(7)ولئلا يَظُنُّ ظانٌّ قَرَأَ كلامَ الشيخ محمد حسن عبدالغفار أن المسجد النبوي لا يَقَعُ بداخِلِه ما يَقَعُ في المساجد الأخرى التي بداخلها قُبور مِن بِدَعٍ شِركيَّة وغيرها، فَإِلَى هذا الظانِّ أنْقُلُ شهادات بعض أهل العلم:

 

يقولُ الشيخُ مُقْبِل الوادِعِي في (رياض الجنة): مِمَّا تَقَدَّمَ يَتَّضِحُ لَنا أنَّ اللهَ قَدْ رَفَعَ شَأْنَ نَبِيِّه فوق ما يَتَصَوَّرُ البَشَرُ، وأنَّه لو حاوَلَ البَشَرُ أنْ يَزِيدوا شَيْئًا كانَ غُلُوًّا خارِجًا عنِ الدِّينِ، وبهذا تَعْلَمُ أنَّ الذِين يُقِيمون له المَوالِدَ، أو يَبْنون على قَبرِه القِبابَ، أو يُزَخْرِفون مَسجِدَه صلى الله عليه وعلى آله وسلم [قالَ الشيخُ عَلِيُّ بْنُ عبدالعزيز الشبل (أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة في جامعة الإمام محمد بن سعود) في (عِمارةُ مَسجِدِ النَّبِيِّ عليه السَّلامُ): أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قالَ لِلْوَلِيدِ [بْنِ عَبْدِالْمَلِكِ] لَمَّا فاخَرَه في بِنَاءِ المَسجِدِ [أَيْ فيما قامَ به الوَلِيدُ مِن تَجدِيداتٍ وتَوسِعةٍ] وبِنَاءِ عُثْمَانَ [أَيْ وما قامَ به عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ مِن تَجدِيداتٍ وتَوسِعةٍ]، قالَ له أَبَانُ رَحِمَه اللهُ {يا أمِيرَ المُؤمِنِين، بَنَيْناه بِنَاءَ المَساجِدِ وبَنَيْتَه بِنَاءَ الكَنائسِ [قالَ الشيخُ فرج حسن البوسيفي في (حكم الصلاة في المحراب): أَيْ جَعَلْتُموه مُزَخرَفًا كما هي الحالُ في الكَنائسِ، بينما نحن جَعَلْناه بَسِيطًا كما يُفتَرَضُ أنْ تَكونَ المَساجِدُ. انتهى]}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الشبل-: إنَّ ما دَخَلَ على المُسلِمِين في زَخرَفةِ المَساجِدِ والمُبَاهاةِ بها هو مِنَ التَّأَثُّرِ بالنَّصارَى واتِّباعِ سُنَتِهم. انتهى باختصار. وقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي (فَتْحُ الباري): وَأَوَّلُ مَنْ زَخْرَفَ الْمَسَاجِدَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِالْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَسَكَتَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ إِنْكَارِ ذَلِكَ خَوْفًا مِنَ الْفِتْنَةِ. انتهى باختصار. وقالَ الشَّوْكَانِيُّ في (نيل الأوطار) في (بَابِ الاقْتِصَادِ فِي بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ): الأَحَادِيثُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ التَّزْيِينَ لَيْسَ مِنْ أُمُورِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْمُبَاهَاةِ الْمُحَرَّمَةِ، وَأَنَّهُ مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ مِنْ صُنْعِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ مُخَالَفَتَهُمْ وَيُرْشِدُ إلَيْهَا؛ وَدَعْوَى تَرْكِ إنْكَارِ السَّلَفِ مَمْنُوعَةٌ لِأنَّ التَّزْيِينَ بِدْعَةٌ أَحْدَثَهَا أَهْلُ الدُّوَلِ الْجَائِرَةِ مِنْ غَيْرِ مُؤَاذَنَةٍ لِأهْلِ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ، وَأَحْدَثُوا مِنَ الْبِدَعِ مَا لَا يَأْتِي عَلَيْهِ الْحَصْرُ وَلَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ، وَسَكَتَ الْعُلَمَاءُ عَنْهُ تَقِيَّةً لَا رِضًا، بَلْ قَامَ فِي وَجْهِ بَاطِلِهِمْ جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الآخِرَةِ، وَصَرَخُوا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ بِنَعْيِ [أَيْ بِعَيْبِ وتَقبِيحِ] ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَدَعْوَى أَنَّهُ بِدْعَةٌ مُسْتَحْسَنَةٌ [هي دَعْوَى] بَاطِلَةٌ. انتهى باختصار] بِاسمِ التَّعظِيمِ، كُلُّ هذا غُلُوٌّ، واللهُ ورسولُه قد نَهَيَا عنِ الغُلُوِّ... ثم يقولُ -أَيِ الشيخُ مُقْبِلٌ-: وأنا لا أشُكُّ أنَّ زَخْرَفَةَ قَبرِه وبِناءَ القُبَّةِ عليه مِن أعْظَمِ الغُلُوِّ، وأنه عَيْنُ ما نَهَى عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولقد افتُتِنَ كثيرٌ مِنَ العَوامِّ بسبب تلك الزخرفةِ، ولا إله إلا الله ما أكثَرَ الازدِحامَ على قبرِه صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع رَفْعِ الأصواتِ، وَكَمْ مِن مُتَمَسِّحٍ بالشَّبَابِيكِ والأُسْطُوَانَاتِ [أُسْطُوَانَاتٌ جًمْعُ أُسْطُوَانَةٍ، وهي السَّارِيَةُ] والمِنبَرِ والأبوابِ... ثم يقولُ -أَيِ الشيخُ مُقْبِلٌ-: وَبِهَذَا يتَّضِحُ لَنا أنَّ الْوَلِيدَ رَحِمَه اللهُ أخْطَأَ في إدخالِ الحُجرةِ في المسجدِ النبويِّ، وأنه وَقَعَ في عَيْنِ ما نَهَى عنه النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم مِنِ اتِّخاذِ القُبورِ مَساجدَ والصَّلاةِ إليها، فإنَّ الذِين يُصَلُّون في المَكانِ الذي كانَ لِأهْلِ الصُّفَّةِ يَستَقبِلون القَبرَ كما هو مُشاهَدٌ، وكذلك النساءُ فإنَّهُنَّ يَتَّجِهْنَ في صلاتِهن إلى القبر... ثم يقولُ -أَيِ الشيخُ مُقْبِلٌ-: قد عَرَفتَ -أرشَدَكَ الله- مِمَّا تَقَدَّمَ ما وَرَدَ مِنَ الأحادِيثِ في النَّهْيِ عنِ البِناءِ على القبورِ ولَعْنِ المُتَّخِذِينَ لها مَساجِدَ، وأنَّ اتِّخاذَ القبورِ مَساجِدَ مِن شِعارِ الكُفَّارِ، وعَرَفتَ أيضًا النَّهْيَ عنِ الصَّلاةِ إلى القبورِ وعليها إلَّا صَلاةَ الجِنازةِ فإنَّها مُستثَناةٌ مِنَ النَّهْيِ بِدَلِيلِ الأحادِيثِ المُتَقَدِّمةِ... ثم يَقولُ -أَيِ الشيخُ مُقْبِلٌ-: فَكَيفَ يَسُوغُ لَنَا أنْ نَتَّخِذَ قبرَه مسجدا وهو-بِأَبِي وأُمِّي- قد نَهَى عن ذلك؟. انتهى.

 

ويقولُ الشيخُ عبدُالكريم الخضير (عضو هيئة كِبار العلماء بالديار السعودية، وعضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء) في (شرح عمده الاحكام): وُجِدَ مَن يَسجُدُ إلى القبرِ [يَعنِي القَبرَ النَّبَوِيَّ] وظَهْرُه إلى الكَعبةِ، مِثْلُ هذا لا شَكَّ أنَّه عابِدٌ، عابِدٌ للقَبرِ، ساجِدٌ له. انتهى.

 

ويَذكُرُ الشيخُ الألباني في كتابه مناسك الحج والعمرة أنَّ مِن بِدَع الزيارة في المدينة المنورة التي وقَفَ عليها: استقبالَ بعضِهم القبرَ بغَايَةِ الخشوعِ واضِعًا يَمِينَه على يَسارِه كما يَفْعَلُ في الصلاة، وقَصْدَ استقبالِ القبرِ أثناءَ الدُّعاءِ، وقَصْدَ القبرِ للدعاء عنده رَجاءَ الإجابةِ، والتَّوَسُّلَ به صلى الله عليه وسلم إلى اللهِ في الدعاءِ، وطَلَبَ الشَّفاعةِ وغيرِها منه، ووَضْعَهم اليَدَ تَبَرُّكًا على شِبَاكِ [المُرادُ بالشِّباكِ السُّورُ الحَدِيدِيُّ الدائرُ حَوْلَ حائطِ قَايِتْبَايْ، وهذا السُّورُ يُطلَقُ عليه اسمُ (المَقصورة النَّبَوِيَّة)] حُجْرَةِ قَبرِه صلى الله عليه وسلم، وتَقْبِيلَ القَبرِ أو استِلامَه أو ما يُجاوِرُ القَبرَ مِن عُودٍ ونحوِه [وقد أحسَنَ الغزاليُّ رحمه اللهُ تعالَى حين أنْكَرَ التَّقبِيلَ المَذكورَ وقالَ {إنَّه عادةُ النصارى واليهود}]، وقَصْدَ الصلاةِ تِجَاهَ قَبرِه، والجُلوسَ عند القبرِ وحَوْلَه للتلاوةِ والذِّكرِ، وقَصْدَ القَبرِ النبويِّ للسلامِ عليه دُبُر كُلِّ صلاة، وتَبَرُّكَهم بما يَسقُطُ مع المَطَرِ مِن قِطَعِ الدِّهَانِ الأخْضَرِ مِن قُبَّةِ القبرِ النبويِّ، وتَقَرُّبَهم بِأَكْلِ التَّمْرِ الصَّيْحَانِيِّ [وهو ضَرْبٌ مِنَ التَّمْرِ أسْوَدُ صُلْبُ المَمْضَغَةِ شَدِيدُ الحَلاوَةِ] فِي الرَّوْضَةِ الشريفةِ بينَ المِنبَرِ والقَبرِ، وقَطْعَهم مِن شُعُورِهم ورَمْيَها في الْقِنْدِيلِ الْكَبِيرِ القَرِيبِ مِنَ التُّرْبَةِ النَّبَوِيَّةِ، ومَسْحَ البَعضِ بأيْدِيهِمُ النَّخْلَتَين النُّحاسِيَّتَين المَوضُوعَتَين في المسجدِ غَرْبِيَّ الْمِنْبَرِ. انتهى.

 

وقالَ الشيخُ الألبانِيُّ في (حَجَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم): لقد رَأَيْتُ في السنوات الثلاث التي قَضَيْتُها في المدينة المنورة (1381-1383) أُستاذًا في الجامعة الإسلامية بِدَعًا كَثِيرةً جِدًّا تُفْعَلُ في المسجدِ النَّبَوِيِّ والمسؤولون فيه عن كُلِّ ذلك ساكِتون كما هو الشَّأْنِ عندنا في سُورِيَةَ تَمَامًا؛ ومِن هذه البِدَعِ ما هو شِركٌ صَرِيحٌ كهذه البِدعةِ، فإنَّ كَثِيرًا مِنَ الحُجَّاجِ يَتَقَصَّدون الصلاةَ تِجَاهَ القبرِ الشريفِ حتى بعدَ صلاةِ العَصرِ في وَقْتِ الكراهةِ، ويُشجِّعُهم على ذلك أنهم يَرَوْنَ في جِدارِ القبرِ الذي يَستَقبِلونه مِحْرابًا صَغِيرًا [قالَ الشيخُ الألباني في (سلسلة الأحاديث الضعيفة): وجُملةُ القَولِ أنَّ المِحرابَ في المَسجِدِ بِدعةٌ. انتهى] يُنادِي بِلِسانِ حالِه الجُهَّالَ إلى الصلاةِ عنده، زِدْ على ذلك أنَّ المَكَانَ الذي يُصَلَّون عليه مَفروشٌ بِأَحْسَن السَّجَّاد، ولقد تَحدَّثْتُ مع بعضِ الفَضَلاء بضرورة الحيلولةِ بينَ هؤلاء الجُهَّال وما يَأْتون مِنَ المُخالَفاتِ، وكان مِن أبْسَطِ ما اقتَرَحتُه رفْعُ السَّجَّادِ مِن ذلك المَكانِ وليس المِحرابَ فوَعَدَنا خَيرًا، ولكنَّ المسؤولَ الذي يستطيعُ ذلك لم يَفْعَلْ ولن يَفْعَلَ إلَّا إنْ شاءَ اللهُ تَعالَى، ذلك لأنه يُسايِرُ بعضَ أهْلِ المدينةِ على رَغَباتِهم وأهوائهم، ولا يَستَجِيبُ للناصِحِين مِن أهْلِ العِلْمِ ولو كانوا مِن أهْلِ البِلادِ، فإلى اللهِ المُشْتَكَى مِن ضَعْفِ الإيمانِ وغَلَبةِ الهَوَى الذي لم يُفِدْ فيه حتى التوحيد لِغَلَبَةِ حُبِّ المالِ على أهْلِه [أَيْ أَهلِ التَّوحِيدِ]، إلَّا مَن شاءَ اللهُ وقَلِيلٌ ما هُمْ، وصَدَقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول {فِتنةُ أُمَّتِي المالُ}. انتهى باختصار.

 

وقالَ اِبْنُ غَنَّام في (روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام، بعناية الشيخ سليمان الخراشي): وأما ما يُفْعَلُ عند قبره عليه الصلاة والسلام مِنَ الأمور المُحرَّمة العِظَام، مِن تعفير الخدود، والانحناء بالخضوع، والسجود، واتخاذ ذلك القبر عيدًا، فهو مما لا يَخْفَى ولا يُنْكَر، وأعظمُ مِن أنْ يُذْكَر، فهو في الشهرة والانتشار، كالشمس في رابعة النهار. انتهى باختصار.

 

وقال أبو عبدالرحمن شرف الحق العظيم آبادي في (عون المعبود): وَأَمَّا الآنَ فَالنَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ [يعني المسجد النبوي] إِذَا سَلَّمَ الإِمَامُ عَنِ الصَّلَاةِ، قَامُوا فِي مُصَلَّاهُمْ مُسْتَقْبِلِينَ الْقَبْرَ الشَّرِيفَ كالرَّاكِعِينَ لَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْتَصِقُ بَالسُّرَادِقِ [يُشِيرُ إلى السُّورِ الحَدِيدِيِّ الدائرِ حَوْلَ حائطِ قَايِتْبَايْ، وهذا السُّورُ يُطلَقُ عليه اسمُ (المَقصورة النَّبَوِيَّة)] وَيَطُوفُ حَوْلَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ بَاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ. انتهى.

 

وقالَ الشيخُ حمود التويجري (الذي تولَّى القضاءَ في بلدة رحيمة بالمنطقة الشرقية، ثم في بلدة الزلفي، وكان الشيخُ ابنُ باز مُحِبًّا له، قارئًا لكُتُبه، وقَدَّمَ لبعضِها، وبَكَى عليه عندما تُوُفِّيَ -عامَ 1413هـ- وأَمَّ المُصَلِّين للصلاة عليه) في كتابه (غربة الإسلام): وما زال الشركُ ووسائلُه في ازديادٍ وكَثْرةٍ حَوْلَ القبرِ الشريفِ، وعند غيرِه مِن قُبور الصحابةِ رضوان الله عليهم أجمعِين، وقد حدَّثَني بعضُ أصحابنا مِن قُضاةِ المَدِينةِ النبويَّةِ أنَّ خُدَّامَ المسجد النبوي إِذَا كَانَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَخرَجوا ما يُلْقِيه الغَوْغاءُ [الغَوْغاءُ هُمُ السِّفْلَةُ والرِّعاعُ مِنَ النَّاسِ] داخِلَ الشِّباكِ [المُرادُ بالشِّباكِ السُّورُ الحَدِيدِيُّ الدائرُ حَوْلَ حائطِ قَايِتْبَايْ، وهذا السُّورُ يُطلَقُ عليه اسمُ (المَقصورة النَّبَوِيَّة)، وهو يُشِيرُ هُنَا إلى ما يُلْقَى مِن خِلالِ الشَّبابِيِكِ التي يَتَكَوَّنُ منها السُّورُ المَذكورُ] الذي حَوْلَ الحُجرةِ، مِن أَوَانِي [أَيْ أَوْعِيَةِ] الطِّيبِ والكُتُبِ [ما يُكْتَبُ فيه يُقالُ له (كِتَابٌ)] الكَثِيرةِ؛ قالَ [أَيِ الذي حَدَّثَ الشيخَ التويجري] {وقد عُرِضَ عَلَيَّ بعضُ الكُتُبِ التي تُلْقَى هناك فإذا هي مشتملةٌ على الشركِ الأكبرِ، فبعضُهم يَسألُ المغفرةَ والرحمةَ مِنَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وبعضُهم يَسألُ منه أنْ يَهَبَ له الأولادَ، وبعضُهم يَطْلُبُ منه تيسيرِ النِّكاحِ إذا تَعَسَّرَ عليه}، إلى غيرِ ذلك مِنَ الأُمورِ التي يَفْزَعون فيها إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ويَنْسَوْنَ الخالقَ المالكَ المتصرِّفَ فاطرَ السمواتِ والأرضِ، الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ وهو المُعْطِي المانعُ النافعُ الضَّارُّ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ، قال الله تعالى {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ، إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ، وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}، وقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}، وقال تعالى {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا}، وقد عَكَسَ المشركون هذا الأمرَ، فزَعَمُوا أنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم يَمْلِكُ لهم الضَّرَّ والرَّشَدَ والإعطاءَ والمَنْعَ، وهذا عَيْنُ الْمُحَادَّةِ للهِ ولرسولهِ صلى الله عليه وسلم. انتهى.

 

ويقول الشيخُ عَلِيُّ بْنُ عبدالعزيز الشبل (أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة في جامعة الإمام محمد بن سعود) في (عمارة مسجد النبي عليه السلام): أَرَى تكوينَ لجنة متخصصة مِن أهْلِ العلم المعروفين بسلامة المُعتقَد وصِدْق التوحيد لدراسة حاجة المسجد النبوي الشريف، وتَتَبُّع ما فيه مِن البِدَعِ المُحْدَثات ذات الخَطَر الواضِح على الدِّينِ والعقيدةِ، ومتابعة مُنَفِّذ مشروع تَوْسِعة خادم الحرمين في تجديداته داخِل المسجد المجيدي وفي التوسعة الجديدة. انتهى.

 

ويقولُ الشيخُ صالحُ بنُ مقبل العصيمي (عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) في (بدع القبور): إنَّ استِمرارَ هذه القُبَّةِ [يعني القُبَّةَ الخَضراءَ المَوجودةَ فوقَ القَبرِ النَّبَوِيِّ] على مَدَى ثمانيةِ قُرونٍ لا يَعْنِي أنها أصْبَحَتْ جائزةً، ولا يَعنِي أنَّ السُّكُوتَ عنها إقرارٌ لها أو دَلِيلٌ على جَوازِها [قالَ الشيخُ إبراهيمُ بن سليمان الجبهان (ت1419هـ) في (تبديد الظلام وتنبيه النيام) الذي طُبِعَ بإذن رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد: نحن لا نُنكِرُ أنَّ بَقَاءَ البَنِيَّةِ التي على قَبْرِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم مُخالِفٌ لِمَا أمَرَ به النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الجبهان-: وسُكُوتُ المُسلِمِين على بَقَاءِ هذه البَنِيَّةِ لا يُصَيِّرُها أَمْرًا مشروعًا. انتهى]. انتهى.

 

وفي (فَتاوَى "نُورٌ على الدَّربِ") على هذا الرابط، قالَ الشيخُ اِبْنُ باز: أمَّا قُبَّةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فهذه حادِثةٌ أحْدَثَها بعضُ الأُمَراءِ في بعض القُرونِ المُتأخِّرةِ، وتَرَكَ الناسُ إزالتَها لأسباب كثيرة، منها جَهْلُ الكثير ممَّن يَتَوَلَّى إمارةَ المدينة، ومنها خَوْفُ الفتنة، لأن بعضَ الناس يَخشَى الفتنةَ، لو أزالَها لرُبَّما قامَ عليه الناسُ، وقالوا {هذا يُبغِضُ النبيَّ وهذا كيت وكيت}، وهذا هو السِّرُّ في إبقاءِ الدولةِ السعوديةِ لهذه القُبَّةِ، لأنها لو أزالَتْها لرُبَّما قالَ الجُهَّالُ -وأكثرُ الناس جُهَّالٌ- {إن هؤلاء إنَّما أزالوها لِبُغْضِهم النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام}، ولا يقولون {لِأنها بِدعةٌ}، وإنما يقولون {لِبُغْضِهم النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم}، هكذا يقولُ الجَهَلةُ وأشْباهُهم، فالحكومةُ السعوديةُ الأُولَى والأخْرَى إلى وَقْتِنا هذا، إنَّما تَرَكَتْ هذه القُبَّةَ المُحْدَثةَ خَشْيَةَ الفِتنةِ، وأنْ يُظَنَّ بها السُّوءُ، وهي لا شَكَّ أنَّها والحَمدُ للهِ تَعتَقِدُ تَحرِيمَ البِناءِ على القُبورِ، وتَحرِيمَ اِتِّخاذِ القِبابِ على القُبورِ. انتهى باختصار.

 

ويقولُ الشيخُ صالح السحيمي (رئيس قسم العقيدة بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية) في فتوى صَوتِيَّةٍ مُفَرَّغةٍ له على هذا الرابط: القُبَّةُ [يَعنِي القُبَّةَ الخضراءَ] بِدْعةٌ اِبتَدَعَها السُّلْطَانُ -أظنُّه السُّلْطَانَ قَلَاوُونَ- عَفَا اللهُ عَنَّا وعنه، فهي لا مَعْنى لها فَوقَ القَبرِ، بَلْ إنَّها أشْبَهُ ما تَكونُ بِقِبابِ النَّصارَى، لذلك لا شَأْنَ لنا بالقُبَّةِ، ليس لِلقُبَّةِ مِيزةٌ في هذا المَسجِدِ أو في هذا المَكانِ، القُبَّةُ بِدعةٌ مِنَ البِدَعِ اِبتَدَعَها بَعضُ السَّلاطِينِ وتَعلَّقَ بها النّاسُ، وأَذْكُرُ أنِّي وأنا صَغِيرٌ أنَّ بَعضَ الأطفالِ في المَدِينةِ، بَعضَ الصِّبْيَانِ، كانوا يُقسِمون بها، لَو أَقْسَمَ لك باللهِ لا تُصَدِّقْه، ولكنْ إذا قالَ {وَحَيَاةِ القُبَّةِ الخَضراءِ} تُصَدِّقه، وهذا دَلِيلٌ على ضَيَاعِ النَّاسِ، وأنَّهم لا يُفَرِّقون بين السُّنَّةِ والبِدعةِ. انتهى.

 

وقال الشيخ وليد السعيدان: ونحن لا نُقِرُّ القُبَّةَ التي على قَبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، بَلِ الواجِبُ هَدْمُها... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ وليد السعيدان-: فالقِبابُ كُلُّها لا بُدَّ مِن هَدْمِها ولا يَجوزُ إبقاءُ شَيءٍ منها، فإنَّها مِن أعظَمِ ما يَكونُ سَبَبًا للافتِتانِ بالقَبرِ. انتهى من الحصون المنيعة.

 

وجاءَ على مَوقِعِ صحيفة الخليج الإماراتية في مقالةٍ بعنوان (المسجد النبوي روضة من الجنة) على هذا الرابط: المَسجِدُ النَّبَوِيُّ الشَّريفُ، به عَشْرُ مَآذِنَ، وتَرتَفِعُ كُلٌّ مِنْهَا إلى حَوَالَيْ مِائَةٍ وَخَمْسَةِ أَمْتارٍ. انتهى باختصار. وجاء على موقع جريدةِ الرياض السعودية تحت عنوان (مآذن المسجد النبوي) في هذا الرابط: كانَتْ فِكرةُ بِناءِ المَآذِنِ -أَوِ المَناراتِ- في عَهدِ الخَلِيفةِ الأُمَوِيِّ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِالْمَلِكِ، حيث شُيِّدَتْ أَربَعُ مآذِنَ، على كُلِّ رُكنٍ مِن أركانِ الحَرَمِ [النَّبَوِيِّ] مِئذَنةٌ. انتهى. وفي هذا الرابط على موقع الشيخِ مُقْبِلٍ الوادِعِيِّ، سُئِلَ الشيخُ: ما حُكمُ بِناءِ المَنَارةِ [أَيِ المِئذَنةِ] على المَسجِدِ؟. فأجابَ الشيخُ: يُعتَبَرُ بِدعةً، فمَسجِدُ رَسولِ الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم لم يَكُنْ له مَنَارةٌ، وتِلْكُمُ الأموالُ التّي تُصرَفُ في المَنَارةِ سَيُسألُ عنها صاحِبُها لِأنَّ الرَّسولَ صلَّى الله عليه وعلى آلِه وسلَّم نَهَى عن إضاعةِ المالِ، والنَّبيُّ صلَّى الله عليه وعلى آلِه وسلَّم يقولُ {مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ}... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ مُقْبِلٌ-: المَناراتُ، مِن أَيْنَ وَرِثَها المُسلِمون؟، وَرِثَها المُسلِمون مِنَ الرُّهبانِ، صَدَقَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وعلى آلِه وسلَّم إذْ يَقولُ {لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ}، فهذه المَناراتُ يُقَلِّدون فيها أعداءَ الإسلامِ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ الألباني في (الأجوبة النافعة): مِن رَأْيِي أنَّ وُجودَ الآلاتِ المُكَبِّرةِ للصَّوتِ اليَومَ يُغنِي عنِ اِتِّخاذِ المِئذَنةِ كَأَداةٍ لِلتَّبلِيغِ، ولا سِيَّمَا أنَّها تُكَلِّفُ أموالًا طائلةً، فبِناؤها والحالةُ هذه -مع كَونِه بِدعةً ووُجودُ ما يُغنِي عنه- غَيْرُ مَشروعٍ، لِمَا فيه مِن إسرافٍ وتَضيِيعٍ للمالِ، ومِمَّا يَدُلُّ دَلالةً قاطِعةً على أنَّها صارَتِ اليَومَ عَدِيمةَ الفائدةِ أنَّ المُؤَذِّنِين لا يَصعَدون إليها الْبَتَّةَ مُستَغنِين عنها بِمُكَبِّرِ الصَّوتِ. انتهى.

 

وجاءَ على موقع صحيفة عكاظ السعودية، في مقالةٍ بعنوانِ (محاريب المسجد النبوي شواهد من التاريخ) على هذا الرابط: يَحتَوِي المَسجِدُ النَّبَوِيُّ الشَّرِيفُ على سِتَّةِ مَحارِيبَ، هي المِحرابُ النَّبَوِيُّ الشَّرِيفُ، والمِحرابُ العُثمانِيُّ، والمِحرابُ السُّلَيْمانِيُّ، ومِحرابُ فاطِمةَ (ويَقَعُ داخِلَ المَقصورةِ الشَّرِيفةِ [وهي السُّورُ الحَدِيدِيُّ الدائرُ حَوْلَ حائطِ قَايِتْبَايْ])، ومِحرابُ التَّهَجُّدِ، ومِحرابُ شَيخِ الحَرَمِ. انتهى. وقالَ موقع وكالة الرئاسة لشؤون المسجد النبوي (التابع للرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي) في مقالة بعنوان (عِمارةُ المَسجِدِ النَّبَوِيِّ) على هذا الرابط: ووُضِعَ في المَسجِدِ في هذه العِمارةِ [يَعنِي العِمارةَ التي تَمَّتْ في عَهْدِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِالْمَلِكِ] لِأوِّلِ مَرَّةٍ مِحرابٌ مُجَوَّفٌ. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ الألباني في مقالةٍ له بعنوانِ (السُّنَنُ المَنسِيَّةُ) على هذا الرابط: وبِمُناسَبةِ المِحرابِ [يَعنِي المِحرابَ المُجَوَّفَ الذي يُرَى الآنَ في المَساجِدِ، والذي هو عِبارةٌ عن تَجوِيفٍ في جِدارِ القِبلةِ، وهو مَقَامُ الإِمَامِ في الصَّلاةِ]، لا بُدَّ مِنَ التَّذكِيرِ بهذه النَّصِيحةِ، وإنْ كانَ الناسُ عنها غافِلون، [وهي] أنَّ المَسجِدَ النَّبَوِيَّ لم يَكُنْ له مِحرابٌ، وإنَّما [كانَ] الجِدارُ القِبلِيُّ [يَعنِي الجِدارَ الذي في جِهةِ القِبلةِ] كَسَائِرِ الجُدُرِ هَكَذَا مَسْحًا [أَيْ مُسَطَّحًا ليس فيه تَجوِيفٌ]، ليس فيه هذا إطلاقًا... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الألباني-: فالمَحارِيبُ هذه لم تَكُنْ مِن عَهدِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم ولا مِن عَهدِ الصَّحابةِ، وإنَّما حَدَثَ ذلك فِيما بَعْدُ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الألباني-: مِنَ الشُّبُهاتِ [أَيْ عند الْمُجَوِّزِينَ لِلمِحرابِ] أنَّ المِحرابَ يَدُلُّ الغَرِيبَ على جِهةِ القِبلةِ، فَنَحنُ نَقولُ {الغايَةُ لا تُبَرِّرُ الوَسِيلةَ}، إذا كانَ المَسجِدُ النَّبَوِيُّ لم يَكُنْ فيه هذا المِحرابُ، أَلَيسَ قَدْ كانَ هُناكَ ما يَدُلُّ على [جِهةِ] القِبلةِ؟ لا شَكَّ مِن ذلك، فما هو الشَّيءُ الذي كانَ يَومَئذٍ، يَنبَغِي عَلَينا أنْ نَتَّخِذَه كَعَلامةٍ لِجدارِ القِبلةِ، يُصَلِّي المُصَلِّي الغَرِيبُ إلى هذا الجِدارِ وليس إلى الجُدُرِ الأُخرَى... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الألباني-: مِنَ الواضِحِ جِدًّا كما أنتم تُشاهِدون حتى اليَومِ أنَّ المِنبَرَ يُبنَى لِنَفْسِ الجِهةِ التي يكونُ فيها المِحرابُ، فإذَنْ ما الدَّاعي مِن جَعْلِ عَلامَتَين اثْنَتَيْنِ تَدُلُّ كُلٌّ مِنْهُمَا على القِبلةِ؟!، فالمِنبَرُ لا بُدَّ منه، [وَ]هَا هو يَدُلُّ إذَنْ على جِهةِ القِبلةِ [قالَ الشيخُ الألباني في (سلسلة الأحاديث الضعيفة): وجُمْلةُ القَولِ أنَّ المِحرابَ في المَسجِدِ بِدعةٌ، ولا مُبَرِّرَ لِجَعلِه مِنَ المَصالِحِ المُرسَلةِ ما دامَ أنَّ غَيرَه مِمَّا شَرَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقومُ مَقامَه مع البَساطةِ وقِلَّةِ الكُلْفَةٍ والبُعدِ عنِ الزَّخرَفةِ. انتهى. وفي هذا الرابط على موقعِ الشيخِ مُقْبِلٍ الوادِعِيِّ، سُئِلَ الشيخُ: ما حُكْمُ المِحرابِ، وهَلْ يَدخُلُ في المَصالِحِ المُرسَلةِ؟. فأجابَ الشيخُ: المِحرابُ يُعتَبَرُ بِدعةً، والسّيوطي نَاهِيكَ به تَساهُلًا وقد أَلَّفَ رِسالةً في بِدعِيَّةِ المِحرابِ [يُشِيرُ إلى كِتَابِ (إعلام الأريب بحدوث بدعة المحاريب)]، فالمِحرابُ يُعتَبَرُ بِدعةً، ومَسألَةُ المَصالِحِ المُرسَلةِ، ما مَصالِحُ مُرسَلةٌ، {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ، قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ}، أَيُّ مَصلَحةٍ في مُخالَفةِ السُّنَّةِ؟! {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، الصّحابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ما كانوا يَتَحَيَّلون على إبطالِ شَرعِ اللهِ بهذه القَواعِدِ، بَلْ كانوا بِمُجَرَّدِ الإشارةِ مِنَ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وعلى آلِه وسلَّم يَفعَلون، ما قالوا {المَصالِحَ}، فكانوا يَستَسلِمون {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. انتهى باختصار]، فَطَاحَ ذلك الذي يَتَّكِئُ عليه هؤلاء الذِين يُريدون تَسلِيكَ الواقِعِ (ولو كانَ [أَيِ الواقِعُ] مُخالِفًا لِلسُّنَّةِ). انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ مصطفى العدوي في مقالة له على هذا الرابط: المَحارِيبُ شَيءٌ مُحدَثٌ وبِدعةٌ في الدِّينِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ العدوي-: المَسجِدُ النَّبَوِيُّ لم يَكُنْ فيه مِحرابٌ في عَهدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ولا في عَهدِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدِين. انتهى.

 

وقالَ موقعُ وكالة الرئاسة العامة لشؤون المسجد النبوي في مقالة بعنوان (منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم) على هذا الرابط: كانَ المِنبَرُ على عَهدِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم وخُلَفائه الرَّاشِدِين يَتَكَوَّنُ مِن دَرَجَتَين ومَقْعَدٍ... ثم قالَ -أَيْ موقعُ وكالة الرئاسة العامة لشؤون المسجد النبوي-: في عامِ 998هـ أَرسَلَ السُّلطانُ مُرادٌ العُثمانِيُّ مِنبَرًا مَصنوعًا مِنَ الرُّخامِ، جاءَ في غايَةِ الإبداعِ ودِقَّةِ صِناعَتِه ورَوعةِ زَخرَفَتِه ونُقُوشِه، وطُلِيَ بِمَاءِ الذَّهَبِ، وهو الموجودُ في المسجد النبوي الشريف الآن، وهو يَتَكَوَّنُ مِنِ اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ دَرَجةً. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ الألباني في (أَصْلُ صِفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم): السُّنَّةُ في المِنبَرِ أنْ يَكونَ ذَا ثَلاثِ دَرَجاتٍ لا أَكثَرَ، والزِّيَادةُ عليها بِدعةٌ أُمَوِيِّةٌ كَثِيرًا ما تُعَرِّضُ الصَّفَّ [يَعنِي الصَّفَّ الأوَّلَ الَّذِي يَلِي الإِمَامَ] لِلقَطْعِ. انتهى. وقالَ ابْنُ رَجَبٍ في (فتح الباري): وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمِنْبَرَ كَانَ ثَلَاثَ مَرَاقٍ [أَيْ دَرَجاتٍ]، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ فِي عَهْدِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ؛ وَقَدْ عَدَّ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ تَطْوِيلَ الْمَنَابِرِ مِنَ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ. انتهى باختصار. وقالَ مَوقِعُ (الإسلامُ سؤالٌ وجَوابٌ) الذي يُشْرِفُ عليه (الشيخ محمد صالح المنجد) في هذا الرابط: مِنبَرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كانَ صَغِيرًا قَصِيرًا مُتَوَاضِعًا، مَصنوعًا مِنَ الخَشَبِ، يَتَكَوَّنُ مِن ثَلاثِ دَرَجاتٍ، وكانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخطُبُ على الثانِيةِ ويَجلِسُ على الثالثةِ... ثم قالَ -أَيْ مَوقِعُ (الإسلامُ سؤالٌ وجَوابٌ)-: فَلَمْ يَكُنْ [أَيْ مَنبَرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم] يَقطَعُ صَفًّا، ولم يَكُنْ يُؤذِي أحَدًا، إنَّما هي خَشَباتٌ مُتَوَاضِعةٌ رُكِّبَتْ ثَلاثَ دَرجاتٍ، ولا زَخارِفَ، ولا نُقُوشَ، ولا إنفاقَ زائدَ على الحَدِّ، وعلى نَحوِ ذلك يَنبَغِي أنْ تَكونَ مَنابِرُ مَساجِدِ المُسلِمِين. انتهى.

 

وجاءَ على موقع قناة العربية الفضائية الإخبارية السعودية في مقالة بعنوان (مِلْيُونَا مُصَلٍّ في المسجد النبوي بعد التوسعة التاريخية) على هذا الرابط: ويُشِيرُ مَوقِعُ بَوَّابةِ الحَرَمَين التابعُ لِلرِّئاسةِ العامَّةِ لِشُؤون المَسجِدِ الحَرامِ والمَسجِدِ النَّبَوِيِّ إلى أنَّه وبَعْدَ تَوسِعةِ خادِمِ الحَرَمَين الشَّرِيفَين، سَيَصِلُ عَدَدُ القِبابِ مِائَةً وَسَبْعَةً وَتِسْعِينَ قُبَّةً، وأَعلَى القِبابِ هي القُبَّةُ الخَضراءُ. انتهى باختصار. وجاءَ على موقعِ صحيفة الخليج الإماراتية في مقالةٍ بعنوان (المسجد النبوي روضة من الجنة) على هذا الرابط: يَتَمَيَّزُ المَسجِدُ النَّبَوِيُّ الشَّرِيفُ بالقُبَّةِ الخَضراءِ -وهي الأعلَى- وَبِهِ مِائَةٌ وَسَبْعَةٌ وَتِسْعُونَ قُبَّةً. انتهى باختصار. وقالَ الشيخُ أحمد بن محمد الخليل (أستاذ الدراسات العليا بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية، بجامعة القصيم) في فتوى له على موقِعِه في هذا الرابط: بِنَاءُ القِبابِ على المَساجِدِ مُحَرَّمٌ شَرعًا لِأمرَين؛ الأوَّلُ، أنَّه مِن زَخرَفةِ المَساجِدِ الْمَنْهِيِّ عنها؛ الثانِي، أنَّه مِنَ التَّشَبُّهِ باليَهُودِ والنَّصارَى؛ والخُلاصةُ أنَّ بِناءَ القِبابِ على المَساجِدِ مِنَ البِدَعِ المُحدَثةِ التي حَرَّمَها اللهُ ورَسولُه صلى الله عليه وسلم. انتهى. وفي هذا الرابط على موقعِ الشيخِ مُقْبِلٍ الوادِعِيِّ، سُئِلَ الشيخُ: ما حُكْمُ بِنَاءِ القِبابِ والمَنائرِ [أَيْ والمِآذِنِ] والمَحارِيبِ في المَساجِدِ، وهَلْ كانَ ذلك مَوجُودًا على عَهدِ السَّلَفِ؟. فأجابَ الشيخُ: لم يَكُنْ مَوجُودًا على عَهدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وعلى آلِه وسلم، ولا على عَهدِ السَّلَفِ. انتهى.

 

وفي فتوى صوتية مُفَرَّغَة على هذا الرابط وعلى هذا الرابط وعلى هذا الرابط وعلى هذا الرابط وعلى هذا الرابط وعلى هذا الرابط وعلى هذا الرابط وعلى هذا الرابط سُئِل الشيخُ محمد متولي الشعراوي الصوفي الأشعري: لو أن رجُلا تَبرَّعَ ببناء مسجد وشَيَّدَ لنفسه بداخِله قَبْر على نَفَقَتِهِ الخاصَّة فهَلْ هذا جائزٌ؟. فأجاب الشيخُ: أَيْوَه، وَلَا فيه شيء، إحنا النبي مَهُو قبره في المسجد، والأزهر موجود، وقبور الأولياء جُلّها في المساجد، التَّنَطُّع دَه سِبْنا مِنه... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الشعراوي-: نَقُولُّهم بَقَى رُوحوا اهْدِمُوا القَبْرَ بِتَاع النبي، فإن قيلَ {خصوصية للنبي}، نَقُولُّه {لا، أبو بكر مدفون فيها وعمر، ونُصَلِّي في الصُّفَّة والقَبْر أمامَنا، ونصلي في الروضة والقَبْر على يسارِنا، ونصلي في مَنْزِل الوحي والقَبْر عن يمينِنا، ونصلي في المواجهة والقَبْر خلفَنا}. انتهى.

 

وقال المَرْجِعُ الشِّيعِيُّ الإيرانيُّ جعفر السبحاني في مقالة له على هذا الرابط: هذا وقد صَلَّى المسلمون يَوْمَ أُدخِلَ القبرُ في المسجد عَبْرَ قُرون، ولم يُسمَعْ مِن أيِّ ابنِ أُنثَى أنَّه أنْكَرَ ذلك العَمَلَ، بَلِ المسلمون كلُّهم يُصَلُّون في المسجد ويَتَبَرَّكون بقبرِه الشريفِ. انتهى.

 

(8)قال الشيخ محمد حسن عبدالغفار: المَنْع مِن الصلاة في المسجد الذي فيه قبرٌ ليس مَنْعًا لذاته، ولكن لغيره، أيْ لِمَا يؤدِّي إليه، وهو الخوفُ مِن الشرك. انتهى. قلت: ينبغي التنبيه هنا على وُجُودِ عِلَّة أخرى للتحريم، فقد قال المباركفوري في تحفة الأحوذي {قال ابن الملك، إنما حَرَّمَ اتِّخَاذَ المساجد عليها -يعني على القبور- لأن في الصلاة فيها استِنانا بسُنَّةِ اليهودوفي هذا الرابط يقول الشيخ ماجد بن سليمان الرسي {ومِن أدلَّةِ تحريم الصلاة عند القبور أن في ذلك تَشَبُّها بالكفار، كما دلَّت على ذلك الأحاديثُ الثلاثة الأُوَل، ومِن المعلوم أن التشَبُّهَ بالكفار في عباداتهم حرامٌ، وقد جاءَ الوعيدُ الشديدُ في حقِّ مَن تَشبَّهَ بهم}.

 

(9)في فتوى صوتية للشيخ محمد حسن عبدالغفار بعنوان (إن لم يَجِدْ سِوَى مسجدٍ فيه قبرٌ، فهل يُصَلِّي فيه؟) على هذا الرابط، سُئِل الشيخ: كثيرٌ مِن العلماء يَرَى أنه إن لم يَجِدْ سِوَى مسجدٍ فيه قبرٌ، لا يُصلِّي فيه، فكيف الرَّدُّ على القاعدة (ما مُنِع سدًا للذريعة أُبيح للمصلحة الراجحة)؟. فأجاب الشيخُ: لا يا رَجُل، أين المصلحة الراجحة عندك هنا، أنت أحْكَمْتَ، لكن هذا السؤال ليس في مَحَلِّه، أنا أقول إن لم تَجِد مسجدا، يعني لو أنت أَصْلا في مكان، هذا المكان دائرتُه ما فيها غير مساجد فيها قبر، وأنت الجماعةُ سَتَضِيعُ عليك، أقول لك صَلِّ في البيت بامْرَأَتِك تُحْسَب جَماعة، ذلك أنها أَفْضلُ مِن المسجد، صَلِّ بأهل بيتِك جَماعة، ولا تَنْزِل تُصلِّي في هذا المسجد، إن لم تَجِد مسجدا ليس فيه قبرٌ صَلِّ في الشارع أَوْلَى لك، لا تُصَلِّ في المسجد الذي فيه قبر بحالٍ مِن الأحوال، لأن صلاتَك عند الجمهور صحيحةٌ مع الإثم، وعند الحنابلة صلاتُك إِيشْ؟ باطلة، فأنت مُخْتَلَف فيك عند العلماء، وَلِمَا؟ والقاعدةُ الخُروجُ مِن الخِلاف مُستحبٌّ، صَلِّ في البيت مع امْرَأَتِك تُحسَب لك جَماعة، وهذا الراجح الصحيح، أما القاعدة ما مُنِعَ سدا للذريعة وأُبِيحَ للمصلحة الراجحة، أين المصلحة الراجحة، إذا قال لي المصلحة الراجحة سبعة وعشرين درجة، نقول له خُذْها مع أمِّك مع بِنْتِك مع امْرَأَتِك في بيتك، ستأخذها بصلاة الجَماعة، لكن المصلحة الراجحة التي لا يُمكِن أن نتداركها هي الألْف صلاة وهي المسجد النبوي. انتهى كلام الشيخ.

 

قلت: إذا كان الشيخ يرى بطلان الصلاة في مسجد فيه قبر، فحينئذ لن تُفِيده فضيلةُ الصلاة في المسجد النبوي، وفي الحقيقة أعتقد أنه مِن البعيد أن يُنْسَب إلى الشيخ محمد حسن عبدالغفار بأنه يَرَى أن فضيلة الصلاة في المسجدِ النبويِّ (والتي هي أن الصلاة الواحدة بألف صلاة) يُمْكِن تحصيلُها مع بطلان الصلاة التي سيُحَصَّلُ مِن جَرَّاءِ أدائِها أَجْرُ ألف صلاة، لأنه من المعلوم أن الباطل هو ما لم يَتَرتَّبْ عليه أثَرُه ولم يَحْصُلْ به مَقصودُه؛ يقول ابن تيمية في مجموع الفتاوى {وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الْعُلَمَاءِ (الْعِبَادَاتُ وَالْعُقُودُ تَنْقَسِمُ إلَى صَحِيحٍ وَبَاطِلٍ)، فَالصَّحِيحُ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ وَحَصَلَ بِهِ مَقْصُودُهُ، وَالْبَاطِلُ مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ أَثَرُهُ وَلَمْ يَحْصُلْ بِهِ مَقْصُودُهُ}. قلتُ: وإذا بَطَلَت الصلاةُ لم يَتَرتَّبْ عليها أثَرُها، وبالتالي لن يَتِمَّ تَحصيلُ الفضيلةِ (والتي هي أن الصلاة الواحدة بألف صلاة)؛ ولذلك سأعتمدُ على أنَّ الشيخَ محمد حسن عبدالغفار يَرَى صحةَ الصلاة في مسجد فيه قبر مع الإثم.

 

فإذا كان الشيخُ يَرَى صِحَّةَ الصلاة في مسجد فيه قبر مع الإثم، فحينئذٍ يَنبغِي أنْ يُطْرَحَ عليه سؤالٌ، أيُّهما أعْلَى رُتْبَةً، تحصيل فضيلة أم تجنُّب ارتكاب إثم؟.

 

فإن قال "الأعْلَى رُتْبة هو تحصيلَ فضيلة"، فحينئذٍ أقُولُ له قال الشيخ سليمان بن محمد النجران في المفاضلة في العبادات: قال الجمهورُ في رَدِّهم على الشافعية في تَحيَّةِ المسجد وقتَ النَّهْيِ، أن النَّهْيَ عن الصلاة للتحريم، بينما الأَمْرُ في تَحيَّةِ المسجدِ للنَّدْبِ، وتَرْكُ المُحرَّمِ مُقَدَّمٌ على فِعْلِ المندوبِ. انتهى. وقال الشيخ محمد همام عبدالرحيم ملحم: فاتِّفاقُ الأُصولِيِّين على أنَّ المُباحَ أو المَندوبَ إذا اجْتَمَعَ بالحَرامِ غُلِّبَ الحَرامُ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ محمد همام عبدالرحيم ملحم-: قاعِدةُ تَرْكِ الحَرامِ أَوْلَى مِن فِعْلِ المُستَحَبِّ، ومِن أمثِلَتِها، تَخَطِّي الرِّقابِ عند خُطْبَةِ الجُمعةِ عَمَلٌ مُحرَّمٌ، والقُرْبُ مِنَ الصُّفوفِ الأُولَى عَمَلٌ مُستَحَبٌّ، فتَرْكُ الحرامِ هنا مُقدَّمٌ على فِعْلِ المُستَحَبِّ، وكذلك تَقبِيلُ الحَجَرِ الأسْوَدِ سُنَّةٌ مُستحَبَّةٌ، وإيذاءُ الناس للوُصولِ إليه حَرامٌ، فَيُقَدَّمُ تَرْكُ الحَرامِ على فِعْلِ المُستَحَبِّ. انتهى باختصار من تأصيل فقه الأولويات.

 

وأمَّا إنْ قالَ "الأعْلَى رُتْبةً هو تَجَنُّبُ ارتكاب إثم"، فحينئذ أقول له "فَلِمَا تُقدِّمُ تحصيلَ فضيلةٍ على تَجَنُّبِ ارتكابِ إثمٍ في مسألة الصلاة في المسجد النبوي؟"، فإن قال "قدَّمْتُ تحصيلَ الفضيلة، لقاعدة ما حُرِّمَ سدًّا للذريعة يُباح للحاجة أو المصلحة الراجحة"، قلتُ "إذَن لماذا أفتَيْتَ السائلَ بأداء صلاة الفريضة في بيته وتَرْكِ أدائها في المسجد، أليس أداءُ الفريضة في المسجد أفْضَلَ مِن أدائها في بيته بالإجماع، فَلِمَا لَمْ تُطِّبَق القاعدةَ نفسَها في جوابِك للسائلِ لِكَي يُحَصِّلَ فضْلَ أداءِ الفريضةِ في المسجدِ"، فإنْ قال "لِأنَّ عَلَى قَوْلِ الحنابلة، رُبَّما تكون الصلاةُ في المسجد الوارد في سؤاله باطلةً بسبب وجود القبر"، قلتُ "أيضا، رُبَّما تكون صلاتُه في المسجد النبوي باطلةً للسبب ذاته".

 

وختامًا لهذه النقطة، أقول: وبذلك يَتَبَيَّنُ أن قول الشيخ محمد حسن عبدالغفار لِمَن سَأَلَه الفتوى {هذا السؤال ليس في مَحَلِّه} ليس في مَحَلِّه!!!.

 

(10)والآن أشْرَعُ في بيان فساد الاستدلال بقاعدة (ما حُرِّم سدًّا للذريعة يُباحُ للحاجة أو المصلحة الراجحة) على إباحة الصلاة في مسجد فيه قبر، سواء كان هذا المسجد هو المسجد النبوي أو غيره، فأقول:

 

-اعْلَمْ رحمك الله أن القاعدة تقول (ما حُرِّم لذاته يُباح للضرورة، وما حُرِّم سدًّا للذريعة يُباح للحاجة أو المصلحة الراجحة).

 

-واعْلَمْ أن المصلحة الواجبة أَعْلَى رُتْبَةً من المصلحة المندوبة، وقد مَرَّ بنا قَوْلُ الشيخ محمد صالح المنجد {المَصلَحة الواجِبة مُقَدَّمةٌ على المَصلَحةِ المُستَحَبَّةِ}.

 

-واعْلَمْ أن مِن أهل العلم مَن نَبَّه إلى خطورة استخدام القاعدة المذكورة بلا ضوابط وإلى خطورة أن يَتَسَلَّلَ منها أصحابُ الهَوَى والزَّيْغِ والشبهاتِ والشهواتِ والتدليسِ والتلبيسِ، وأن مِن أهل العلم مَن رَأَى أنه لا يَصِحُّ قَبُولُ هذه القاعدة بالصِيغَةِ التي هي عليها، وأن مِن أهل العلم مَن رَأَى أن مِن ضوابط هذه القاعدة ما يَمْنَعُ مِن إعْمالها في مسألة الصلاة في مسجد فيه قبر (وستَمُرُّ بك بمشيئة الله فتوى للشيخ ابن عثيمين يَرْفُضُ فيها الشيخُ إعمالَ هذه القاعدة في المسألة المذكورة).

 

-والآن سَأعْرِضُ عليك بَيانَ ذلك في نقاط:

 

(أ)بعضُ أهل العلم نَبَّهَ إلى خطورة استخدام هذه القاعدة بلا ضوابط، وإلى خطورة أن يَتَسَلَّل منها أصحابُ الهوى والتلبيس: فَيَقولُ الشيخُ عبدُالله الخليفي في مقالة بِعُنوانِ (تنبيهاتٌ حولَ قاعدةِ ما حُرِّمَ سَدًّا للذريعةِ فإنه يُباح لِلحاجةِ أو المصلحة الراجحة) على موقعه في هذا الرابط: وأنا لا أَرِيدُ هنا إسقاطَ باب المصالح والمفاسد، بل هذا بابٌ عظيم جليل موجود، ولَكِنَّ القَومَ يَتَّخِذونه مَطِيَّةً لإباحة ما حَرَّمَ اللهُ أو العكس بجُرْأَةٍ عجيبة. انتهى.

 

ويقول الشيخ عبدالعزيز بن إبراهيم الشبل في هذا الرابط في مقالة بعنوان (بين سَدِّ الذرائع والعمل بالمصلحة): وباتَ بعضُهم إذا أراد أنْ يُحرِّمَ شيئًا لا يَجِدُ دليلًا على تحريمه يَتَّكِئ على سَدِّ الذرائع، ومَن أراد أنْ يُبيحَ شيئًا وَوَقَفَ الدليلُ الشرعيُّ في وجهه صريحًا بالتحريم يَذْهَب إلى إعمالِ المصالح، حتى غَدا عندنا مَنْهَجان، مَنْهَجٌ يُوسِّعُ دائرةَ الذرائع فيُضَيِّق على الناس ما أباحَه الله، ومنهجٌ يَتَمَسَّكُ بالمصالح المزعومة مُغْفِلًا النَّظَرَ فيما سواها، وحدَثَ نتيجة ذلك رَدَّة فِعْلٍ طَبْعِيَّة لِهَذَين المنهجَين، فتَبَرَّمَ بعضُهم بِسَدِّ الذرائع حتى عَدَّه أكبرَ سَدٍّ في العالم، وعَدَّ آخرون المصالحَ طاغُوتًا يُضافُ إلى الطواغيت الجاثِمة على صدور المسلمين. انتهى باختصار.

 

ويقول الشيخ سعد فياض (عضو المكتب الدعوي والعلمي بالجبهة السلفية) في مقالة بعنوان (قواعد وضوابط في اعتبار المصالح والمفاسد) على هذا الرابط: يقول الشيخ عطية محمد سالم [رئيس محاكم منطقة المدينة المنورة] رحمه الله في تقديمه لرسالة الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله (المصالح المرسلة) {ومَكْمَن الخَطَرِ في ادِّعاء المصلحة، لأنه ادِّعاءٌ عامٌّ، وكُلٌّ يدَّعِيه لِبَحْثِه فيما يَذهَبُ إليه، ولن يَذهَب مُجتهِدٌ قط إلى حُكمٍ في مسألةٍ لا نَصَّ فيها إلَّا وادَّعَى أنه ذهبَ لتحقيق المصلحة، ولكن، أيّ المصالح يَعْنُون؟ إن المصلحةَ الإنسانية الخاصة أمْرٌ نِسبِيٌّ، وكُلٌّ يدَّعِيها فيما يَذهَبُ إليه، ومِن هنا كان الخَطَرُ، ولكن حقيقة المصلحة هي المصلحة الشرعية التي تَتَمَشَّى مع منهج الشرع في عمومه وإطلاقه، لا خاصَّة ولا نِسبيَّة، فهي التي يَشهَدُ لها الشرعُ الذي جاء لتحقيق مصالح جميع العباد، ومراعاة جميع الوجوه، لأن الشرع لا يُقِرُّ مصلحةً تَتَضَمَّنُ مَفسدةً مُساوِيةً لها أو راجحة عليها ظَهرَ أمْرُها أو خَفِيَ على باحِثِها، لأن الشارعَ حكيمٌ عليمٌ، كما أن المصلحة الشرعية تُراعِي أَمْرَ الدنيا والآخرة مَعًا، فلا تُعتبرُ مصلحةٌ دنيوية إذا كانت تَستوجِبُ عقوبةً أُخْرَوِيَّةً، وفي هذا يَكمُنُ الفَرْقُ الأساسي بين المصلحة عند القانونيين الذين يقولون (حيثما وُجِدَت المصلحةُ فثَمَّ شَرْع الله) وبين الأصوليين الشرعيين الذين يَصْدُقُ على منهجِهم أنه حيثما وُجِدَ الشَّرْعُ فثَمَّ مصلحة العباد}، فانتَبِهْ إلى هذا الكلام الذي يَعْلُوه نورُ العِلم، وكيف نبَّه رحمه الله إلى مَكمَنِ الخطورة في هذا الأصل العظيم مِن أصول الشريعة، حيث يَسهُل لكُلِّ مَن أرادَ أن يُخَلِّطَ على الناس دِينَهم، أو أرادَ مُمالَأةَ الظالمين أن يَتَلَبَّسَ في مَسْعاه ويَتَسَتَّرَ حَوْل مصالح مزعومة، فَتُغيَّب الشريعةُ ويُلَبَّس على الناس الحَقُّ بالباطل باسم المصلحة، ويَضِيع الدِّينُ وتَنْخَرِم أُصُولُه تحت دعاوى الحفاظ عليها، فلا عَجَب أن انْتَصبَ جهابذةُ عِلْمِ الأصول للضبط والتقعيد لهذا الأصل العظيم ليكون سائرًا في رِكابِ الشريعة مُتَضافِرًا لإقامَتِها، لكي لا يَتْرُكوا لكُلِّ دَعِيٍّ لِلعِلْمِ أن يَخْبِطَ به خَبْطَ عَشْوَاءَ بين مَصالِحَ مُتَوَهَّمةٍ أو مَظنونةٍ يَبِتَغِي تَحصِيلَها على حِسابِ التَّفْرِيطِ في أُصولِ الشَّرِيعةِ ومُحْكَماتِها. انتهى.

 

وقالَ الشيخُ أبو بصير الطرطوسي في مقالة له بعنوان (كَلِمةٌ حَوْلَ مُراجَعاتِ الشَّيخِ "سَيِّد إمام") في هذا الرابط: كَثِيرٌ مِن أهلِ الأهواءِ والبِدَعِ قد تَسَلَّطوا على هذه القاعِدةِ الشَّرعِيَّةِ (جَلبُ المَصالِحِ ودَفعُ المَفاسِدِ)، ووَجَدوا فيها المَنفَذَ السَّهلَ لِتَمرِيرِ أهوائهم وضَلالاتِهم ومَآرِبِهم، حيث تَراهُمْ يَرُدُّون تَقدِيرَ المَصالِحِ والمَفاسِدِ إلى عُقولِهم وأهوائهم بَعِيدًا عنِ النَّصِّ الشَّرعِيِّ وتَقدِيراتِ الشَّرِيعةِ لِلمَصالِحِ والمَفاسِدِ، ولو سَألْتَهم لَقالوا لك مِن فَورِهم {غَرَضُنا جَلبُ المَصالِحِ ودَفعُ المَفاسِدِ، وانتِقاءُ أقَلِّ الضَّرَرَين، ودَفعُ أكبَرِهما ضَرَرًا}، وبِشَيءٍ مِنَ التَّحَرِّي، وعندما تَرُدُّ تَقدِيراتِهم إلى النُّصوصِ الشَّرعِيَّةِ، تَجِدُ أنَّهم قَدَّموا الضَّرَرَ الأكبَرَ على الضَّرَرِ الأصغَرِ، وجَلَبوا المَفاسِدَ، ودَفَعوا المَصالِحَ الشَّرعِيَّةَ المُعتَبَرةَ. انتهى.

 

(ب)بعضُ أهل العلم يَرَى أنه لا يَصِحُّ قَبُولُ هذه القاعدة بالصيغة التي هي عليها: فَفي فتوى صَوْتِيَّةٍ مُفَرَّغةٍ للشيخِ الألباني على هذا الرابط، قالَ الشيخُ: ما أظُنُّ يُتَّخَذُ مِن هذه الأمثلة القليلة قاعدة نَطْرِدُها، فنُبِيح ما كان مُحرَّما لِغَيرِه للحاجة وليس للضرورة، أنا قَرَأْتُ هذا الكلامَ لابن القيم مِن زَمان، لكن هذا يَفتَحُ بابا مِن استحلالٍ للمُحرَّمات لِأدْنَى حاجَةٍ تُدَّعَى، فما أعتقد إلا إبقاء القاعدة على عُمُومِها، وهو عَدَمُ التَّفرِيق بين ما كان مُحَرَّما لذاته وما كان مُحَرَّما لِغَيره، فإذا جاء نَصٌّ يُبيحُ ما كان مُحَرَّما لغيره وَقَفْنا عندَه. فَقِيلَ للشيخِ: لكن الذي فاتَ ابنُ القيم رحمه الله، أنه لم يَذْكُر كيف نَعرِف أن هذا حُرِّم لذاته أو حُرِّم سَدا للذريعة. فقال الشيخ: هو هون يَأتي فَتْحُ البابِ. انتهى. قُلْتُ: معنى كلام الشيخ أنه يَرَى أن تُستبدَل الصِّيغَةُ (ما حُرِّم لذاته يُباح للضرورة، وما حُرِّم سدًّا للذريعة يُباح للحاجة أو المصلحة الراجحة) إلى مثل الصِّيغَةِ (ما حُرِّمَ لا يُباحُ إلا للضرورة).

 

ويَقولُ الشيخُ خالدٌ المشيقح (الأستاذ بقسم الفقه بكلية الشريعة بجامعة القصيم) في (العقد الثمين في شرح منظومة الشيخ ابن عثيمين): ويَظهَرُ لي أن تَقسيمَ المُحرَّم إلى تَحريمِ وسائل وتَحريمِ مقاصِد فيه نَظَرٌ، وأن ما وَرَدَ الدليلُ على تَحريمِه فإنه لا يُباحُ إلا لضرورة، إلا لِدَلِيلٍ يَدُلُّ على خِلاف ذلك. انتهى. قلت: معنى كلام الشيخ أنه يَرَى -كما يرى الشيخ الألباني- أن تُستبدَلَ الصِّيغَةُ (ما حُرِّم لذاته يُباح للضرورة، وما حُرِّم سدًّا للذريعة يُباح للحاجة أو المصلحة الراجحة) إلى مثل الصِّيغَةِ (ما حُرِّمَ لا يُباحُ إلا للضرورة).

 

(ت)مِن ضوابط هذه القاعدة ما يَمْنَعُ مِن إعْمالها في مسألة الصلاة في مسجد فيه قبر: يقول الشيخ قطب الريسوني: قال شيخ الإسلام ابن تيمية "وهذا أصْلٌ لِأحْمَدَ وغيرِه في أنَّ ما كان مِن باب سَدِّ الذريعة، إنما يُنهَى عنه إذا لم يُحْتَج إليه، وأما مع الحاجة للمصلحة التي لا تُحصَّل إلا به فلا يُنهَى عنه". انتهى من كتاب (قاعدة ما حُرِّم سدًّا للذريعة أُبيح للمصلحة الراجحة، دراسة تأصيلية تطبيقية).

 

قلتُ: فإذن يُشترطُ لإعمال القاعدة أن لا يُمكِن تحصيلُ المصلحة إلا بارتكاب المُحرَّم، وأما إن كان بالإمكان تحصيل المصلحة فلا يَصِحُّ إعمالُها.

 

وهذا الضابط غير موجود في مسألة الصلاة في مسجد فيه قبر طالما كان بإمكانك الصلاة في غيره، وهذا واضح.

 

وهذا الضابط غير موجود أيضا في مسألة الصلاة في المسجد النبوي حال وجود ثلاثة قبور بداخله، لأن المصلحة المندوبة (والتي هي أن الصلاة الواحدة بألف صلاة) غايَتُها هي تحصيلُ أَجْر كبير على عَمَل يَسِير، وهناك في الشريعة الكثير مِن الأعمال اليسيرة الجالبة لأجور كبيرة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، ما جاء في صحيح مسلم وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض}، وما رواه أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي -وكذا صححه الألباني في الصحيحة، وصححه أيضا مُحقِّقُو المُسنَد- عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم {أن نوحًا قال لابنه عند موته (آمُرُكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالأَرْضِينَ السَّبْعَ لَوْ وُضِعَتْ فِي كِفَّةٍ، وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فِي كِفَّةٍ، رَجَحَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَلَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالأَرْضِينَ السَّبْعَ كُنَّ حَلْقَةً مُبْهَمَةً، قَصَمَتْهُنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)}، وما رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {ألا أعلمك كلمة هي كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله}، وما جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {لَأنْ أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عليه الشمس}، وما رواه البخاري ومسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ، إِلَّا رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْهُ}، وما رواه البخاري ومسلم -واللفظ له- عن أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال {مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، عَشْرَ مِرَارٍ، كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ}، وما رواه الترمذي من حديث جابر رضي الله عنه وصححه الألباني، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ، غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الجَنَّةِ}.

 

قلت: وهناك ضابط آخر يَمْنَعُ مِن إعْمال القاعدة في مسألة الصلاة في مسجد فيه قبر، فيقول الشيخ قطب الريسوني: ولمَّا كان مقصودُ الشرع فيما شَرَّعَ جَلْبَ المصلحة ودَرْء المَفسدة، فإن محتوى قاعدة (ما حُرِّم سدا للذريعة أُبِيح للمصلحة الراجحة) لا يَشُذُّ عن هذا المقصود، بل هو دائرٌ في فَلَكِه، وجارٍ على مُقتضاه، ذلك أن إباحة المحرَّم تحريم الوسائل رَعْيًا للمصلحة الراجحة، لا تستقيم إلا بالترجيح بين المصلحة والمَفسدة المتزاحمتين، جَلْبًا لأقوى المصلحتين، ودَفْعًا لأعظم المَفسدتَين، وهذا دَأْبُ الشارِع وأَصْلُه المستمر... ثم يقول: وإنما تَرْجَح المصلحةُ في ميزان الشرع باجتماع وَصْفَين؛ أوَّلهما المحافظةُ على مقصود الشارِع، فكُلُّ مصلحةٍ تُفضِي إلى تَفْوِيتِ المقاصد، وتعطيلِ المنافع، مُهدرةٌ مُلْغاةٌ، بل هي مَفسدة عند التحقيق؛ والثاني السلامةُ مِن المعارضة، فلَوْ زاحَمَتْها مَفسدةٌ مُساوِيَةٌ أو راجحةٌ أُهْدِرَتْ في ميزان الشرعِ، لأن عِنايَتَه بدَرْءِ المَفاسد آكِد مِن عِنايَته بجَلْبِ المصالح"... ثم يقول: فالقاعدة إذَنْ مِن قواعدِ فِقْهِ المُوازَناتِ، لأنَّ مَبْناها على إعمالِ النَّظَرِ العَقْلِيّ في التغليبِ بين المصالحِ والمفاسدِ المُتَزاحِمةِ، وهو نَظَرٌ لا يَستوفِي مقصودَه إلا بالتَّهَدِّي ببصائرِ الشرعِ، ومَعاني الفطرةِ السليمةِ، وأَبْعادِ الواقعِ الذي يَعِجُّ بالمُتعارِضاتِ والمُتَناقِضاتِ، وهو المَحَكُّ الحقيقيُّ للتطبيق، والمُعترَكُ الواسعُ للاجتهاد. انتهى من كتاب (قاعدة ما حُرِّم سدًّا للذريعة أُبيح للمصلحة الراجحة، دراسة تأصيلية تطبيقية).

 

قلت: فإذن يُشترَطُ لإعمال القاعدة أن تكون المصلحةُ أكبرَ مِنَ المَفسدةِ.

 

وهذا الضابطُ غيرُ موجودٍ في مسألة الصلاة في مسجد فيه قبر (داخلَ بَلَدٍ لا يوجد به مساجدُ خاليةٌ مِن القُبور)، لأنه لمَّا كان اتِّخاذُ القُبور مساجد ذَرِيعَةً إلى الشِّرْكِ، فمعنى ذلك أن المَفسدةَ متعلِّقةٌ بأعلى مقاصد الشريعة، وهو حِفْظ الدين (مِن جانب الوجود ومِن جانب العَدَمِ)، فحِفْظُ الدين (مِن جانب الوجود ومِن جانب العَدَمِ) هو أَوَّلُ وأَهَمُّ الضروريات الخَمْس بالإجماع، ويَلِيه في رُتَبِ الضروريات حِفْظُ النفسِ ثم العَقْلِ ثم النَّسْلِ ثم المالِ، ولا يَصِحُّ بالإجماع أن يُقدَّمَ على حِفْظ الدين (مِن جانب الوجود ومِن جانب العَدَمِ) شيءٌ؛ ولذلك يقول الشيخ قطب الريسوني في كتاب (قاعدة ما حُرِّم سدًّا للذريعة أُبيح للمصلحة الراجحة، دراسة تأصيلية تطبيقية) {مصلحة الحفاظ على العقيدة أَوْلَى بالتقديم على غيرها مِن المصالح عند التعارُض والتزاحُم}؛ ويقول الشيخ هاني بن عبدالله الجبير (المدرس بجامعة أم القرى) في هذا الرابط {الشرع جاءَ بتقديم الدعوة إلى تصحيح الاعتقاد قَبْلَ تَعَلُّمِ أَحْكام العبادات، فَدَلَّ على أن العناية بتقرير مسائل العقيدة أَهَمُّ مِن العناية بتقرير مسائل الشريعة}... ثم يقول -أي الشيخ هاني بن عبدالله الجبير- {وأعلى المقاصدِ هو حفظُ الدِّينِ (مِن جانب الوجود ومِن جانب العَدَمِ)}؛ ويَقولُ الشيخُ سعد فياض (عضو المكتب الدعوي والعلمي بالجبهة السلفية) في هذا الرابط {فالضروريات مُقدَّمة على الحاجيات عند تعارُضِهما، والحاجياتُ مُقدَّمةٌ على التحسينياتِ عند تَعارُضِهما، فإن تساوَتِ الرُّتَبُ كأنْ يكونَ كلاهما مِن الضرورياتِ، فيُقدَّم الضروريُّ المقصودُ لحفظِ الدِّينِ على بَقِيَّةِ الضرورياتِ الأربع الأخرى، ثم يُقدَّمُ المُتَعَلِّقُ بحِفْظِ النفسِ ثم العقلِ ثم النسلِ ثم المالِ}. انتهى. قلتُ: فإن قال قائلٌ {أداءُ الفريضة في المسجد مصلحةٌ واجبةٌ مُتحقِّقةٌ في حين مَفسدة الوُقُوعِ في الشِّركِ ظنيَّةٌ}، قلتُ كلامُك صحيحٌ، وما تَقُولُه هو وَجْهٌ لتقديم المصلحة على المَفسدةِ هنا، لكنك تَغافَلْتَ عن تَعَلُّق المَفسدة بِأَوَّلِ مقاصدِ الشريعةِ، والذي هو حفظُ الدِّينِ (مِن جانب الوجود ومِن جانب العَدَمِ)، في حين أن أداء الفريضة في المسجد لا يَنْدَرِجُ تحت أَيٍّ مِن الضروريات الخَمْس؛ وَمِنَ الْمُنَاسِبِ هنا أنْ أَذْكُرَ كلامًا لابْنِ تَيْمِيَّةَ في (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم)، حيث قالَ الشيخُ {فإنَّ استقراءَ الشريعةِ في مواردِها ومصادرِها، دَالٌّ على أنَّ ما أفْضَى إلى الكُفْرِ غالِبًا حَرُمَ، وما أفْضَى إليه على وَجْهٍ خَفِيٍّ حَرُمَ}؛ وَمِنَ الْمُنَاسِبِ هنا أيضًا أنْ أَذْكُرَ كلامًا لابْنِ كثير في (البداية والنهاية)، حيث قالَ الشيخُ {وَقَدِ اعْتَزَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ النَّاسَ، وَالْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ، وَهُمْ أَئِمَّةٌ كِبَارٌ، كَأَبِي ذَرٍّ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَسَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، حَتَّى اعْتَزَلُوا مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي الصَّلَاةُ فِيهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ؛ وَاعْتَزَلَ مَالِكٌ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَعْرِفَتِهِ الْحَدِيثَ فِي فَضْلِ الصَّلَاةِ فِيهِ، فَكَانَ لَا يَشْهَدُ جُمُعَةً وَلَا جَمَاعَةً، وَكَانَ إِذَا لِيمَ فِي ذَلِكَ يَقُولُ (مَا كَلُّ مَا يُعْلَمُ يُقَالُ)، وَقِصَّتُهُ مَعْرُوفَةٌ؛ وَكَذَلِكَ اعْتَزَلَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَخَلْقٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ، لِمَا شَاهَدُوهُ مِنَ الظُّلْمِ وَالشُّرُورِ وَالْفِتَنِ خَوْفًا عَلَى إِيمَانِهِمْ أَنْ يُسْلَبَ مِنْهُمْ؛ وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ [ت388هـ] فِي كِتَابِ (الْعُزْلَةِ) وَكَذَلِكَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا [في كتابِه (الْعُزْلَةُ والانْفِرَادُ)، وقد تُوُفِّيَ عامَ 281هـ] قَبْلَهُ مِنْ هَذَا جَانِبًا كَبِيرًا}؛ وَمِنَ الْمُنَاسِبِ هنا أيضًا أنْ أَذْكُرَ كلامًا لابْنِ عَبْدِالْبَرِّ في (التمهيد)، حيث قالَ الشيخُ {قَالَ أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ يَقُولُ (لَمَّا اتَّخَذَ عُرْوَةُ قَصْرَهُ [يَقَعُ قَصْرُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ -الْمُتَوَفَّى عامَ 94هـ- عَلَى ضِفَافِ وَادِي الْعَقِيقِ، ويَبعُدُ عنِ المَسجِدِ النَّبَوِيِّ حَوَالَيْ ثَلَاثَةِ آلَافِ وَخَمْسِمِائَةِ مِتْرٍ] بِالْعَقِيقِ عُوتِبَ فِي ذَلِكَ وقِيلَ له "جَفَوْتَ عَنْ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، فَقَالَ "إِنِّي رَأَيْتُ مَسَاجِدَكُمْ لَاهِيَةً، وَأَسْوَاقَكُمْ لَاغِيَةً، وَالْفَاحِشَةَ فِي فِجَاجِكُمْ عَالِيَةً، فَكَانَ فِيمَا هُنَالِكَ عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ عَافِيَةٌ")}؛ كما أنَّه مِنَ الْمُنَاسِبِ هنا أيضًا أنْ أَذْكُرَ فتوى للشيخِ ابنِ عثيمين يَرْفُضُ فيها إعمالَ قاعدة (ما حُرِّم سدًّا للذريعة يُباح للحاجة أو المصلحة الراجحة) في مسألة الصلاة في مسجد فيه قبر، حيث سُئِل الشيخُ في شرحه لمنظومة القواعد والأصول: وهذا يقول {فضيلة الشيخ، ما صحة القاعدة التي تَنُصُّ على أن النَّهْيَ إذا كان لسَدِّ الذريعة أُبِيحَ للمصلحة الراجحة، وهل مِن تطبيقات هذه القاعدة الصلاةُ في مسجد فيه قبر لإدراك الجماعة، حيث لم يَجِدْ إلا هذا المسجد في طَرِيقِه؟}. فكان ممَّا أجابَ به الشيخ: إذا مَرَّ الإنسانُ بمسجدٍ فيه قبر، فهلْ يُصَلِّي عليه عند الحاجة؟ نقول: إنه -في الواقع- لا حاجة إلى هذا المسجد، والمسجدُ المَبْنِيُّ على قبرٍ لا تَصِحُّ الصلاةُ فيه، لأنه مُحَرَّمٌ، وليس هناك حاجَةٌ إلى الصلاةِ فيه، إذ إن الإنسانَ يُمْكِنُ أن يُصَلِّي في أيِّ مكان مِن الأرض، لقول النبي صلى الله عليه وسلم "جُعِلَتْ لي الأرضُ مسجدا". انتهى.

 

وهذا الضابِطُ غير موجود أيضا في مسألة الصلاة في المسجد النبوي حال وجود ثلاثة قبور بداخله، وذلك إذا كُنَّا اتَّفَقْنا على أنَّ الصلاة في مسجد فيه قبر (داخل بلد لا يوجد به مساجد خالية مِنَ القُبور) لا تجوز، لأننا إذا كُنَّا اتَّفَقْنا أنه لا يَصِحُّ تَقديمُ المصلحة الواجبة على ما هو ذريعة إلى الوقوع في الشرك، فمِن بابٍ أَوْلَى أن نَتَّفِقَ على أن المصلحة المندوبة (والتي هي أن الصلاة الواحدة بألف صلاة) لا يَصِحُّ تقديمُها على ما هو ذريعة إلى الوقوع في الشرك.

 

وختاما لهذا الضابط، أقول: قال الشيخ وليد السعيدان: لقد تَقرَّرَ في الشرع أن أعظمَ المَنْهِيَّات في الدين هو الشركُ الأكبر، قال تعالى "إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ، وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا"... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ وليد السعيدان-: وقد سَدَّ اللهُ تعالى كلَّ ذريعة تُفْضِي إلى الشرك الأكبر أَحْكَمَ سَدٍّ، ومَنَعَ كلَّ طَرِيقٍ يُوَصِّلُ إليه، ونحن قَرَّرْنا في ذلك قاعدة مهمة غاية الأهمية تقول "كل ذريعة تُفْضِي إلى الشرك الأكبر فالواجب سَدُّها"... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ وليد السعيدان-: والمُهِمُّ أن تَحْفَظَ هذه القاعدةَ في باب وسائل الشرك الأكبر، فأيُّ وسيلةٍ تُوَصِّلُ إلى الوقوع في الشرك الأكبر فهي مُحرَّمةٌ، بل وبعضُ أهْلِ العِلْمِ رحمهم الله تعالى قد أَطْلَقَ عليها (الشرك الأصغر) فقال "وسائلُ الشرك الأكبر شركٌ أصغر"، وليس هذا ببعيد، فالواجب على المَرْءِ الناصح لنَفْسه أن يَبتعِدَ عن الشرك كله، ويُجانِبه المُجانَبةَ الكاملة، ويَحْذَر مِنْه مَقصَدا ووسيلة... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ وليد السعيدان-: فَفِتَن القبور مِن أعظم الفِتَنِ التي أَوْجَبَتْ وُقُوعَ الشرك في الأُمَّة، ولأهميتها فقد أفْرَدَها كثيرٌ مِن أهل العلم رحمهم الله تعالى بالتأليف والبيان. انتهى من (الحصون المنيعة). وقال الشيخ ابن عثيمين في (مجموع فتاوى ورسائل العثيمين): فتنة القبور في المساجد عظيمة جِدًّا، فربما يدعو إلى عبادة هذا المقبور ولو بعد زَمَنٍ بَعيدٍ، وربما يدعو إلى الغُلُوِّ فيه وإلى التَّبَرُّك به، وهذا خَطَرٌ عظيمٌ على المسلمين. انتهى. وقال الشيخ حسام الدين عفانة: ولا شك أن حُرْمَةَ دَمِ المُسلِمِ مُقدَّمةٌ على حُرْمَةِ الكعبةِ المشرفةِ... ثم قال -أي الشيخ حسام الدين عفانة-: وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول {ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك والذي نفس محمد بيده لَحُرْمَة المؤمن أعظمُ عند الله حُرْمَةً مِنك ماله ودمه وأن نَظُنَّ به إلا خيرًا}، رواه ابْنُ مَاجَهْ وصَحَّحه العلامةُ الألباني في صحيح الترغيب... ثم قال -أي الشيخ حسام الدين عفانة-: ونَظَرَ ابنُ عمر رضي الله عنه يومًا إلى البيت أو إلى الكعبة فقال {ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حُرْمَةً عند الله منك}، رواه الترمذي. انتهى مِن (فتاوى يسألونك). قلتُ: فإذا كانت الصلاةُ عند الكعبة بمائة ألف صلاة، فكيف تكون حُرْمَةُ الكعبة!!!، ومع ذلك فهي أقلُّ حُرمَة مِن حُرمَة دَمِ مُسلِمٍ، أَرَأَيْتَ كيف حافَظَت الشريعةُ على دَمِ المُسلِمِ المُندَرِجِ تحت ضرورة حِفْظِ النَّفسِ التي هي في الرُّتبةِ الثانية بعد ضرورة حِفْظِ الدين (من جانب الوجود ومن جانب العدم)، واعلم رحمك الله أنَّ بَيْنَ ضرورة حفظ الدين (من جانب الوجود ومن جانب العدم) وبَيْنَ ضرورة حفظ النفس والضروريات الثلاث الأخرى بَوْنا شاسِعا جدا، ولذلك جاءَ في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ}، ومِنَ المعلومِ أنَّ غزوَ الكفارِ شُرِّعَ لِأجْلِ تَعبيدِ الناسِ للهِ وحده، وإخراجِهم مِن عبوديةِ العبادِ إلى عبوديةِ ربِّ العبادِ، قال تعالى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}، قال ابنُ كثير في تفسيره {أَمَرَ تعالى بقتال الكفار، (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي شِرك، قاله ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وقتادة والربيع ومقاتل بن حيان والسدي وزيد بن أسلم، (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) أي يكون دِينُ الله هو الظاهر العالي على سائر الأديان}؛ وبذلك تَكُونُ -رحمك الله- عَرَفْتَ كيف اهتَمَّت الشريعةُ بضرورةِ حِفْظِ الدِّينِ (من جانب الوجود ومن جانب العدم)، وجَعَلَتْه أَوَّلَ مَقاصِدها، ووَضَعَتْه في رُتْبةٍ أعلى كثيرا جدا مِن باقي الضروريات الأربع الأخرى التي تَلِيه. قلتُ أيضا: رَوَى أحمد عَنْ عَبْدِاللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ {إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَمَنْ يَتَّخِذُ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ}، حَسَّنَه شُعَيب الأرناؤوط في تحقيق المُسْنَد؛ ونَقَل الشيخُ الألباني في كتابه (تحذير الساجد) عن بعض الحنابلة قولَه {إجماعًا فإنَّ أعظمَ المُحرَّماتِ وأسبابِ الشركِ الصلاةُ عندها [يعني عند القبور] واتِّخاذُها مساجد أو بناؤها عليها}؛ وقال الشيخ صالح آل الشيخ في كفاية المستزيد بشرح كتاب التوحيد {ومَنِ اِتَّخذَ قبورَ الأنبياء مساجدَ؟ [إنَّهم] شرارُ الخَلْقِ عند اللهِ مِنَ اليهودِ والنصارى الذِين لَعَنَهُمُ النبيُّ عليه الصلاة والسلام، فقال (لَعْنَة اللّهُ على الْيَهُودَ وَالنّصَارَى)، واللعنةُ هي الطَّرْدُ والإبعادُ مِن رحمة الله، وذلك يَدُلُّ على أنهم فَعَلوا كبيرةً مِن كبائر الذنوب، وهذا كذلك، فإن البناء على القبور واتِّخاذ قبور الأنبياء مساجد، هذا مِن وسائل الشرك وهو كبيرةٌ مِن الكبائر}؛ ولَمَّا قد سَبَق بَيانُ أنَّ تَرْكَ المُحرَّمِ مُقدَّمٌ على فِعْلِ المندوب، فَهُنا سؤالٌ يَنْبَغِي أن يُطْرَحَ، وهو كيف يُقدَّمُ (في مسألة الصلاة في المسجد النبوي) فِعْلُ المصلحة المندوبة (والتي هي أن الصلاة الواحدة بألف صلاة) على تَرْكِ كبيرةٍ مِنَ الكبائر وُصِفَتْ بأنها أعظمُ المُحرَّماتِ وأعظمُ أسبابِ الشركِ، ولُعِنَ صاحبُها ووُصِفَ بأنه مِن شرارِ الخلقِ!!!.

 

(11)بَقِيَ هنا أن نسألَ الشيخَ محمد حسن عبدالغفار، ما هو حُكْمُ الصلاة في المسجد النبوي لمن يَرَى صِحَّةَ مذهب الشيخين الألباني وخالِدٍ المشيقح (الأستاذ بقسم الفقه بكلية الشريعة بجامعة القصيم) مِن أنَّ (ما حُرِّم لا يُباح إلا للضرورة)، ولا يَرَى ما يراه هو مِن أن (ما حُرِّم سدًّا للذريعة يُباحُ للحاجة أو المصلحة الراجحة)؛ وما هو حُكْمُ الصلاة في المسجد النبوي لمَن يَرَى صِحَّةَ مذهب الشيوخ ابن باز وابن عثيمين وصالح آل الشيخ ومُقبِل الوادِعي وعبدالكريم الخضير وربيع المدخلي مِن أن الصلاةَ في المساجد التي بداخلها قبور حرامٌ وباطلةٌ، ولا يَرَى ما يَراه هو مِن أن الصلاةَ حرامٌ وصحيحةٌ؛ وما هو حُكْمُ الصلاة في المسجد النبوي لمَن يَرَى صِحَّةَ مذهب الشيخ ابن عثيمين مِن أن ضوابط القاعدة التي نحن بصددها تَمْنَعُ إعمالَها في مسألة الصلاة في مسجد فيه قبر، ولا يرى ما يراه هو مِن أن ضوابط هذه القاعدة لا تَمْنَعُ إعمالَها في مسألة الصلاة في مسجد فيه قبر؟.

 

 

المسألة الثانية والثلاثون

 

زيد: ما هو العامُّ، وما المُرادُ بِقَولِهم "مِعْيَارُ الْعُمُومِ صِحَّةُ الاِسْتِثْنَاءِ"، وما هو التَّخصِيصُ، وما هي الفُروقُ بَيْنَ التَّخصِيصِ والنَّسْخِ؟.

 

عمرو: العامُّ هو اللَّفْظُ المُستَغرِقُ لِجَمِيعِ أفرادِه، بحَسَب وَضْعٍ واحِدٍ، دُفْعَةً وَاحِدَةً مِن غير حَصْرٍ؛ ومن أمثلته قوله تعالى "كُلُّ نفس ذائقة الموت"، وقوله تعالى "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا"، وقوله تعالى "واللذان يأتيانها منكم فآذوهما"، وقوله تعالى "قد أفلح المؤمنون"، وقوله تعالى"وأحل الله البيع"، وقوله تعالى"إن الإنسان لفي خسر"، وقوله تعالى"يوصيكم الله في أولادكم"، وقولك "لا رَجُلَ في الدار"؛ والمقصود مِن عبارة "وَضْعٍ واحِدٍ" في التعريف هو إخراج اللفظ المشترَك كالعَيْن والقُرْء، فإن ذلك لا يُسمَّى عامًّا، فلفظ العَيْن وَضَعَته العربُ لعضو الإبصار ووَضَعَته ليَنْبُوعُ الماء ووَضَعَته للجاسُوس، ولفظ القُرْء وَضَعَته العربُ لِلْحَيْضِ ووضعته للطُّهْر، فيجب أن يكون اللفظ عند العرب موضوعًا لمَعنًى واحدٍ كي يكون عامًّا؛ والمراد بعبارة "دُفْعَةً وَاحِدَةً" الموجودة في التعريف، هو مَرَّة واحدة لا على سبيل التَّناوُب، والمقصود مِن هذه العبارة هو إخراج "المُطْلَق" فالمُطْلَق لفظٌ يَستغرِقُ جميعَ أفراده، ولكن على سبيل التَّناوُب وليس دُفْعَةً وَاحِدَةً، فمثلا قوله تعالى "فتحرير رقبة" فكلمة رقبة هنا لفظٌ مُطْلَقٌ يَشمَلُ جنسَ الرقاب، فيَدخُل فيه الرجالُ والنساءُ والمؤمنون والكفار والصِّغار والكِبار وعُثمان وسالِم وبَكْر وغيرهم، لكن شُمُوله شُمُول بَدَلِيّ، بمعنى أن المُطْلَق في حال تنزيله في الواقع على أفراده التي يَحتمِلُها الإطلاقُ سنجده يَشْمَلُ فردا واحدا هو بَدَلٌ عن بَقِيَّةِ الأفراد الأخرى، وأمَّا عُمُومُ العامِّ فهو شُمُولِيٌّ، أي أنه في حال تنزيله على أفراده يَشْمَلُ كُلَّ الأفراد عثمان وسالم وبَكْر وغيرهم، ولذلك يقول الإمامُ الشوكاني في إرشاد الفحول "اِعْلَمْ أن العامَّ عُمُومُه شُمُولِيٌّ، وعُمُومُ المُطْلَقِ بَدَلِيٌّ، وبهذا يَصِحُّ الفَرْقُ بينهما"؛ والمقصود مِن عبارة "مِن غير حَصْرٍ" في التعريف هو إخراج اسم العَدَدِ لأنه يدُلُّ على جَمْعٍ مَحصورٍ، فحينئذٍ يكون منافِيًا لمَعْنَى العُمُومِ، مِثْل عشرة، ومائة، وألف، ورَجُلَيْن، فإنها وإن استغرَقَتْ جميعَ أفرادها لكن بِحَصْرٍ، فالعامُّ يُشترَطُ فيه أن لا يكون العَدَدُ مُنتَهِيا، فإذا قال قائلٌ "أكرِمْ عشرةً مِن الطلبة" فهذا لا يكون عامًّا لأنه محصورٌ بعددٍ مُعَيَّنٍ لا يَشْمَلُ الجميعَ، فالحصرُ يُنافِي العُمُومَ.

 

وأما المُراد مِن قولهم "مِعْيَارُ الْعُمُومِ صِحَّةُ الاِسْتِثْنَاءِ" فهو أنه يُشترَطُ في العامِّ قُبُولُه للاستثناءِ المُتَّصِلِ، فكل ما لا يجوز الاستثناءُ منه استثناءً مُتَّصِلا فليس بعامٍّ، فمثلا قولك "لا رَجُلَ في الدار إلا زيدًا" لو لم يَصِحّ إدخالُ عبارة إلا زيدًا فيه، لَمَا دَلَّ لفْظُ رَجُلَ على العموم؛ وكذلك فإن الاستثناء في قوله تعالى "إن الإنسان لفي خُسْر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات" دَلَّنا على أن كلمة الإنسان عامَّةٌ (وهي اسم جنس حُلِّيَ بالأَلِفِ واللامِ)، إِذْ لو لم تَكُن عامَّةً لَمَا جاز الاستثناءُ منها، أو بالأَحْرَى لولا الاستثناء لكان كُلُّ إنسانٍ في خُسْر، سواء أكان مؤمنًا أم كافرًا، وهذا هو العُمُوم، ولذلك جاءُ الاستثناءُ لإخراج المؤمن مِن الخسران.

 

وأما التخصيص فهو قَصْرُ العامِّ على بعض ما يَتناولُه بدَلِيلٍ يَدُلُّ على ذلك، سواء أكان هذا الدليلُ مُتَّصِلا بالنَّصِّ (أي أنه جزءٌ مِن النَّصِّ المُشتمِل على العامِّ)، أو مُنفصِلا عنه؛ ومثال ما خُصِّصَ بدليلٍ مُتَّصِلٍ قوله تعالى "إن الإنسان لفي خُسْر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات"، ومثال ما خُصِّصَ بدليلٍ مُنفصِلٍ قوله سبحانه "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا" فقد خَصَّصه قولُه صلى الله عليه وسلم "لا قطع إلا في ربع دينار".

 

وأما الفروق بين التخصيص والنسخ، فهي كما يلي:

 

(1)النسخُ انتهاءُ حُكْمٍ؛ بخلاف التخصيص فإنه بيانُ المراد باللفظ العامِّ (إذا كان مقترنا بالعامِّ أو مُتقدِّما عليه)، أو انتهاءُ حُكْمٍ لبعض أفراد العامِّ (إذا كان مُتأخِّرا عنه).

 

(2)المُخَصِّصُ يجوز أن يكون مقترنا بالعامِّ أو مُتقدِّما عليه (وهنا يُوصَفُ العامُّ بأنه عامٌّ أُرِيدَ به الخصوصُ)، أو مُتأخِّرا عنه (وهنا يُوصَفُ العامُّ بأنه عامٌّ مخصوصٌ ويُوصَفُ التخصيصُ بأنه نَسْخٌ جُزئيٌّ)؛ وأمَّا الناسِخُ فلا يجوز أن يكون مُتقدِّما على المنسوخ، ولا مُقترِنا به، بل يجب أن يَتأخَّرَ عنه. قلت: العامُّ الذي لم يُخَصَّص ولم يُرَدْ به الخصوصُ يُوصَف بأنه عامٌّ محفوظٌ.

 

(3)إن النَّسْخَ لا يكون إلا بالكتاب والسنة بِخِلَافِ التخصيصِ، فإنه يكون بهما وبدليل الحِسِّ، فقول الله سبحانه "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا" قد خَصَّصه قولُه صلى الله عليه وسلم "لا قطع إلا في ربع دينار"، وهذا قوله سبحانه "تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا" قد خَصَّصه ما شَهِدَ به الحِسُّ مِن سَلَامَةِ السماءِ والأرضِ وعَدَمِ تَدْميرِ الرِّيح لهما.

 

(4)إن النَّسخَ لا يَقَعُ في الأخبار، بِخِلَافِ التخصيصِ فإنه يكون في الأخبار وفي الأحكام.

 

(5)إن النسخ يُبطِل حُجِيَّةَ المنسوخِ، بِخِلَافِ التخصيصِ فإنه لا يُبطِلُ حُجِيَّةَ العامِّ في بقية أفراده التي لم تُخَصَّص.

 

 

المسألة الثالثة والثلاثون

 

زيد: كَيْفَ صَحَّحَ الشيخُ الألبانِيُّ الصَّلاةَ في المَسجِدِ النَّبَوِيِّ، مع كَوْنِه بِداخِلِه ثَلاثةُ قُبورٍ "قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وقَبْرَي صاحِبَيه أبِي بِكْرٍ وعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما"؟.

 

عمرو: الشيخ الألباني يرى أن الصلاة في المساجد التي بداخلها قُبورٌ مكروهةٌ كراهة تحريمية (أي أنها مُحرَّمة)، ولكنها صحيحة وليست باطلةً ما لم تُقصَد الصلاةُ فيها مِن أَجْلِ القبور والتبرُّك بها، كما أنه يرى انتفاء الكراهة في حال لم يَجِدِ المُصَلِّي مسجدا آخر (خاليا مِن القبور) يُصَلِّي فيه، ثم هو استثنى المسجد النبوي مِن عامَّةِ المساجد لفضيلة الصلاة به (والتي هي أن الصلاة الواحدة بألف صلاة)، وشَبَّهَ مسألةَ الصلاة في المسجد النبوي (حالَ كَوْنِه بداخله ثلاثة قبور) بمسألة صلاة النوافل ذوات الأسباب في أوقات النهي؛ ففي هذا الرابط على موقع الشيخ الألباني، سُئِلَ الشيخُ: السؤال هو أنها مكروهةٌ أم باطلةٌ [يعني الصلاة في المسجد الذي فيه قبر]؟. فَرَدَّ الشيخُ: باطلة لمَن يَقصِد الصلاةَ فيها. فَرَدَّ السائلُ: يَقصِد ولكن يُصَلِّي لله عز وجل؟. فَرَدَّ الشيخُ: مكروهة كراهة تحريم، والكراهة تنتفي إذا لم يكن عنده مسجد آخر لصلاة الجماعة. فَرَدَّ السائلُ: إذا ما في [يعني إذا لم يوجد مسجد آخر] تنتهي الكراهةُ أم الكراهةُ التحريميةُ؟. فَرَدَّ الشيخُ: كراهة تحريمية لمن يَتمكَّن مِن الصلاة في غير هذا المسجد ثم هو يُصَلِّي فيه، وإذا قَصَدَه فالصلاةُ باطلةٌ. انتهى... وقال الشيخ في (تحذير الساجد): إن للمصلِّي في المساجد المذكورة -يعني المساجد المبنية على القبور- حالتين، الأُولَى، أن يَقصِدَ الصلاةَ فيها مِن أجْلِ القبورِ والتبرُّكِ بها كما يَفعَلُه كثيرٌ مِن العامَّةِ وغيرُ قليلٍ مِن الخاصَّةِ، الثانية، أن يُصلِّي فيها اتِّفاقا لا قَصْدا للقبر، ففي الحالة الأُولى لا شَكّ في تحريم الصلاة فيها بل وبُطلانها، لأنه إذا نَهَى صلى الله عليه وسلم عن بناء المساجد على القبور ولَعَنَ مَن فَعَلَ ذلك فالنَّهْيُ عن قصْدِ الصلاة فيها أَوْلَى، والنَّهْيُ هنا يَقتضِي البُطلانَ كما سَبَقَ قريبا، وأما في الحالة الثانية فلا يَتَبَيَّن لي الحُكْمُ ببُطلانِ الصلاة فيها وإنما الكراهة [يعني الكراهة التحريمية] فقط... ثم قال -أي الشيخ الألباني-: واعلمْ أن كراهةَ الصلاة [يعني الكراهة التحريمية] في المساجد المَبْنِيَّة على القبور مُضْطَرِدَةٌ [هذه الكلمة مِن الأخطاء اللغوية الشائعة، والصحيح أن يُقال {مُطَّرِدَةٌ}] في كُلِّ حالٍ سواء كان القبرُ أمامه أو خلفه، يمينه أو يساره، فالصلاة فيها مكروهة [يعني الكراهة التحريمية] على كُلِّ حالٍ، ولكن الكراهة [يعني الكراهة التحريمية] تشتد إذا كانت الصلاة إلى القبر، لأنه في هذه الحالة ارتكبَ المصلِّي مخالفتين، الأُولى في الصلاة في هذه المساجد، والأخرى الصلاة إلى القبر وهي مَنْهِيٌّ عنها مطلقا -سواء كان المسجد أو غير المسجد- بالنَّصِّ الصحيحِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تَقدَّم... ثم قال -أي الشيخ الألباني-: ثم اعلم أن الحُكم السابق يَشْمَلُ كلَّ المساجد، كبيرها وصغيرها، قديمها وحديثها، لعموم الأدلة، فلا يُستثنَى مِن ذلك مسجدٌ فيه قبر إلا المسجد النبوي الشريف، لأن له فضيلةً خاصَّةً لا تُوجَدُ في شيء مِن المساجد على القبور، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام فإنه أفضل"، ولقوله صلى الله عليه وسلم أيضا "ما بين بَيْتِي ومنبري روضة مِن رياض الجنة"، ولغير ذلك من الفضائل، فلو قيل بكراهة الصلاة فيه [يعني الكراهة التحريمية] كان مَعْنَى ذلك تَسوِيتَه مع غيره مِن المساجد ورَفْعَ هذه الفضائل عنه... ثم قال -أي الشيخ الألباني-: والصلاة في المساجد المبنية على القبور مَنْهِيّ عنها مطلقا بخلاف مسجده صلى الله عليه وسلم، فإن الصلاة فيه بألف صلاة. انتهى باختصار... وفي فتوى صوتية مفرغة على موقع الشيخ في هذا الرابط يقول الشيخ: السؤال إذًا، هكذا يقولُ السائلُ، وحُقَّ له ذلك، إذًا الصلاة في المسجد النبوي لا تُشْرَع؟، هذا هو السؤالُ، وقلتُ أن الجوابَ على هذا السؤال مُبَسَّطٌ أيضا في ذاك الكتاب (تحذير الساجد)، وخُلاصةُ الجواب أن الصلاةَ في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع كون القبر فيه ليس كالصلاة في سائر المساجد المبنية على القبور، وذلك لأن للصلاة في مسجد الرسول عليه السلام مَزِيَّة لا توجد في كل مساجد الدنيا إلا مسجد مَكَّة، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام "صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة مِمَّا سواه مِن المساجد إلا المسجد الحرام"... ثم قال -أي الشيخ الألباني-: وكيف الجَمْع بين هذا وبين التحذير السابق، قد قَرَّبنا الجواب عن هذا السؤال في ذاك الكتاب، فَقُلْنا مَثَلُ الصلاة في المسجد النبوي مع وجود القبر فيه كمَثَلِ صلاة النوافل ذوات الأسباب في تلك الأوقات المَنْهِيّ عن الصلاة فيها. انتهى باختصار... وفي فتوى صوتية مفرغة على موقع الشيخ في هذا الرابط يقول الشيخ: وأنا حَديثَ عهدٍ بالمدينة المنورة، قد رَجَعْتُ منها مِن قَرِيب، عشرة أيام، وقد وجدتُ هناك بعضَ الشباب المسلم المتمسِّك بالسُّنَّة، يعني هو على النَّهْجِ السلفي، قال الله قال رسول الله، فكان يُشْكَل عليه الصلاةُ في المسجد النبوي، حتى قال هو وغيره لي بأنه لا يُصَلِّي في المسجد النبوي، وهو عايش في المدينة، لأنه يُرِيدُ أن يُطبِّقَ عليها عُمومَ الأحاديث في النَّهْيِ عن بناء المساجد على القبور، فأنا لَفَتُّ نَظَرَه أن هذا التطبيقَ خطأٌ، لأنه مَثَلُك أنت الذي تُطَبِّقُ الأحاديثَ العامَّةَ على المسجد النبوي لأن فيه قبر، كمَثَلِ مَن يُطبِّقُ الأحاديثَ العامَّةَ في النَّهْيِ عن الصلاة في أوقات النهي على النوافل ذوات الأسباب. انتهى بتصرف.

 

قلت: وهنا ملاحظات:

 

(1)لم يُوضِّح الشيخُ الألباني حُكمَ الصلاة في المسجد النبوي لمَن يَرى صِحَّةَ ما ذهبَ إليه الجمهورُ مِن تحريم صلاة النوافل ذات الأسباب في أوقات النَّهْي، ولا يَرَى ما يراه الشيخ مِن أنها غير مُحرَّمة.

 

فقد قال الشيخ سليمان بن محمد النجران في المفاضلة في العبادات: قال الجمهورُ في رَدِّهم على الشافعية في تَحيّةِ المسجد وقتَ النَّهْيِ، أن النَّهْيَ عن الصلاة للتحريم، بينما الأَمْرُ في تَحيَّة المسجدِ للنَّدْبِ، وتَرْكُ المُحرَّمِ مُقَدَّمٌ على فِعْلِ المندوبِ. انتهى.

 

وفي هذا الرابط على موقعِ الشيخِ عبدِالكريم الخضير (عضو هيئة كِبار العلماء بالديار السعودية، وعضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء)، قالَ الشيخُ: جاء النَّهْيُ عن صلاة النافلة في أوقاتٍ خمسة... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الخضير-: هذه الأوقات الخمسة، جمهور أهل العلم يَمنعون التَّنَفُّلَ فيها مطلقًا، حتى ذوات الأسباب، استدلالًا بهذه الأحاديث التي تَنْهَى عن الصلاة في هذه الأوقات، فغَلَّبُوا جانِبَ الحَظْرِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الخضير-: ومِثالُ ذوات الأسباب، تحيةُ المسجد، وركعتا الطواف، وركعتا الوضوء، وغيرها مِن الصلوات التي لها سَبَبٌ وليست مِن النوافل المطلقة... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الخضير-: الجمهور يرون المَنْعَ مطلقًا مِن ذوات الأسباب في هذه الأوقات الخمسة، ومِن بابٍ أَوْلَى النوافل المطلقة، تغليبًا لجانب الحَظْرِ والمَنْعِ... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الخضير-: جمهور أهل العلم يرون أن أحاديثَ النهي عن الصلوات في هذه الأوقات أَخَصُّ مِن فِعْل ذوات الأسباب في سائر الأوقات... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الخضير-: وعلى كل حالٍ هو قول جمهور أهل العلم، وأنه لا يُصلَّى شيءٌ مِن التطوعاتِ حتى ما له سَبَبٌ في هذه الأوقات. انتهى.

 

وفي هذا الرابط على موقع الشيخ سعد الخثلان، يقول الشيخ: فجمهور الفقهاء على أنه لا يجوز فِعْلُ ذوات الأسباب، وأن هذه أوقات النهي، الأحاديث فيها على عمومها، لا يُصلَّى فيها شيء إلا ما ذَكَرُوا مِن قَضاءِ الفرائض ونحوها. انتهى.

 

ويقول الشيخ خالدٌ المشيقح (الأستاذ بقسم الفقه بكلية الشريعة بجامعة القصيم) في (شرح زاد المستقنع): قول أكثر أهل العلم أن ذوات الأسباب لا تُشْرَعُ في أوقات النهي. انتهى.

 

وفي هذا الرابط على موقع الشيخ خالد المصلح، يقول الشيخُ: ولذلك اختلَفَ العلماءُ في صلاة تحية المسجد في أوقات النهي على قولين، الأول أنه لا يُصلَّي في وقت النَّهْيِ، لأنه وقت مَنهِيٌّ عن الصلاة فيه، فيَشمَلَ كُلَّ صلاةٍ، وهذا ما ذهبَ إليه جمهورُ أهلِ العلمِ مِن الحنفية والمالكية والحنابلة. انتهى.

 

وفي هذا الرابط على موقع الشيخ عبدالكريم الخضير قال الشيخ: إذا عرَفْنا هذا، فالأئمة الثلاثةُ أبو حنيفة ومالك وأحمد لا يَرون فِعْلَ شيء مِن النوافل في هذه الأوقات الخمسة، حتى ما له سَبَبٌ. انتهى.

 

(2)قول الشيخ الألباني {فلو قيل بكراهة الصلاة فيه [يعني الكراهة التحريمية] كان مَعْنَى ذلك تَسوِيتَه مع غيره مِن المساجد ورَفْعَ هذه الفضائل عنه}، يُعتَرَضُ عليه بأن القول {بِمَنْع الصلاة في المسجد النبوي حالَ وُجُودِ ثلاثة قبور بداخله} لا يَلْزَم منه القولُ {بتَسوِية المسجد مع غيره مِن المساجد ورَفْعِ الفضائل عنه}، وإنَّما غايَةُ ما في الأَمْرِ هو أنه قدِ اِجتَمَعَ لدينا حاظِرٌ ومُبِيحٌ، فَقُدِّمَ الحاظِرُ على المُبِيحِ.

 

فقد جاء في كتاب تلقيح الأفهام العلية بشرح القواعد الفقهية للشيخ وليد السعيدان: إذا اجتَمَعَ مُبِيحٌ وحاظِرٌ غُلِّبَ جانبُ الحاظِرِ، وهذا مِن باب الاحتياط وبراءة الذمة؛ ولأنَّ في تغليبِ جانبِ الحُرْمَة دَرْءَ مَفْسَدَةٍ، وفي تأخِيرِ المُبيحِ تَعْطِيل مصلحةٍ، ودَرْءُ المفاسد مُقَدَّمٌ على جَلْبِ المصالح. انتهى.

 

وجاء في كتاب رَوضَةُ الفَوَائِدِ شَرحِ مَنظُومَةِ القَواعِدِ لابنِ سعدِي للشيخ مُصطَفَى بن كَرامَةِ اللهِ مَخدُوم: ودَرْءُ المَفسدةِ كرأسِ المالِ، وجَلْبُ المصلحةِ كالرِّبحِ، والمحافظةُ على رأسِ المالِ أَوْلَى مِن المحافظةِ على الربحِ. انتهى.

 

وجاء في كتاب نيل الأوطار للشوكاني عند شرح قوله صلى الله عليه وسلم (فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، واذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم): واستُدِلَّ بهذا الحديث على أن اعْتِناءَ الشَّارِعِ بالمَنْهِيَّاتِ فوقَ اعْتِنائِهِ بالمأموراتِ لأنه أَطْلَقَ الاجتنابَ في المَنْهِيَّاتِ ولو مع المَشَقَّةِ في التَّرْكِ، وقَيَّدَ في المأموراتِ بالاستطاعةِ. انتهى.

 

وجاء في هذا الرابط على موقع الشيخ الألباني أن الشيخ قال: فإذا صادَفَ يومُ عيد يومَ الاثنين أو يومَ الخميس فهَلْ نُغلِّبُ الفضيلةَ على النَّهْيِ أم النَّهْيَ على الفضيلةِ؟ تُحَلُّ المشكلةُ بقاعدة علمية فقهية أصولية، وهي إذا تَعارَضَ حاظِرٌ ومُبِيحٌ قُدِّمَ الحاظِرُ على المُبِيحِ. انتهى.

 

وجاء في هذا الرابط على موقع الشيخ الألباني، أن الشيخ قال: قال عليه الصلاة والسلام {مَن تَرَكَ شيئا لله عَوَّضه اللهُ خَيرا منه}، فالمسلم الذي تَرَك صيامَ يوم الاثنين أو صيام يوم الخميس لأنه صادَف نَهْيا هلْ تَرَكَ صيامَ هذا اليوم أو ذاك عَبَثا أم تَجاوُبا مع الشارِعِ الحكيمِ، مع طاعة رسوله الكريم، مع طاعته عليه الصلاة والسلام، إذًا هو تَرَك صيام هذا اليوم لله فهلْ يَذْهَبُ عَبَثا؟ الجواب لا، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال {مَن تَرَكَ شيئا لله عَوَّضه الله خيرا منه}. انتهى.

 

وفي شريط صوتي مُفَرَّغ على هذا الرابط وعلى هذا الرابط وعلى هذا الرابط، يقولُ الشيخُ الألباني: فهلْ نَتَصَوَّرُ مَن (قَدَّم الحاظرَ على المُبيح) أنه خَسِرَ؟ ففَكِّرُوا في المثال الأَوَّل، يوم الاثنين يوم عيد فهلْ نَصُومُه؟ لا، هلْ خَسِرَ؟ الجواب: لا، لِمَ؟ احْفَظُوا هذا الحديثَ مَن كان منكم لا يَحْفَظه، وَلْيَتَذَكَّره مَن كان يَحْفَظُه، أَلَا وهو قولُه عليه السلام {مَن تَركَ شيئا لله عَوَّضه اللهُ خَيرًا منه}، الذي تَرَكَ صيامَ يوم الاثنين لِمُوافَقَتِه يوم عيد -وامْشُوا بالأمثلة ما شئتم- هلْ هو خَسِرَ أم رَبِحَ؟ الجواب رَبِحَ، لماذا؟ لأنه كان ناوِيًا أنْ يَصُومَ هذا اليومَ لولا أنه جاء النهيُ عن صيام هذا اليوم، فقُدِّمَ النهيُ على المُبِيحِ. انتهى.

 

وجاء في هذا الرابط على موقع الشيخ أبي الحسن السليماني: وعندما قَدَّمْنا تحريمَ صيام العيد إذا وافَقَ عادةً، فليس ذلك -هنا- مِن باب تقديم الحاظر على المبيح، ولكنه مِن باب تقديم الخاصِّ على العامِّ، أو مِن باب استثناء الأَقَلّ مِن الأكثر، حيث إن فضيلة صيام الاثنين والخميس، أو صيام يوم بعد يوم، كُلّ ذلك أكثر في الأيام مِن أيام العيد أو التشريق. انتهى.

 

(3)قول الشيخ الألباني {ثم اعْلَمْ أنَّ الحُكْمَ السابقَ يَشمَلُ كلَّ المساجد، كبيرها وصغيرها، قديمها وحديثها، لِعُموم الأدِلَّة، فلا يُستثنَى مِن ذلك مسجدٌ فيه قبر إلا المسجد النبوي الشريف، لأن له فضيلةً خاصَّة لا تُوجَدُ في شيءٍ مِن المساجد على القبور} يُعتَرَضُ عليه باعْتِراضَين، تَفْصيلُهما في النقاط التالية:

 

(أ)ثبت في صحيح البخاري عن عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالَا {لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا}.

 

(ب)وثبت في صحيح البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ، لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، لَوْلَا ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَوْ خُشِيَ أَنَّ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا}.

 

(ت)قال صلى الله عليه وسلم {اللهم لا تجعل قبري وثنا، لَعَنَ اللهُ قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} رواه أحمدُ، وقالَ أحمد شاكر مُحقِّقُ المُسنَدِ {إسناده صحيح}، وقالَ الألباني في (تحذير الساجد) {سَنَده صحيح}، وقالَ شُعَيب الأرناؤوط مُحَقِّقُ المُسنَد {إسْناده قوي}.

 

(ث)قال ابنُ دقيق العيد في إحكام الأحكام {هذا الحديث يدُلُّ على امتناع اتِّخاذ قبر الرسول مسجدا}، وذلك عند شرحه لحديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا {قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، قَالَتْ وَلَوْلَا ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خُشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا}. انتهى.

 

(ج)هذه النصوص النبوية المذكورة تَنْهَى عن اتخاذ قبر الرسول صلى الله عليه وسلم مسجدا، وهو ما قالَه اِبْنُ دقيق العيد، لأن حكاية النبي صلى الله عليه وسلم لِفِعْل اليهود والنصارى مع قبور أنبيائهم المُراد منها ألا نَتَشَبَّه بهم فنَتَّخِذُ قَبرَه صلى الله عليه وسلم مَسجِدًا، والسؤالُ هنا، هَلْ قَبرُه صلى الله عليه وسلم عامٌّ حتى يَدْخُلَ عليه التَّخصِيصُ، الواضِحُ أنَّه ليس بعامٍّ بدَلِيلِ عَدَمِ صِحَّةِ دُخولِ الاستِثناءِ المُتَّصِلِ عليه، وذلك على ما سَبَقَ بَيَانُه في مَسْأَلَةِ (ما هو العامُّ، وما المُرادُ بِقَولِهم "مِعْيَارُ الْعُمُومِ صِحَّةُ الاِسْتِثْنَاءِ"، وما هو التَّخصِيصُ، وما هي الفُروقُ بَيْنَ التَّخصِيصِ والنَّسْخِ؟)؛ وهذا هو الاعْتِراضُ الأَوَّلُ على قَولِ الشيخِ الألباني المَذكورِ.

 

(ح)الاعتراضُ الثاني سيكون على فَرْضِ التَّسْلِيم بوجود عامٍّ في هذه النُّصوصِ النبويَّةِ المَذكورةِ يَصِحُّ أنْ يَدْخُلَ عليه الاستثناءُ الذي ذَكَرَه الشيخُ الألباني، وسيكونُ هذا الاعتراضُ ممَّن يَرَى صِحَّةَ مَذهَبِ أبي حنيفةَ وغيرِه مِن أنَّ العامَّ المُتأخِّرَ ناسِخٌ للخاصِّ المُتَقَدِّمِ الذي تَمَّ العَمَلُ به، حيث أنَّ هذا التسليمَ سيَتَرَتَّبُ عليه أنَّ العامَّ كانَ مُتأخِّرًا على الخاصِّ -المُتَمَثِّلِ في فَضِيلةِ الصَّلاةِ في المَسجِدِ النبويِّ- بعدَ أنْ وَقَعَ العَمَلُ بالخاصِّ، لأنَّ بَعضَ النُّصوصِ النبويَّةِ التي دلَّتْ على تَحرِيمِ اتِّخاذِ قَبرِه صلى الله عليه وسلم مسجدًا دَلَّتْ أيضًا على أنَّه صلى الله عليه وسلم قالَها في مَرَضِ مَوْتِه. قالَ الزركشي في البحر المحيط: أنْ يَتأخَّر العامُّ عن وقتِ العَمَلِ بالخاصِّ، فَهَا هُنَا يُبنَى العامُّ على الخاصِّ عندنا، لأنَّ ما تَنَاوَلَه الخاصُّ مُتَيَقَّنٌ، وما تَنَاوَلَه العامُّ ظاهِرٌ مَظْنُونٌ، والمُتَيَقَّن أَوْلَى، قالَ إلْكِيَا {وهذا أحْسَنُ ما عُلِّل به}؛ وذَهَبَ أبو حنيفةَ وأكثرُ أصحابِه والقاضي عبدالجبار إلى أنَّ العامَّ المُتأخِّرَ ناسِخٌ للخاصِّ المُتقدِّمِ، وتَوقَّفَ فيه ابنُ الفارضِ مِنَ المُعتَزِلةِ، وقالَ أبو بكر الرازي {إذا تأخَّرَ العامُّ كان نَسْخا لِمَا تَضَمَنَه الخاصُّ ما لم تَقُمْ دَلالةٌ مِن غيرِه على أنَّ العُمومَ مُرَتَّبٌ على الخُصوصِ}... ثم قالَ -أَيِ الزركشي-: أنْ لا يُعْلَمَ تَارِيخُهُمَا [يَعنِي تارِيخَ كُلٍّ مِنَ العامِّ والخاصِّ]، فعند الشافعي وأصحابِه أنَّ الخاصَّ منهما يَخُصُّ العامَّ وهو قَولُ الحنابلة ونَقَلَه القاضي عبدالوهاب والباجي عن عامَّةِ أصحابِهم وبه قالَ القاضي عبدالجبار وبعضُ الحنفيةِ، وذَهَبَ أبو حنيفةَ وأكثَرُ أصحابِه إلى التَّوَقُّفِ إلى ظُهورِ التارِيخِ، وإلى ما يُرَجِّحُ أَحَدَهُمَا على الآخَرِ أو يَرْجِعُ إلى غَيرِهما، وحُكِي عنِ القاضي أبي بكر والدَّقَّاقِ أيضًا. انتهى باختصار.

 

(خ)مرَّ بِنا قولُ صفي الدين البغدادي الحنبلي {فإن تعارَضَ عُمُومان وأَمْكَنَ الجَمَعُ بتقديم الأَخَصّ أو تأويلِ المحتمَل فهو أَوْلَى مِن إلغائهما، وإلا فأحدهما ناسخ إن عُلِمَ تَأَخُّرُه، وإلا تَساقَطا}؛ ومرَّ بِنا أيضًا قولُ الشيخ الألباني رادًّا على مخالفيه القائلين بمشروعية صيام يوم السبت إذا وافَقَ يومَ عَرَفة {نحن عَمِلْنا بحديثَيْن، حديث فيه فضيلةٌ وحديث فيه نَهْيٌ، هم عَمِلُوا بحديث فيه فضيلةٌ وأعرضوا عن الحديث الذي فيه نَهْيٌ، وهذه ذكرى والذكرى تنفع المؤمنين}؛ قلتُ: أَلَا يَصِحُّ تخريجُ مسألة (الصلاة في المسجد النبوي) بنفس طريقة تخريج الشيخ الألباني لمسألة (مشروعية صيام يوم السبت إذا وافَقَ يومَ عَرَفة)؟ أَلَمْ يَجتمِع في كُلٍّ مِنَ المَسألَتَين حديثُ فَضِيلةٍ وحديثُ نَهْيٍ؟ أَلَيْسَ حديثُ النَّهْيِ أَخَصَّ مِن حديثِ الفَضِيلةِ في مَسأَلةِ (الصلاة في المسجد النبوي)، إذ أنَّ الفَضِيلةَ صِفَةٌ مُلازِمةٌ للمسجدِ النبويِّ على كُلِّ حالٍ، بينما وُجُودُ القَبرِ داخِلَ المسجدِ حَدَثُ عارِضٌ يُحْتَمَلُ زَوَالُه فِيما بَعْدُ بِأنْ يَتِمَّ إرجاعُ المسجدِ إلى ما كانَ عليه في عهدِ الصحابةِ مِن جِهةِ القَبرِ؟، فَما الذي يَمْنَعُ هنا مِن تَقدِيمِ الأَخَصِّ على الأَعَمِّ؟!!!.

 

 

المسألة الرابعة والثلاثون

 

زيد: لِماذا يَسْكُتُ مَنْ يَسْكُتُ مِنَ العُلَماءِ عن بَيَانِ بِدْعِيَّةِ بِناءِ القُبَّةِ الخَضراءِ فَوقَ القَبْرِ النَّبَوِيِّ؟.

 

عمرو: يقولُ الشيخُ صالحُ بنُ مقبل العصيمي (عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) في (بدع القبور): إنَّ استِمرارَ هذه القُبَّةِ [يعني القُبَّةَ الخَضراءَ المَوجودةَ فوقَ القَبرِ النَّبَوِيِّ] على مَدَى ثمانيةِ قُرونٍ لا يَعْنِي أنها أصْبَحَتْ جائزةً، ولا يَعنِي أنَّ السُّكُوتَ عنها إقرارٌ لها أو دَلِيلٌ على جَوازِها. انتهى.

 

وفي (فَتاوَى "نُورٌ على الدَّربِ") على هذا الرابط، سُئِلَ الشيخُ اِبْنُ باز: قد عَرَفْنا مِن كلام سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز أنَّ البِناءَ والقِبابَ على القُبورِ لا يَجوزُ، فما حُكْمُ القُبَّةِ الخَضراءِ على قَبرِ الرسولِ الكريمِ عليه الصلاةُ والسلامُ في المَدِينةِ المنورةِ؟. فأجابَ الشيخُ: لا رَيْبَ أنَّ الرَّسولَ عليه الصلاةُ والسلامُ نَهَى عنِ البِناءِ على القُبورِ، ولَعَنَ اليهودَ والنَّصارَى على اِتِّخاذِ المَساجِدِ عليها، فقالَ عليه الصلاةُ والسلامُ {لَعَنَ اللهُ اليهودَ والنصارى، اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد}، وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه عنه مسلم في الصحيح عن جابر {أنه نَهَى عن تجصيصِ القبور والقعودِ عليها والبناءِ عليها}، وفي رواية للترمذي وغيره {والكتابة عليها}، فالبناءُ على القبورِ واتِّخاذُ مَساجِدَ عليها مِنَ المُحَرَّماتِ التي حَذَّرَ منها النبيُّ عليه الصلاة والسلام، وتَلَقَّاها أهلُ العِلْم بما قاله صلى الله عليه وسلم بالقُبولِ، ونَهَى أهلُ العلمِ عنِ البِناءِ على القُبورِ واتِّخاذِ المَساجِدِ عليها، تَنفِيذًا للسُّنَّةِ المُطَهَّرةِ، ومع ذلك فقد وُجِدَ في كثيرٍ مِنَ الدولِ والبلدانِ البِناءُ على القبورِ واتِّخاذُ المَساجِدِ عليها، واتِّخاذُ القِبابِ عليها أيضًا، وهذا كُلُّه مُخالِفٌ لِمَا جاءَتْ به السُّنَّةُ عنِ الرسولِ عليه الصلاة والسلام، وهو مِن أعظم وسائل وُقُوعِ الشركِ، والغُلُوِّ في أصحاب القبور، فلا يَنبغِي لعاقِلٍ ولا يَنبغِي لأيِّ مُسْلِمٍ أن يَغْتَرَّ بهؤلاء وأن يَتَأَسَّى بهم فيما فَعَلُوا، لأنَّ أعمالَ الناس تُعْرَضُ على الكتابِ والسُّنَّةِ، فما وافَقَ الكتابَ والسُّنَّةَ أو وافَقَ أحدَهما قُبِلَ، وإلَّا رُدَّ على مَن أَحْدَثَه، كما قالَ اللهُ سبحانه {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}، وقال عز وجل {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}؛ أمَّا ما يَتعلَّقُ بالقُبَّةِ الخضراء التي على قبرِ النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا شَيءٌ أحْدَثَه بعضُ الأُمَراءِ في المدينة المنورة، في القُرونِ المُتَأَخِّرةِ، ولا شَكَّ أنَّه غَلَطٌ منه، وجَهْلٌ منه، ولم يَكُنْ هذا في عَهْدِ النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في عَهْدِ أصحابِه، ولا في عَهْدِ القُرونِ المُفضَّلةِ، وإنَّما حَدَثَ في القُرونِ المُتَأَخِّرةِ التي كَثُرَ فيها الجَهْلُ، وقَلَّ فيها العِلمُ وكَثُرَتْ فيها البِدَعُ، فلا يَنْبَغِي أنْ يُغْتَرَّ بذلك، ولا أنْ يُقْتَدَى بذلك، ولَعَلَّ مَن تَوَلَّى المدينةَ مِنَ المُلوكِ والأُمَراءِ -والمُسلِمِين- تَرَكُوا ذلك خَشْيَةَ الفِتنةِ مِن بَعضِ العامَّةِ، فتَرَكُوا ذلك وأعْرَضُوا عن ذلك، حَسْمًا لمادَّةِ الفِتَنِ، لأنَّ بَعضَ الناسِ ليس عنده بَصِيرةٌ، فقد يقولُ {غَيَّرُوا وفَعَلُوا بقبرِ النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كذا، وهذا كذا}، فيُثِيرَ إلى فِتَنٍ لا حاجَةَ إلى إثارَتِها، وقد تَضُرُّ إثارَتُها، فالأظْهَرُ واللهُ أعلَمُ أنَّها تُرِكَتْ لهذا المَعنَى خَشْيَةَ رَوَاجِ فِتْنَةٍ يُثِيرُها بَعضُ الجَهَلةِ، ويَرْمِي مَن أزالَ القُبَّةَ أنَّه يَسْتَهِينُ بالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أو بأنَّه لا يَرْعَى حُرْمَتَهُ عليه الصلاةُ والسلامُ، هكذا يَدَّعِي عبّادُ القُبورِ وأصحابُ الغُلُوِّ إذا رَأَوْا مَن يَدْعُو إلى التوحيد، ويُحَذِّرُ مِنَ الشِّركِ والبِدَعِ، رَمَوْهُ بأنواعِ المَعايِبِ، واتَّهَمُوه بأنَّه يُبْغِضُ النبيَّ عليه الصلاة والسلام، أو بأنَّه يُبْغِضُ الأولِياءَ، أو لا يَرْعَى حُرْمَتَهُ صلى الله عليه وسلم، أو ما أشْبَهُ هذه الأقاوِيلِ الفاسِدةِ الباطِلةِ، وإلَّا فلا شَكَّ أنَّ الذي عَمِلَها قَدْ أخْطَأَ، وأتَى بِدْعَةً وخالَفَ ما قالَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في التحذيرِ مِنَ البِناءِ على القبورِ واتِّخاذ المَساجِدِ عليها... وأمَّا البِناءُ الأوَّلُ فهو بَيْتُ عائشة، كان دُفِنَ عليه الصلاة والسلام في بَيْتِ عائشةَ، والصحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم وأرضاهم خافوا على دَفْنِه في البقيعِ مِنَ الفِتنةِ، فجَعَلوه في بَيْتِ عائشةَ، ثم دَفَنوا مَعَه صاحبَيِه أبا بَكرٍ وعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، ولم يَكُنِ الدَّفْنُ في المَسجِدِ، بَلْ كانَ في بَيْتِ عائشةَ، ثم لَمَّا وُسِّعَ المسجدُ في عَهْدِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِالْمَلِكِ في آخِرِ القَرنِ الأوَّلِ أَدْخَلَ الحُجرةَ في التَّوْسِعةِ، فظَنَّ بَعضُ الناسِ الذِين لا يَعلَمون أنَّ الرَّسولَ دُفِنَ في المسجدِ، وليس الأمْرُ كذلك، بل هو عليه الصلاة والسلام دُفِنَ في بَيْتِ عائشةَ في خارِجِ المسجدِ ولم يُدْفَنْ في المسجدِ، فليس لأحَدٍ حُجَّةٌ في ذلك أنْ يَدْفِنَ في المَساجِدِ، بل يَجِبُ أنْ تَكونَ المَساجِدُ خاليةً مِنَ القُبورِ، ويَجِبُ ألَّا يُبْنَى أَيُّ مَسجِدٍ على قَبرٍ، لِكَوْنِ الرسولِ حَذَّرَ مِن ذلك عليه الصلاة والسلام فقالَ {لَعَنَ اللهُ اليهودَ والنصارى، اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد}، أخرجه الشيخان البخاري ومسلم في الصحيحين، ورَوَى مسلمٌ في صحيحه رحمه الله عن جندب بن عبدالله البجلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سَمِعَه يقول قَبْلَ أن يموت بخمس، يقول {إن الله اتَّخَذَني خليلًا، كما اتَّخذ إبراهيم خليلًا، ولو كنت مُتَّخِذًا مِن أُمتي خليلًا لاتَّخَذْتُ أبا بكر خليلًا، ألا وإن مَن كان قبلكم كانوا يَتَّخِذون قبورَ أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تَتَّخِذوها مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك}، فَذَمَّ مَنِ اتَّخَذَ المَساجِدَ على القُبورِ، ونَهَى عن ذلك بِصِيغَتَين، إحداهما قوله {فلا تَتِّخذوها مَساجِدَ}، والثانية {فإني أنهاكم عن ذلك}، وهذه مُبالَغةٌ في النَّهْيِ والتحذيرِ منه عليه الصلاة والسلام مِن وُجوهٍ ثلاثة، الوجهُ الأوَّلُ، ذَمَّ مَنِ اتَّخَذَ المساجدَ على قبور الأنبياء والصالحِين قَبْلَنا، والثاني، نَهَى عن ذلك بصيغةِ {لا تتخذوا}، والثالث أنه نَهَى عنه بصيغةِ {وإني أنهاكم عن ذلك}، وهذه مُبالَغةٌ في التحذير، وسَبَقَ في حديثِ عائشةَ أنَّه نَهَى عنه باللَّعْنِ، قال {لَعَنَ اللهُ اليهودَ والنصارى، اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد}، هذا يُبَيِّنُ لنا ويُبَيِّنُ لِكُلِّ مسلمٍ ولِكُلِّ ذِي فَهْمٍ أنَّ البناءَ على القبور واتِّخاذَ القِبابِ عليها والمَساجِدِ أنَّه مُخالِفٌ لشريعةِ اللهِ التي جاءَ بها النبيُّ عليه الصلاة والسلام، وأنَّه مُنْكَرٌ وبِدْعَةٌ في الدِّينِ، وأنَّه مِن وسائلِ الشركِ، ولهذا لَمَّا رَأَى العامَّةُ والجَهَلَةُ هذه القبورَ المُعَظَّمَةَ بالمساجدِ والقبابِ وغيرِ ذلك والفُرُشِ ظَنُّوا أنَّها تَنْفَعُهم، وأنَّها تُجِيبُ دُعاءَهم، وأنها تَرُدُّ عليهم غائِبَهم وتَشْفِي مَرِيضَهم، فَدَعَوْها واستَغاثوا بها ونَذَرُوا لها، وَوَقَعوا في الشركِ بسبب ذلك... فالواجبُ على أَهْلِ العلمِ والإيمانِ أَيْنَ ما كانوا أنْ يُحَذِّرُوا الناسَ مِن هذه الشرور، وأن يُبَيِّنوا لهم أنَّ البِناءَ على القبور مِنَ البِدَعِ المُنْكَرَةِ، وهكذا اتِّخاذُ القبابِ والمَساجِدِ عليها مِنَ البِدَعِ المُنْكَرَةِ وأنَّها مِن وسائلِ الشركِ، حتى يَحْذَرَ العامَّةُ ذلك، لِيَعْلَمَ الخاصُّ والعامُّ أنَّ هذه الأشياءَ حَدَثَتْ بَعْدَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وبعدَ أصحابِه رضي الله عنهم وبعدَ القُرونِ المُفضَّلةِ، حتى يَحْذَرُوها وحتى يَبْتَعِدوا عنها، والزِّيارةُ الشرعيةُ لِلقُبورِ هي أنْ يَزُورُوها للسلامِ عليهم والدعاءِ لهم والتَّرَحُّمِ عليهم، لا لسؤالِهم ودُعائِهم وقضاءِ الحاجاتِ وتَفرِيجِ الكروبِ، فإنَّ هذا شركٌ بالله، ولا يَجوزُ إلَّا مع اللهِ سبحانه وتعالى، ولَكِنَّ الجَهَلةَ والمُشرِكِين بَدَّلُوا الزيارةَ الشرعيةَ بالزيارةِ المُنْكَرَةِ الشِّركِيَّةِ، جَهْلًا وضَلالًا، ومِن أسبابِ هذا الشركِ والبِدَعِ وُجُودُ هذه البِناياتِ والقِبابِ والمَساجِدِ على القبورِ، ومِن أسبابِ ذلك سُكُوتُ كَثِيرٍ مِنَ العُلَماءِ عن ذلك، إمَّا لِلجَهلِ بالحُكْمِ الشرعيِّ لذلك مِن بَعضِهم، وإمَّا ليَأْسِه مِن قُبُولِ العامَّةِ وعَدَمِ الفائدةِ مِن كَلامِه معهم لِمَا رَأَى مِن إقبالِهم عليها وإنكارِهم على مَن أنَكَرَ عليهم، وإمَّا لأسبابٍ أُخرَى [قلتُ: لَعَلَّ الأسبابَ الأُخرَى التي يَقصِدُها الشَّيخُ هي الخَشْيَةُ مِنَ الحُكَّامِ وأهوائهم]، فالواجبُ على أَهْلِ العلم أينما كانوا أنْ يُوَضِّحوا للناس ما حَرَّمَ اللهُ عليهم، وأن يُبَيِّنُوا ما أَوْجَبَ اللهُ عليهم، وأن يُحَذِّرُوهم مِن الشركِ وأسبابه ووسائله، فإن العامَّةَ في ذِمَّتِهم، واللهُ أَوْجَبَ عليهم البَلاغَ والبَيانَ، وحَرَّمَ عليهم الكِتْمانَ. انتهى باختصار.

 

 

المسألة الخامسة والثلاثون

 

زيد: هَلْ تَمَكَّنَ الشيخُ محمد بنُ عبدِالوهابِ مِن إزالةِ القُبَّةِ الخَضراءِ المَوجودةِ فَوْقَ القَبْرِ النَّبَوِيِّ، ولَمْ يَفْعَلْ؟.

 

عمرو: في (فَتاوَى "نُورٌ على الدَّربِ") على هذا الرابط، سُئِلَ الشيخُ اِبْنُ باز: إنني أعْلَمُ أن بِناءَ القِبابِ على القُبورِ لا يَجوزُ، ولكنْ بَعضُ الناسِ يقولون إنها تَجوزُ، ودَلِيلُهم قُبَّةُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، ويقولون {إنَّ محمد بْنَ عبدالوهاب أزالَ كُلَّ القِبابِ، ولم يُزِلْ تِلْكُمُ القُبَّةَ، أيْ قُبَّةَ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم}؛ فكيف نَرُدُّ على هؤلاء، أفِيدونا بارَكَ اللهُ فيكم؟. فَكَانَ ممَّا أجابَ به الشيخُ: أمَّا قُبَّةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فهذه حادِثةٌ أحْدَثَها بعضُ الأُمَراءِ في بَعضِ القُرونِ المتأخِّرة، وتَرَكَ الناسُ إزالتَها لِأسبابٍ كَثِيرةٍ، منها جَهْلُ الكثيرِ مِمَّن يَتَوَلَّى إمارةَ المدينةِ، ومنها خَوْفُ الفِتنةِ، لِأنَّ بعضَ الناسِ يَخشَى الفِتنةَ، لو أزالَها لَرُبَّما قامَ عليه الناسُ، وقالوا {هذا يُبغِضُ النبيَّ وهذا كيت وكيت}، وهذا هو السِّرُّ في إبقاءِ الدولةِ السعوديةِ لهذه القُبَّةِ، لِأنها لو أزالَتْها لَرُبَّما قالَ الجُهَّالُ -وأكثرُ الناسِ جُهَّالٌ- {إنَّ هؤلاء إنَّما أزالوها لِبُغْضِهم النَّبِيَّ عليه الصلاةُ والسلامُ}، ولا يقولون {لِأنَّها بِدْعَةٌ}، وإنَّما يقولون {لِبُغْضِهم النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم}، هكذا يَقولُ الجَهَلةُ وأشْباهُهم، فالحكومةُ السعوديةُ الأُولَى والأُخْرَى إلى وَقْتِنا هذا، إنَّما تَرَكَتْ هذه القُبَّةَ المُحْدَثةَ خَشْيَةَ الفِتنةِ، وأنْ يُظَنُّ بها السُّوءُ [قالَ الشيخُ حمود التويجري (الذي تولَّى القضاءَ في بلدة رحيمة بالمنطقة الشرقية، ثم في بلدة الزلفي، وكان الشيخُ ابنُ باز مُحِبًّا له، قارئًا لكُتُبه، وقَدَّمَ لبعضِها، وبَكَى عليه عندما تُوُفِّيَ -عامَ 1413هـ- وأَمَّ المُصَلِّين للصلاة عليه) في كِتَابِه (غربة الإسلام، بتقديمِ الشيخِ عبدالكريم بن حمود التويجري): قالَ صِدِّيق حَسَن خَان [ت1307هـ] في (الدين الخالص) {بَلَغَنا أنَّ أهلَ نَجْدٍ لَمَّا تَغَلَّبوا على الحَرَمَين الشَّرِيفَين وحَكَموا فيها، هَدَموا القِبابَ التي كانَتْ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ [بَقِيعُ الْغَرْقَدِ هي المَقبَرةُ الرَّئِيسةُ لِأهلِ المَدِينةِ، وتَقَعُ قُرْبَ المَسجِدِ النَّبَوِيِّ] في المَدِينةِ، وسَوُّوها بالأرضِ، ولم يُغادِروا أَثَرا مِن آثارِها إلَّا قُبَّةَ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم خَوفًا مِن بَلْوَى الجُهَّالِ وصَونًا مِن إثارةِ الضُّلَّالِ}. انتهى]، وهي لا شَكَّ أنَّها والحَمدُ للهِ تَعتَقِدُ تَحرِيمَ البِناءِ على القُبورِ، وتَحرِيمَ اِتِّخاذِ القِبابِ على القُبورِ؛ والرَّسولُ صلى الله عليه وسلم دُفِنَ في بَيْتِ عائشةَ لِئَلَّا تَقَعَ الفِتنةُ به، ولِئَلَّا يُغْلَى فيه، فدَفَنَه الصَّحابةُ في بَيْتِ عائشةَ حَذَرًا مِنَ الفِتنةِ، والجُدرانُ قائمةٌ مِن قَدِيمٍ، دَفَنُوه في البَيْتِ حِمايَةً له مِنَ الفِتنةِ عليه الصلاةُ والسلامُ، لِئَلَّا يُفْتَنَ به الجَهَلةُ [قالَ الشيخُ مُقْبِلٌ الوادِعِيُّ في (إجابة السائل على أهم المسائل): النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ قُبِرَ في حُجْرةِ عائشةَ، وهذه خُصوصِيَّةٌ فإنَّ الأنبِياءَ كما وَرَدَ مِن طُرُقٍ بِمَجموعِها تَصْلُحُ لِلحُجِّيَّةِ {الأنبِياءُ يُقْبَرون في المَواضعِ التي يَموتون فيها} هَكَذَا قالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أو بِهَذَا المَعنَى. انتهى. وقالَ الشيخُ الألبانِيُّ في (سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها): قال الذَّهَبِيُّ [في (سِيَرُ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ)] عَقِبَ الحَدِيثِ [يَعنِي قَولَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، وَلَا تَجْعَلُوهَا عَلَيْكُمْ قُبُورًا كَمَا اتَّخَذَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي بُيُوتِهِمْ قُبُورًا، وَإِنَّ الْبَيْتَ لَيُتْلَى فِيهِ الْقُرْآنُ فَيَتَرَاءَى لِأهْلِ السَّمَاءِ كَمَا تَتَرَاءَى النُّجُومُ لِأهْلِ الأَرْضِ)] {هَذَا حَدِيثٌ نَظِيفُ الإِسْنَادِ حَسَنُ الْمَتْنِ، فِيهِ النَّهْيُ عَنِ الدَّفْنِ فِي الْبُيُوتِ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، وَقَدْ نَهَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُبْنَى عَلَى الْقُبُورِ، وَلَوِ انْدَفَنَ النَّاسُ فِي بُيُوتِهِمْ لَصَارَتِ الْمَقْبَرَةُ وَالْبُيُوتُ شَيْئًا وَاحِدًا، وَالصَّلَاةُ فِي الْمَقْبَرَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (أَفْضَلُ صَلَاةِ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ) فَنَاسَبَ ذَلِكَ أَلَّا تُتَّخَذَ الْمَسَاكِنُ قُبُورًا، وَأَمَّا دَفْنُهُ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَمُخْتَصٌّ بِهِ}. انتهى باختصار. وجاء في الموسوعةِ الحَدِيثِيَّةِ (إعداد مجموعة من الباحثين، بإشراف الشيخ عَلوي بن عبدالقادر السَّقَّاف): مِن خَصائصِ الأنبِياءِ أنَّهم يُدفَنون حيثُ يَموتون، وفي هذا الحَدِيثِ [يَعنِي قَولَ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها {لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم اِخْتَلَفُوا فِي دَفْنِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ (سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم شَيْئًا مَا نَسِيتُهُ، قَالَ "مَا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ"، اِدْفِنُوهُ فِي مَوْضِعِ فِرَاشِهِ)}] تَقولُ عائشةُ رَضِي اللهُ عَنْها {لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم} أَيْ [لَمَّا] قَبَضَ اللهُ تَعالَى رُوحَه ولم يُدفَنْ بَعدُ؛ {اِخْتَلَفُوا} أَيْ صَحابَتُه رَضِيَ اللهُ عَنْهم؛ {فِي دَفْنِهِ} أَيْ في مَكانِ دَفْنِهِ؛ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْه {سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم شَيْئًا} أَيْ حَديثًا؛ قالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم {مَا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا فِي الْمَوْضِعِ} أَيْ في المَكانِ؛ {الَّذي يُحِبُّ} أَيِ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، أو النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم؛ {اِدْفِنُوهُ فِي مَوْضِعِ فِرَاشِهِ} أَيْ إنَّهم رَضِيَ اللهُ عَنْهم رَفَعوا فِراشَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم الَّذي ماتَ عليه، فحَفَروا له، ثمَّ دُفِنَ. انتهى باختصار]؛ وأَمَّا هذه القُبَّةُ فهي مَوضوعةٌ مُتَأَخِّرةٌ مِن جَهْلِ بعضِ الأُمَراءِ، فإذا أُزِيلَتْ فلا بأسَ بذلك، بَلْ هذا حَقٌّ، لكنْ قد لا يَتَحَمَّلُ هذا بعضُ الجَهَلةِ، وقد يَظُنُّون بِمَن أزالَها بأنه ليس على حَقٍّ، وأنه مُبْغِضٌ للنبي عليه الصلاة والسلام، فمِن أَجْلِ هذا تَرَكَتِ الدولةُ السعوديةُ هذه القُبَّةَ على حالِها، لِأنها مِن عَمَلِ غيرِها ولا تُحِبُّ التَّشوِيشَ والفِتنةَ التي قد يَتَزَعَّمُها بَعضُ الناسِ مِن عُبَّادِ القُبورِ وأصحابِ الغُلُوِّ في الأمواتِ مِنَ المُشرِكِين، فَيَرْمُونها بما هي بَرِيئَةٌ منه، مِنَ البُغْضِ للنبي صلى الله عليه وسلم، أو الجَفاءِ في حَقِّه؛ والعلماءُ السعودِيُّون منهم الشيخُ محمد بنُ عبدالوهاب رحمه الله وغيرُه مِنَ العلماءِ، كُلُّهم بِحَمْدِ اللهِ على السُّنَّةِ، وعلى طَرِيقِ أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأَتْبَاعِهم بإحسانٍ في توحيدِ اللهِ والإخلاصِ له، والتَّحذِيرِ مِنَ الشِّركِ والبِدَعِ أَوْ وَسائلِ الشِّركِ، وهُم أَشَدُّ الناسِ تَعظِيمًا للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ولأصحابِه كالسَّلَفِ الصالِحِ، هُم مِن أَشَدِّ الناسِ تَعظِيمًا للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ولأصحابِه رَضِيَ اللهُ عنهم وأرضاهم، مَشْيًا وسَيْرًا على طَرِيقِ السَّلَفِ الصالِحِ في مَحَبَّتِه صلى الله عليه وسلم، وتَعْظِيمِ جانِبِه التَّعْظِيمَ الشَّرْعِيَّ الذي ليس فيه غُلُوٌّ ولا بِدْعَةٌ، بَلْ تَعظِيمٌ يَقتَضِي اتِّباعَ شَرِيعَتِه، وتَعظِيمَ أَمْرِه ونَهْيِه، والذَّبَّ عن سُنَّتِه، ودَعوةَ الناسِ إلى اتِّباعِه، وتَحذِيرَهم مِنَ الشِّركِ به أو بغَيرِه، وتَحذِيرَهم مِنَ البِدَعِ المُنْكَرَةِ، فَهُمْ على هذا الطَّرِيقِ، أوَّلُهم وآخِرُهم يَدْعُون الناسَ إلى اتِّباعِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وإلى تَعظِيمِ سُنَّتِه، وإلى إخلاصِ العبادةِ للهِ وحده وعَدَمِ الشِّركِ به سبحانه، ويُحَذِّرُون الناسَ مِنَ البِدَعِ التي كَثُرَتْ بين الناسِ مِن عُصورٍ كَثِيرةٍ، ومِن ذلك بِدْعَةُ هذه القُبَّةِ التي وُضِعَتْ على القَبرِ النبويِّ، وإنَّما تُرِكَتْ مِن أَجْلِ خَوْفِ القالةِ [القالةُ هي القَوْلُ الفاشِي في الناسِ، خَيْرًا كانَ أو شَرًّا] والفِتنةِ. انتهى باختصار. قلتُ: واللائِقُ أيضًا بالشيخ محمد بْنِ عبدالوهاب أنْ يُظَنَّ به أنَّه لم يَتَمَكَّنْ مِن إرجاعِ المَسجِدِ النبويِّ إلى ما كانَ عليه في عَهدِ الصَّحابةِ مِن جِهةِ القَبرِ، وأنَّه لو كانَ تَمَكَّنَ لَفَعَلَ.

 

 

المسألة السادسة والثلاثون

 

زيد: هَلْ يَصِحُّ الاستِدلالُ بِدَعوَى الإجماعِ، أو بِدَعوَى "لا نَعْمَلُ بِحَدِيثِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى نَعْرِفَ مَن عَمِلَ به"، رَدًّا على مَنِ اِستَدَلَّ على تَحرِيمِ الصَّلاةِ في المَسجِدِ النَّبَوِيِّ بِعُمومِ أدِلَّةِ التَّحرِيمِ؟.

 

عمرو: الجوابُ عن هذا الاستدلال يَتَّضحُ ممَّا يَلِي:

 

(1)هذا عَيْنُ الاستدلال الذي يَستدِلُّ به الصُّوفِيَّةُ والشِّيعَةُ: فقد استَدلَّ عَلِيُّ جُمْعَة الصوفي الأشعري مفتي مِصْرَ السابق وعضو هيئة كِبار العلماء بالأزهر على موقعه في هذا الرابط على صحة الصلاة في المساجد التي فيها قبور بِزَعْمِ إجماعِ الأمةِ الفِعْلِيِّ على ذلك وإقرارِ علمائها صلاة المسلمين سَلَفًا وخَلَفًا في المسجدِ النبويِّ.

 

وقال المَرْجِعُ الشِّيعِيُّ الإيرانيُّ جعفر السبحاني في مقالة له على هذا الرابط: هذا وقد صَلَّى المسلمون يَوْمَ أُدخِل القبرُ في المسجد عَبْرَ قُرونٍ، ولم يُسمَعْ مِن أيِّ اِبنِ أُنثَى أنه أنْكَرَ ذلك العَمَلَ، بَلِ المسلمون كُلُّهم يُصَلُّون في المسجدِ ويَتَبَرَّكون بقَبرِه الشريفِ، إلى أنْ وَلَدَ الدَّهْرُ اِبْنَ تيميةَ ومَن لَفَّ لَفَّه فَأَظْهَرُوا نَكِيرَهم لهذا العَمَلِ، أَلَيْسَ اتِّفاقُ المسلمين أو الفقهاءِ وأهلِ الفُتيا في قَرْنٍ واحدٍ على عَمَلٍ دليلًا على حِلِّيَّةِ العَمَلِ وَجَوازِه؟ فإنَّ الإجماعَ عند القومِ مِن أداةِ التشريعِ كالكتابِ والسُّنَّةِ، فلماذا لَم نَجْعَلْ هذا الاتِّفاقَ دَلِيلًا على الجَوازِ بَلِ الاستِحبابِ؟!، وهذه هي المُدُنُ الإسلاميَّةُ في الشاماتِ كُلِّها تَحتَضِنُ قُبورَ الأنبياءِ العِظامِ عليهم السَّلامُ وفيها مَساجِدُ جَنْبَ القُبورِ، وما هذا إلَّا لِيَتبرَّك المُصلِّي بقُبورِ الأنبياءِ العِظامِ عليهم السَّلامُ الذِين كَرَّسُوا حياتَهم في نَشْرِ التوحيدِ ومُكافَحَةِ الوَثَنِيَّةِ، ومِنَ الظُّلْمِ الواضِحِ عَدُّ الصَّلاةِ عند قُبورِهم تَبَرُّكًا بهم شِرْكًا أو ما يَفُوحُ منه رائحةُ الشِّرْكِ!، ومِن يَوْمِ سَيْطَرَتِ الوَهَّابِيَّةُ على قِسْمٍ مِن تلك البلادِ أَخَذُوا يَفصِلون المَساجِدَ عن قُبورِهم ومَشاهِدهم بشَيءٍ مِنَ السِّتْرِ. انتهى.

 

(2)الشيخُ الذي يَقولُ بحُرْمَة اتِّخاذِ القُبورِ مَساجِدَ، ولا يَنُصُّ على استِثناءِ المَسجِدِ النبويِّ، هَلِ الأَوْلَى أنْ يُنسَبَ إليه أنَّه يَستَثنِي المَسجِدَ النبويَّ، أَمِ الأَوْلَى أنْ يُقالَ أنَّ كلامَ الشيخِ يَشْمَلُ المَسجِدَ النبويَّ لِعُمومِ أَدِلَّةِ التَّحرِيمِ ولِعُمومِ كلامِ الشيخِ؟!!! أعتَقِدُ أنَّه مِنَ الواضِحِ جِدًّا أنَّ الأَوْلَى أنْ يُقال أنَّ كلامَ الشيخِ يَشْمَلُ المسجدَ النبويَّ؛ وذلك لِعُمومِ أَدِلَّة التحريم ولِعُمومِ كلامِ الشيخِ.

 

(3)تعريف الإجماع: الإجماع هو اتِّفاقُ العُدُولِ مِن مُجْتَهِدِي أُمَّةِ محمد صلى الله عليه وسلم بَعْدَ وفاتِه في عَصْرٍ مِن العُصُورِ على أيِّ أَمْرٍ كانَ مِن أُمُورِ الدِّينِ.

 

(4)لا يُمْكْنُ الإطِّلاعُ على انعقاد الإجماع على مسألة ما بعدَ عَصْرِ الصحابة رضوان الله عليهم جميعا: يقول الإمام الشوكاني: وَجَعَلَ الأَصْفَهَانِيُّ الْخِلَافَ فِي غَيْرِ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ [أَيِ الأَصْفَهَانِيُّ] {الْحَقُّ تَعَذُّرُ الاطِّلَاعِ عَلَى الإِجْمَاعِ، لَا إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، حَيْثُ كَانَ الْمُجْمِعُونَ -وَهُمُ الْعُلَمَاءُ- مِنْهُمْ فِي قِلَّةٍ، وَأَمَّا الآنَ وَبَعْدَ انْتِشَارِ الإِسْلَامِ وَكَثْرَةِ الْعُلَمَاءِ فَلَا مَطْمَعَ لِلْعَمَلِ بِهِ}، قَالَ [أَيِ الأَصْفَهَانِيُّ] {وَهُوَ اخْتِيَارُ أَحْمَدَ مَعَ قُرْبِ عَهْدِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَقُوَّةِ حِفْظِهِ وَشِدَّةِ اطِّلَاعِهِ عَلَى الأُمُورِ النَّقْلِيَّةِ}. انتهى من إرشاد الفحول.

 

ويقولُ الشيخُ عبدُالرحمن البرَّاك (أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) في (إرشاد العباد إلى معاني لمعة الاعتقاد): الإجماع الذي يَنْضَبِطُ هو ما ذَكَرَه شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في العقيدة الواسطية بقوله {والإجماع الذي يَنْضَبِطُ هو ما كان عليه السَّلَفُ الصالحُ، إذ بَعدَهم كَثُرَ الاختلافُ، وانتشرت الأُمَّةُ"، فالإجماع الذي يَنْضَبِطُ هو إجماع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم}. انتهى. وقالَ الشيخُ البرَّاك أيضًا في فتوى له بعنوان (الإجماع المعتبر) على موقعه في هذا الرابط: يقول أهل العلم {إنّ الإجماع الذي ينضبط هو إجماع الصّحابة، أمَّا بَعْدَ الصَّحابةِ فالأمة قد انتشرت واتَّسَعَتْ فلا يَنْضَبِطُ إجماعُ الأُمَّةِ}، لَكِنْ كَثِيرٌ مِن أهل العلم يَحْكُون الإجماعَ، وغايَةُ الأمرِ أنْ يَدُلَّ [أيِ الإجماعُ بَعْدَ عَصرِ الصَّحابةِ] على أنّه قولُ أكثرِ أهلِ العلمِ، ولِهذا يَقولُ بعضُهم {لا نَعلَمُ فيه خِلافًا} و{وهو قَولُ كُلِّ مَن نَحفَظُ عنه مِن أهلِ العلمِ} [وَ]هذا دَقِيقٌ وصَحِيحٌ. انتهى باختصار.

 

ويقول الشيخُ مصطفى سلامة: الإجماع في عَصْرِ الصحابةِ، وبعدَ وَفَاةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قد وَقَعَ في كثيرٍ مِنَ المسائلِ، أما بَعْدَ الصحابةِ، وإنْ كان مُمْكِنا إلَّا أنه مُتَعَذِّرٌ، وفي ذلك يقولُ شيخُ الإسلام {ولا يُعلَمُ إجماعٌ بالمعنى الصحيح إلَّا ما كان في عَصْرِ الصحابةِ، أمَّا بَعْدَهم فقد تَعَذَّرَ غالبًا}. انتهى من التأسيس في أصول الفقه.

 

وفي هذا الرابط تقول اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإِفتاء (عبدالعزيز بن عبدالله بن باز وعبدالرزاق عفيفي وعبدالله بن غديان): يَبْعُدُ عادةً أنْ يُطَّلَعَ على إجماعِ أهْلِ الحَلِّ والعَقْدِ في عَصْرٍ مِن عُصُورِ هذه الأُمَّةِ سِوَى عَصْرِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم. انتهى.

 

ويقول محمد بن إسماعيل الصنعاني في تطهير الاعتقاد: فإنَّ الأُمَّةَ المُحَمَّديَّةَ قد مَلَأتِ الآفاقَ، وصارَتْ في كُلِّ أرضٍ وتحت كُلِّ نَجْمٍ، فعلماؤُها المُحقِّقُون لا يَنْحَصِرون، ولا يَتِمُّ لأحَدٍ مَعْرِفةُ أحوالهم، فمَن ادَّعَى الإجماعَ بعدَ انتشارِ الدِّينِ وكثرةِ علماءِ المسلمين، فإنَّها دَعْوَى كاذِبَة، كما قالَه أَئِمَّةُ التحقيق؛ ثم لو فُرِضَ أنهم عَلِمُوا بالمُنْكَر وما أنْكَرُوه بل سَكَتُوا عن إنكاره، لَمَا دَلَّ سُكُوتُهم على جَوَازه، فإنه قد عُلْمَ مِن قواعد الشريعة أن وظائف الإنكار ثلاثة؛ أَوَّلها الإنكارُ باليد، وذلك بتغيير المنكر وإزالته؛ وثانيها الإنكارُ باللسان مع عدم استطاعة التغيير باليد؛ ثالثها الإنكارُ بالقلب عند عدم استطاعة التغيير باليد واللسان؛ فإن انْتَفَى أَحَدُها لم يَنْتَفِ الآخرُ، ومِثَالُهُ مُرُورُ فَرْدٍ مِن أفراد علماء الدين بِأَحَدِ المَكَّاسِين [المَكَّاس هو مَن يَجْبِي الضَّرائبَ بِغَيرِ حَقٍ] وهو يَأْخُذُ أموالَ المظلومين، فهذا الفَرْدُ مِن علماء الدين لا يستطيعُ التغييرَ على هذا الذي يَأْخُذُ أموالَ المساكين باليد ولا باللسان، لأنه إنما يكون سُخْرِيَّةً لأهلِ العصيانِ، فانْتَفَى شَرْطُ الإنكار بالوظيفتين، ولم يَبْقَ إلا الإنكار بالقلب الذي هو أَضْعَفُ الإيمان، فيجب على مَن رَأَى ذلك العالِمَ ساكِتًا على الإنكارِ -مع مُشاهدة ما يَأْخُذُه ذلك الجَبَّارُ- أن يَعتقِدَ أنه تَعَذَّرَ عليه الإنكارُ باليد واللسان، وأنه قد أنْكَرَ بقلبه، فإن حُسْنَ الظَّنِّ بالمسلمين أهْلِ الدين واجِبٌ، والتَّأوِيلُ لهم ما أمْكَنَ ضَرْبَةُ لازِبٍ [أَيْ (والتَّأوِيلُ لهم -ما أمْكَنَ- لازِمٌ واجبٌ)]. انتهى.

 

ويقول الشيخ عبدالقادر بن بدران الدمشقي: وقال أبو المعالي {والإنصاف أنه لا طريق لنا إلى معرفة الإجماع إلا في زمن الصحابة}، وقال البيضاوي {إن الوقوف عليه لا يتعذر في أيام الصحابة فإنهم كانوا قَلِيلِين مَحصورِين ومجتمِعِين في الحجاز ومَن خرجَ منهم بعدَ فَتْحِ البلاد كان معروفا في موضعه}، قلتُ [والكلام ما زال للشيخ عبدالقادر]، وهذا هو الحقُّ البَيِّنُ، وقَوْلُ المُصَنِّف [يعني اِبْنَ قُدَامَةَ صاحب روضة الناظر] عنِ العلماءِ المجتهدِين {هُمْ مُشتَهِرون مَعروفون} دَعْوَى بِلا دَلِيلٍ، ولو كُنَّا في زَمَنِه وطالَبْناه بمَعرِفةِ مُجتَهِدِي عَصْرِه مِن أهلِ الأندلسِ والهندِ لا رُبَّما كانَ لا يَعْرِفُ واحِدًا منهم. انتهى باختصار من كتاب نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر.

 

قلتُ: ومِن العلماء مَن يَذكُرُ أنَّ مِن أسبابِ تَعَذُّرِ الإطِّلاعِ على الإجماعِ بعدَ عَصْرِ الصحابةِ انتِشارَ المُجمِعِين شرقًا وغربًا، وجوازَ خَفاءِ واحِد منهم بأنْ يكونَ أسِيرًا أو مَحبوسًا أو مُنقَطِعا عنِ الناسِ، وجوازَ أنْ يكونَ أحدُهم خامِلَ الذِّكْرِ بحيث لا يُعْرَفُ أنَّه مِن المُجْتَهِدِين، وجوازَ أنْ يَكْذِبَ بعضُهم فَيُفْتِي على خِلافِ اعتِقادِه خَوْفًا مِن سُلطانٍ جائرٍ.

 

(5)إدخال القبر النبوي في المسجد كان بعدَ مَوْتِ الصحابة رضي الله عنهم: يقولُ الشيخُ عَلِيُّ بْنُ عبدالعزيز الشبل (أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة في جامعة الإمام محمد بن سعود) في (عمارة مسجد النبي عليه السلام): ومِمَّا يجب أنْ يُعْلَمَ أنَّ صَنِيعَ الوليد بن عبدالملك هذا، إنما كان بعدَ مَوْتِ الصحابة رضي الله عنهم، فلم يَكُنْ يَجْرُؤُ على هذا العِنادِ بهذا الصَّنِيعِ في عَهْدِ الصحابة رضي الله عنهم. انتهى.

 

ويقول الشيخ الألباني في كتابه (تحذير الساجد): وخلاصةُ القولِ أنه ليس لدينا نَصٌّ تَقُومُ به الحُجَّةُ على أنَّ أحَدا مِن الصحابة كان في عَهْدِ عملية التغيير هذه، فَمَنِ اِدَّعَى خِلَافَ ذلك فعَلَيْهِ الدليلُ. انتهى.

 

ويقول الشيخ الألباني أيضا في كتابه (تحذير الساجد): فصارَ القبرُ بذلك في المسجد، ولم يَكُنْ في المدينة أحدٌ مِن الصحابة حينذاك خلافا لِمَا تَوَهَّمَ بعضُهم. انتهى.

 

ويَقولُ الشيخُ الألبانِيُّ أيضًا في (الثمر المستطاب): ذَكَرَ اِبْنُ عبدالهادي عن شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ أنَّ المَسجِدَ لَمَّا زادَ فيه الوليدُ وأُدْخِلَتْ فيه الحُجْرَةُ كان قد ماتَ عامَّةُ الصَّحابةِ ولم يَبْقَ إلَّا مَن أدْرَكَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ولم يَبْلُغْ سِنَّ التَّميِيزِ الذي يُؤْمَرُ فيه بالطَّهارةِ والصَّلاةِ، ومِنَ المَعلومِ بالتَّواتُرِ أنَّ ذلك كانَ في خِلَافةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِالْمَلِكِ. انتهى.

 

(6)رَدًّا على مَن زَعَمَ عدمَ إنكارِ أحَدٍ مِنَ السَّلَفِ إدخالَ قَبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في مَسجِدِه، قالَ الشيخُ الألبانِيُّ في (تحذير الساجد): وأمَّا قولُهم {ولم يُنْكِرْ أحَدٌ مِنَ السَّلَفِ ذلك}، فَنَقولُ، وما أدراكم بذلك؟، فإنَّ مِن أصْعَبِ الأشياءِ على العُقَلاءِ إثباتَ نَفْيِ شَيءٍ يُمْكِنُ أنْ يَقَعَ ولم يُعْلَمْ كما هو مَعروفٌ عند العلماءِ، لأنَّ ذلك يَستلزِمُ الاستِقراءَ التامَّ والإحاطةَ بِكُلِّ ما جَرَى... ثم قالَ -أَيِ الشيخُ الألبانِيُّ-: والحقيقةُ أنَّ قولَهم هذا يَتضمَّنُ طَعْنًا ظاهِرًا لو كانوا يَعلَمون في جَمِيعِ السَّلَفِ، لأنَّ إدخالَ القبرِ إلى المسجدِ مُنْكَرٌ ظاهِرٌ عند كُلِّ مَن عَلِمَ بتلك الأحادِيثِ المُتَقَدِّمةِ وبِمعانِيها، ومِنَ المُحالِ أنْ نَنْسِبَ إلى جَمِيعِ السَّلَفِ جَهْلَهم بذلك، فَهُمْ أو -على الأَقَلِّ- بَعْضُهم يَعْلَمُ ذلك يَقِينًا، وإذا كانَ الأَمْرُ كذلك فلا بُدَّ مِنَ القَوْلِ بأنهم أَنْكَرُوا ذلك، ولو لم نَقِفْ فيه على نَصٍّ، لِأنَّ التارِيخَ لم يَحْفَظْ لنا كُلَّ ما وَقَعَ، فكيفَ يُقالُ {إنَّهم لم يُنْكِرُوا ذلك}؟ اللَّهُمَّ غَفْرًا. انتهى.

 

قلتُ: بنفس طريقة رَدِّ الشيخ الألباني على مَن زَعَمَ عَدَمَ إنكار أحد مِن السَّلَفِ إدخال قبر النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده، يُمْكِنُ أن يَتِمَّ الرَّدُّ على مَن زَعَمَ أن أحدا مِن السَّلَفِ لم يُنْكِر الصلاةَ في المسجد النبوي حالَ وُجُودِ ثلاثة قبور بِداخِله.

 

(7)يَسْتَحِيلُ وُجُودُ إجماعٍ صحيحٍ على خِلَاف حديثٍ صحيحٍ دون وُجُود ناسِخٍ صحيحٍ: قالَ الشيخُ الألباني رَادًّا على مُخالِفِيه القائلِين بوُجُودِ إجماعٍ على إباحة الذهب مُطْلَقا للنساء: لو كان يُمكِنُ إثباتُ الإجماع في الجُمْلَةِ لَكانَ ادِّعاؤه في خُصُوصِ هذه المسألة غير صحيح لأنه مُناقِضٌ للسُّنَّةِ الصحيحةِ، وهذا مِمَّا لا يُمكِنُ تَصوُّرُه أيضا لأنه يَلزَمُ منه اجتماعُ الأُمَّة على ضَلَالٍ، وهذا مُستحِيلٌ لقوله صلى الله عليه وسلم {لا تجتمعُ أُمَّتِي على ضلالةٍ}، ومِثْلُ هذا الإجماع لا وُجُودَ له إلا في الذِّهْنِ والخَيَالِ، ولا أَصْلَ له في الوُجُودِ والواقِعِ... ثم قال -أي الشيخ الألباني-: قال أبو محمد بن حزم رحمه الله تعالى في أصول الأحكام {وقد أجازَ بعضُ أصحابنا أن يَرِدَ حديثٌ صحيحٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم ويكون الإجماعُ على خِلَافِه، قال (وذلك دليلٌ على أنه مَنسوخٌ)، وهذا عندنا خطأٌ فاحشٌ مُتَيَقَّنٌ لِوَجْهَين بُرهانِيَّين ضرورِيَّين؛ أحدهما أن وُرُودَ حديث صحيح يَكُونُ الإجماعُ على خِلَافِه مَعدومٌ، لم يَكُنْ قط ولا هو في العالَمِ، فمَن ادَّعَى أنه موجودٌ فَلْيَذْكُره لنا ولا سَبِيلَ له -والله- إلى وُجودِه أبدا؛ والثاني أن الله تعالى قد قال (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) فمَضْمُونٌ عند كُلِّ مَن يُؤْمِن بالله واليوم الآخر أنَّ ما تَكفَّل اللهُ عز وجل بحفظِه فهو غيرُ ضائعٍ أبدا، لا يَشُكُّ في ذلك مسلمٌ، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم كله وحْيٌ بقوله تعالى (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)، والوَحْيُ ذِكْرٌ بإجماع الأُمَّة كلها، والذِّكْر محفوظٌ بالنَّصِّ، فكلامه عليه السلام محفوظٌ بحِفْظِ الله تعالى عز وجل ضَرُورةً، مَنقولٌ كله إلينا، لا بُدَّ مِن ذلك، فلو كان هذا الحديثُ الذي اِدَّعَى هذا القائلُ أنه مُجْمَعٌ على تَرْكِه وأنه منسوخٌ كما ذَكَرَ، لكان ناسِخُه الذي اتَّفَقُوا عليه قد ضاعَ ولم يُحفَظْ، وهذا تكذيبٌ لله عز وجل في أنه حافظٌ للذكْرِ كُلِّه، ولو كان ذلك لَسَقَطَ كثيرٌ مِمَّا بَلَّغَ عليه السلامُ عن رَبِّه، وقد أَبْطَلَ ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في قوله في حجة الوداع (اللهم هلْ بلغت؟)}؛ قالَ [أيِ اِبنُ حَزْمٍ] {ولَسْنا نُنْكْرُ أن يكون حديثٌ صحيحٌ وآيةٌ صحيحةُ التِّلاوةِ مَنسوخَيْن إمَّا بحديثٍ آخَرَ صحيحٍ وإمَّا بآيّةٍ مَتْلُوَّةٍ ويكون الاتِّفاقُ على النسخِ المذكورِ قد ثَبَتَ بل هو مَوْجُودٌ عندنا، إلا أننا نقول (لا بُدَّ أن يكون الناسِخُ لهما مَوْجُودا أيضا عندنا مَنْقُولا إلينا مَحفوظا عندنا مُبَلَّغا نحونا بِلَفْظِه قائِمَ النَّصِّ لدينا) لا بُدَّ مِن ذلك، وإنما الذي مَنَعْنا منه فهو أن يكون المنسوخُ مَحفوظا منقولا مُبَلَّغا إلينا ويكون الناسِخُ له قد سَقَطَ ولم يُنْقَلْ إلينا لَفْظُه، فهذا باطِلٌ عندنا، لا سبيلَ إلى وُجُودِه في العالَمِ أَبَدَ الأَبَدِ، لأنه معدومٌ الْبَتَّةَ، قد دَخَلَ -بأنه غيرُ كائنٍ- في باب المُحالِ والمُمتَنِعِ عندنا، وبالله تعالى التوفيق}. انتهى من كتاب آداب الزفاف.

 

(8)لا يَصِحُّ أن تُقَدَّمَ على السُّنَّة دَعَوى إجماع ليس معها كتابٌ ولا سُنَّةٌ: يقول الشيخُ الألباني- في (آداب الزفاف)- رَادًّا على مُخالفِيه القائلِين بوُجُودِ إجماعٍ على إباحة الذَّهَبِ مُطْلَقًا للنساء: وقال العلَّامةُ المحقِّقُ ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى {ولم يَزَلْ أئمَّةُ الإسلام على تقديم الكتاب على السُّنَّةِ، والسُّنَّة على الإجماع، وجَعْلِ الإجماع في المرتبة الثالثة، قال الشافعي (الحُجَّة كتابُ اللهِ وسُنَّةُ رسوله واتِّفاقُ الأئمَّة)، وقال في كتاب اختلافه مع مالك (والعِلْمُ طَبَقاتٌ، الأُولى الكتابُ والسُّنَّةُ الثابتةُ، ثم الإجماع فيما ليس كِتَابًا ولا سُنَّةً)}... وقالَ اِبْنُ القيم أيضًا في صَدَدِ بيان أصول فتاوى الإمام أحمد {ولم يَكُنْ -يعني الإمام أحمد- يقدِّمُ على الحديث الصحيح عَمَلا ولا رَأْيا ولا قِيَاسا ولا قَوْلَ صاحِبٍ، ولا عَدَمَ عِلْمِه بالمُخالِف الذي يُسمِّيه كثيرٌ مِن الناس إجماعا ويُقَدِّمُونه على الحديثِ الصحيحِ، وقد كَذَّبَ أحمدُ مَن ادَّعَى هذا الإجماعَ وَلَمْ يُسِغْ تَقْدِيمَهُ على الحديثِ الثابِتِ، وكذلك الشافعي... ونُصوصُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أجَلُّ عند الإمام أحمد وسائر أئمَّة الحديثِ مِن أن يُقَدِّمُوا عليها تَوَهُّمَ إجماعٍ مَضْمُونه عَدَمُ العِلْمِ بالمُخالِفِ، ولو ساغَ لَتعطَّلت النصوصُ وساغَ لِكُلِّ مَن لم يَعلَمْ مُخالِفا في حُكْمِ مسألةِ أن يُقدِّمَ جَهْلَه بالمُخالِفِ على النصوصِ}. انتهى.

 

ويقول ابنُ القيم في (إعلام الموقعين): وَصَارَ مَن لم يَعرِفِ الخِلَافَ مِنَ المُقَلِّدِين إذا احْتُجَّ عليه بالقرآن والسُّنَّة قالَ {هذا خِلَافُ الإجماع}، وهذا هو الذي أنْكَرَه أئمَّةُ الإسلام، وعابُوا مِن كُلِّ ناحِيةٍ على مَن ارْتَكَبَه، وكَذَّبوا مَن ادَّعاه، فقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبدالله {مَن ادَّعَى الإجماعَ فهو كاذِبٌ، لَعَلَّ الناس اختلفوا، هَذِهِ دَعْوَى بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَالأَصَمِّ، ولكن يقولُ لا نَعْلَمُ الناسَ اختلفوا، أو لم يَبْلُغْنا}. انتهى.

 

ويقول ابنُ القيم أيضا في (إعلام الموقعين): وقد كان السَّلَفُ الطَّيِّبُ يَشْتَدُّ نَكِيرُهم وغَضَبُهم على مَن عارَضَ حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم برَأْيٍ أو قِياسٍ أو استحسانٍ أو قولِ أحَدٍ مِن الناس كائنا مَن كان، ويَهْجُرُون فاعِلَ ذلك، وَيُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَضْرِبُ له الأَمْثَالَ، ولا يُسوِّغون غير الانقيادِ له والتسليمِ، والتَّلَقِّي بالسمع والطاعة، ولا يَخْطُرُ بقلوبهم التَّوقُّفُ في قُبُوله حتى يَشهَد له عَمَلُ أو قياسٌ أو يُوافِق قولَ فلانٍ وفلانٍ، بل كانوا عامِلِين بقوله {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخِيَرَة مِن أمْرِهم} وبقوله تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شَجَرَ بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا ممَّا قضيتَ ويُسَلِّموا تسليما} وبقوله تعالى {اتبعوا ما أُنْزِلَ إليكم مِن ربكم ولا تتبعوا مِن دونه أولياء قليلا ما تذكرون} وأمثالها، فَدُفِعْنَا إلى زَمانٍ إذا قِيلَ لأحَدِهم "ثَبَتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا وكذا" يقول "مَن قال بهذا؟" ويَجعَل هذا دَفْعًا في صَدْرِ الحديثِ، أو يَجعَل جَهْلَه بالقائِلِ به حُجَّةً له في مُخالَفَتِهِ وتَرْكِ العَمَلِ به، ولو نَصَحَ نَفْسَهُ لَعَلِمَ أنَّ هذا الكلامَ مِن أعظم الباطِلِ، وأنه لا يَحِلُّ له دَفْعُ سُنَنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمِثْلِ هذا الجَهْلِ، وأَقْبَحُ مِن ذلك عُذْرُهُ فِي جَهْلِهِ، إذْ يَعتقِد أنَّ الإجماعَ مُنْعَقِدٌ على مُخالفَةِ تلك السُّنَّة، وهذا سُوءُ ظَنٍّ بجماعة المسلمين، إذ يَنْسُبُهُمْ إلى اتِّفاقِهم على مُخالَفَةِ سُنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأَقْبَحُ مِن ذلك عُذْرُهُ فِي دَعْوَى هذا الإجماع، وهو جَهْلُه وعَدَمُ عِلْمِهِ بِمَن قال بالحديثِ، فعَادَ الأمْرُ إلى تَقديمِ جَهْلِه على السُّنَّة، والله المستعان؛ ولا يُعْرَفُ إمامٌ مِن أئمَّةِ الإسلامِ الْبَتَّةَ قال "لا نَعْمَلُ بحديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نَعْرِف مَن عَمِلَ به، فَإِنْ جَهِلَ مَن بَلَغَهُ الحديثُ مَن عَمِلَ به لم يَحِلَّ له أن يَعْمَلَ به" كما يقولُ هذا القائلُ. انتهى.

 

ويقول الشيخُ محمد بن عبدالوهاب في (باب مَن أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحَلَّ اللهُ أو تحليل ما حرَّم اللهُ فقد اتَّخذهم أربابا مِن دون الله) مِن كتاب التوحيد: وقال ابن عباس {يُوشَك أن تَنْزل عليكم حجارةٌ مِن السماء، أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون قال أبو بكر وعمر؟}، وقال الإمام أحمد {عَجبْتُ لقومٍ عَرَفُوا الإسنادَ وصحتَه ويَذهَبُون إلى رَأْيِ سفيان، واللهُ تَعالَى يَقولُ (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، أَتَدْرِي ما الفِتْنَةُ؟، الفِتنةُ الشِّرْكُ، لَعَلَّه إذا رَدَّ بَعضَ قَولِه أنْ يَقَعَ في قَلْبِه شَيءٌ مِنَ الزَّيْغِ فَيَهْلك}، عن عدي بن حاتم {أنه سَمِع النبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقرأ هذه الآيةَ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا، لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)، فقُلتُ له (إنَّا لَسْنا نَعْبُدُهم)، قال (أَلَيْسَ يُحَرِّمُون ما أَحَلَّ اللهُ فتُحَرِّمُونه؟، ويُحِلُّون ما حَرَّمَ اللهُ فتُحِلُّونه؟)، فقلتُ (بلى)، قال (فتلك عِبَادَتُهم)} رَواه أحمد والترمذي وحَسَّنَه. انتهى.

 

ويقول الشيخُ ابن عثيمين في (القولِ المفيد على كتاب التوحيد): بعض الناس يَرْتَكِبُ خطأً فاحِشا، إذا قِيلَ له {قال رسولُ الله}، قال {لكن في الكتاب الفُلَانِيِّ كذا وكذا}، فعليه أنْ يَتَّقي اللهَ الذي قالَ في كتابه {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} ولم يَقُلْ {ماذا أَجَبْتُم فلانا وفلانا}، أمَّا صاحب الكتاب فإنه إن عُلِمَ أنه يُحِبُّ الخيرَ ويُريدُ الحقَّ، فإنه يُدْعَى له بالمغفرة والرحمة إذا أَخْطَأَ، ولا يُقالُ {إنه معصومٌ} يُعارَضُ بقولِه قولُ الرسولِ. انتهى.

 

وقالَ اِبْنُ القَيِّمِ في كِتابِه (الروح): تجريدُ المتابعة [يعني متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم] ألَّا تُقَدِّمَ على ما جاء به قَوْلَ أحَدٍ ولا رَأْيَه كائنًا مَن كانَ، بَلْ تَنْظُرُ في صِحَّةِ الحديثِ أوَّلًا، فإذا صَحَّ لك نَظَرْتَ في مَعْناه ثانِيًا، فإذا تَبَيَّنَ لك لم تَعدِلْ عنه ولو خالَفَكَ مَن بَيْنَ المشرق والمغرب، ومعاذَ الله أن تَتَّفِقَ الأُمَّةُ على مُخالَفَةِ ما جاء به نبيُّها، بل لا بُدَّ أن يكون في الأُمَّةِ مَن قال به، ولو لم تَعْلَمْه، فلا تَجْعَلْ جَهْلَكَ بالقائل به حُجَّةً على الله ورسوله، بل اذهبْ إلى النَّصِّ ولا تَضْعُفْ، واعْلَمْ أنه قد قال به قائلٌ قَطْعًا، ولكن لم يَصِلْ إليك. انتهى.

 

وقالَ اِبْنُ القَيِّمِ أيضًا في كِتابِه (كِتابُ الصَّلاةِ): وقَدِ اِتَّخَذَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ دَعوَى النَّسخِ والإجماعِ سُلَّمًا إلى إبطالِ كَثِيرٍ مِنَ السُّنَنِ الثَّابِتةِ عن رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس بِالهَيِّنِ... ثم قالَ -أيِ اِبْنُ القَيِّمِ-: ولا تُتْرَكُ لِرَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُنَّةٌ صَحِيحةٌ أبَدًا بِدَعوَى إجماعٍ ولا دَعوَى نَسخٍ، إلَّا أنْ يُوْجَدَ ناسِخٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ مُتَأَخِّرٌ نَقَلَتْه الأُمَّةُ وحَفِظَتْه، إذ مُحالٌ على الأُمَّةِ أنَّ تُضَيِّعَ النَّاسِخَ الذي يَلزَمُهَا حِفظُه وتَحفَظَ المَنسوخَ الذي قد بَطَلَ العَمَلُ به ولم يَبْقَ مِنَ الدِّينِ، وكَثِيرٌ مِنَ المُقَلِّدةِ المُتَعَصِّبِين إذا رَأَوْا حَدِيثًا يُخالِفُ مَذهَبَهم يَتَلَقَّونه بِالتَّأْوِيلِ وحَمْلِه على خِلافِ ظاهِرِه ما وَجَدوا إليه سَبِيلًا، فإذا جاءَهم مِن ذلك ما يَغلِبُهم [أيْ إذا أعجَزَهم التَّأْوِيلُ] فزِعُوا إلى دَعوَى الإجماعِ على خِلافِه، فَإنْ رَأَوْا مِنَ الخِلافِ ما لا يُمكِنُهم معه دَعوَى الإجماعِ [أيْ إذا ثَبَتَ الخِلافُ] فَزِعُوا إلى القَولِ بِأَنَّه مَنسوخٌ!، وليست هذه طَرِيقَ أئمَّةِ الإسلامِ، بَلْ أئمَّةُ الإسلامِ كُلُّهم على خِلافِ هذه الطَّرِيقِ، وأنَّهم إذا وَجَدوا لِرَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُنَّةً صَحِيحةً صَرِيحةً لم يُبطِلوها بِتَأْوِيلٍ ولا دَعوَى إجماعٍ ولانَسخٍ، والشَّافِعِيُّ وأحمَدُ مِن أعظَمِ النَّاسِ إنكارًا لِذلك. انتهى.

 

ويقولُ الشيخُ الألباني في السلسلة الصحيحة: لا يَضُرُّ الحَدِيثَ ولا يَمْنَعُ العَمَلَ به عَدَمُ العِلْمِ بِمَن قالَ به مِنَ الفُقَهاءِ، لِأنَّ عَدَمَ الوِجْدانِ لا يَدُلُّ على عَدَمِ الوُجودِ. انتهى.

 

وقال ابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام: فَكُلّ مَن أدَّاه البرهانُ مِن النَّصِّ أو الإجماع المُتَيَقَّنِ إلى قَوْلٍ ما، ولم يُعرَف أحدٌ قبْلَه قال بذلك القولِ، ففَرْضٌ عليه القولُ بما أدَّى إليه البرهانُ، ومَن خالَفَه فقد خالَفَ الحَقَّ، ومَن خالَفَ الحَقَّ فقد عَصَى اللهَ تعالى، قال تعالى {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}، ولم يَشترِطْ تعالى في ذلك أن يَقولَ به قائلٌ قبْلَ القائلِ به، بل أَنْكَرَ تعالى ذلك على مَن قالَه، إذ يقول عز وجل حاكِيًا عنِ الكفارِ مُنْكِرا عليهم أنهم قالوا {ما سمعنا بهذا في المِلَّةِ الآخرة إن هذا إلا اختلاق}؛ ومَن خَالَفَ هذا فقد أنْكَرَ على جميعِ التابِعِين وجميعِ الفقهاءِ بعدَهم، لأن المسائل التي تَكلَّم فيها الصحابةُ رضي الله عنهم مِن الاعتقاد أو الفُتْيَا، فَكُلُّها محصورٌ مضبوطٌ معروفٌ عند أهلِ النَّقلِ مِن ثقاتِ المُحَدِّثِين وعلمائهم، فَكُلُّ مسألةٍ لم يُرْوَ فيها قولٌ عن صاحبٍ، لكن عن تابِعٍ فمَن بعدَه، فإن ذلك التابِعَ قالَ في تلك المسألة بقولٍ لم يَقُلْه أحَدٌ قَبْلَه بلا شَكّ، وكذلك كُلّ مسألةٍ لم يُحْفَظْ فيها قولٌ عن صاحبٍ ولا تابِعٍ، وتَكلَّمَ فيها الفقهاءُ بعدَهم، فإن ذلك الفَقِيهَ قد قالَ في تلك المسألةِ بقولٍ لم يَقُلْه أحَدٌ قَبْلَه، ومَن ثَقِفَ هذا البابَ فإنه يَجِدُ لأبي حنيفة ومالك والشافعي أَزْيَدَ مِن عشرة آلاف مسألة لم يَقُلْ فيها أحَدٌ قَبْلَهم بما قالوه، فكيف يُسوِّغُ هؤلاء الجُهَّالُ للتابعِين ثم لِمَن بَعْدَهم أن يقولوا قولا لم يَقُلْه أحَدٌ قَبْلَهم، ويُحَرِّمُ ذلك على مَن بَعْدَهم إلينا ثم إلى يوم القيامة، فهذا مِن قائلِه دَعْوَى بلا بُرهان، وتَخرُّصٌ في الدِّين، وخلاف الإجماع على جواز ذلك لمَن ذَكَرنا، فالأمْرُ كما ذَكَرنا، فمَن أرادَ الوقوفَ على ما ذكرنا فَلْيَضْبِط كُلَّ مسألةٍ جاءت عن أحَدٍ مِن الصحابة، فَهُم أَوَّلُ هذه الأُمَّة، ثم لِيَضْرِب بيده إلى كُلِّ مسألةٍ خَرَجَتْ عن تلك المسائل، فإن المُفتِي فيها قائلٌ بقولٍ لم يَقُلْه أحَدٌ قَبْلَه. انتهى.

 

ويقول ابن القيم في (إعلام الموقعين): إذا كان عند الرجُل الصحيحان [أيْ صحيحا البخاري ومسلم]، أو أحدُهما، أو كتابٌ مِن سُنَن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَوثوق بما فيه، فهلْ له أن يُفْتِي بما يَجِدُه فيه؟ فقالت طائفةٌ مِن المُتأخِّرِين "ليس له ذلك، لأنه قد يكون منسوخا، أو له مُعارِضٌ، أو يَفْهَمُ مِن دَلَالَتِه خِلَافَ ما يَدُلُّ عليه، أو يكون أمْرَ نَدْبٍ فيَفْهَمُ منه الإيجابَ، أو يكون عامّا له مُخصِّصٌ، أو مُطْلَقا له مُقيِّدٌ، فلا يجوزُ له العَمَلُ ولا الفُتْيَا به حتى يَسأل أهْلَ الفِقْهِ والفُتْيَا"؛ وقالت طائفةٌ "بل له أن يَعْمَلَ به، ويُفْتِي به، بل يَتَعَيَّنُ عليه، كما كان الصحابةُ يَفعلون، إذا بَلَغَهم الحديثُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحَدَّثَ به بعضُهم بعضا بادَرُوا إلى العَمَلِ به مِن غير تَوَقُّفٍ ولا بَحْثٍ عن مُعارِضٍ، ولا يقول أحدٌ منهم قط هل عَمِلَ بهذا فلانٌ وفلانٌ؟ ولو رَأَوْا مَن يَقُول ذلك لَأنْكَرُوا عليه أَشَدَّ الإنكار، وكذلك التابعون، وهذا معلومٌ بالضرورة لمَن له أدْنَى خِبْرَةٍ بِحَالِ القَوْمِ وسِيرَتِهم، وطُولُ العَهْدِ بالسُّنَّةِ، وَبُعْدُ الزَّمَانِ وَعِتْقُهَا، لَا يُسَوِّغُ تَرْكَ الأخْذِ بها والعَمَلَ بغيرها، ولو كانت سُنَنُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يَسُوغُ العَمَلُ بها بعدَ صِحَّتِها حتى يَعْمَلَ بها فلانٌ أو فلانٌ لَكانَ قولُ فُلَانٍ أو فُلَانٍ عِيَارًا على السُّنَنِ وَمُزَكِّيًا لها وَشَرْطًا في العَمَلِ بها، وهذا مِن أَبْطَل البَاطِلِ، وقد أقامَ اللهُ الحُجَّةَ برسوله دُونَ آحَادِ الأُمَّةِ، وقد أَمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بتَبْلِيغِ سُنَّتِه، وَدَعَا لِمَن بَلَّغَهَا، فلو كان مَن بَلَغَتْهُ لَا يَعْمَلُ بها حتى يَعْمَلَ بِهَا الإِمَامُ فُلَانٌ والإِمَامُ فُلَانٌ لم يَكُنْ في تَبْلِيغِها فائدةٌ، وحَصَلَ الاكتفاءُ بقولِ فُلَانٍ وفُلَانٍ". انتهى.

 

ويقول ابنُ القيم في كتاب الروح: قَالَ الشَّافِعِي {أجْمَعَ النَّاسُ على أَنَّ مَنِ اِستبانَتْ لَهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ لم يَكُنْ لَهُ أَنْ يَدَعَهَا لِقَوْلِ أحَدٍ}. انتهى.

 

ويقول الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة: فتَشَبَّثْ به -يعني الحديث- وعُضَّ عليه بالنواجذ، وَدَعْ عنك آراءَ الرجال، فإنه إذا وَرَدَ الأَثَرُ بَطَلَ النَّظَرُ. انتهى.

 

 

المسألة السابعة والثلاثون

 

زيد: هَلْ يَجوزُ أنْ تُصَلَّى النافِلَةُ في المَسجِدِ النَّبَوِيِّ في أوقاتِ النَّهْيِ، لِمَا هو مَعروفٌ مِن فَضْلِ الصَّلاةِ في المَسجِدِ النَّبَوِيِّ؟.

 

عمرو: لا يجوز... جاء في هذا الرابط على موقع وكالة الرئاسة لشؤون المسجد النبوي التابع للرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي: يُسَنُّ للزائرِ أن يُصَلِّي الصلوات المفروضة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وما شاءَ اللهُ مِن النوافل في غيرِ وقتِ النَّهْيِ. انتهى. قلتُ: وهنا لاحظ -يرحمك الله- أن الوكالة لم تُقدِّمْ فضيلةَ الصلاة في المسجد النبوي على تَجَنُّب حُرْمَةِ الصلاةِ في أوقات النهي؛ فما بال مَن يُقَدِّم فضيلةَ الصلاةِ في المسجد النبوي على تَجَنُّب حُرْمَةِ الصلاةِ في مسجد فيه ثلاثة قبور، مع ما وَرَدَ في ذلك مِن لَعْنٍ، وَنَصَّ أهلُ العلم على أنه مِن الكبائر، وأنه ذَرِيعةٌ مُوَصِّلة إلى الشرك الأكبر، وأنه تَشَبُّه بِشِرارِ الخَلْقِ.

 

 

المسألة الثامنة والثلاثون

 

زيد: لَوْ قالَ رَجُلٌ "أنَا إذا صَلَّيْتُ في مَسجِدٍ مِن مَساجِدِ مَكَّةَ الهادِئةِ أَكُونُ أَخْشَعَ أكثَرَ بِكَثِيرٍ، وإذا صَلَّيْتُ في الحَرَمِ أَرَى زِحامًا شَدِيدًا جِدًّا، وتَبَرُّجَ نِساءٍ، أنَا أَكُونُ أَخْشَعَ في صَلاتِي في مَسجِدٍ مِن مَساجِدِ مَكَّةَ غَيْرَ الحَرَمِ"؛ فَهَلِ الأفضَلُ لِهذا الرَّجُلِ أنْ يُصَلِّيَ في المَسجِدِ الحَرامِ؟.

 

عمرو: لا... يقول الشيخ محمد صالح المنجد في هذا الرابط على موقعه: لو واحِد قالَ "أنا إذا صلَّيْتُ في مسجد مِن مساجد مكة الهادئة أَخْشَعُ أكثر بكثير، وإذا صلَّيْتُ في الحَرَمِ زِحام شديد جدًّا، وفتنة النساء تَبَرُّج النساء، صلاتي في مسجد مِن مساجد مكة غير الحَرَمِ أنا أَخْشَعُ"، قُلْنا أن المصلحةَ المتعلِّقةَ بذات العَمَلِ أو ذات العبادةِ مُقدَّمةٌ على المصلحةِ المتعلِّقةِ بِزَمانِ العبادةِ أو مكانِ العبادةِ، ومِن هنا يُمْكِنُ أن يُقال إن صلاتَه في ذلك المسجد أفضلُ بالنسبة له، لأن الخُشُوعَ أكثر. انتهى. قلت: وهنا لاحظ -يرحمك الله- أنَّ الشيخَ لم يُقدِّمْ فضيلةَ الصلاة في المسجد الحَرام على فضيلةِ الخُشُوع في الصلاة في مسجدٍ آخر، مع العلم بأن الصلاةَ في المسجد الحَرام -على ما سَبَقَ نَقْلُه عن الشيخ ابن باز- أفضلُ مِن مائة صلاة في مسجد النبي صلى اللَّه عليه وسلم؛ فما بال مَن يُقَدِّم فضيلةَ الصلاة في المسجد النبوي على تَجَنُّبِ حُرْمَةِ الصلاة في مسجد فيه ثلاثة قبور، مع ما وَرَدَ في ذلك مِن لَعْنٍ، وَنَصَّ أهلُ العلم على أنه مِن الكبائر، وأنه ذَرِيعةٌ مُوَصِّلَةٌ إلى الشرك الأكبر، وأنه تَشَبُّه بِشِرارِ الخَلْقِ.

 

 

المسألة التاسعة والثلاثون

 

زيد: هناك مَن يَزْعُمُ أنَّ إزالةَ القُبَّةِ الخَضراءِ التي على قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُتَعَذِّرٌ حالِيًّا، وأنَّ إرجاعَ المَسجِدِ النَّبَوِيِّ إلى ما كانَ عليه في عَهْدِ الصَّحابةِ مِن جِهةِ القَبْرِ أيضًا مُتَعَذِّرٌ حالِيًّا، وذلك بِسَبَبِ ما قَدْ يَتَرَتَّبُ على ذلك مِن فِتَنٍ يُثِيرُها القُبورِيُّون، مِن اِتِّهامِ العُلَماءِ والسَّاسَةِ الذِين سَيَقومون على عَمَلِيَّةِ التَّغيِيرِ هذه بِأنَّهم يُبْغِضُونَ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم ولا يَرْعَوْنَ حُرْمَتَه صلى الله عليه وسلم، ورُبَّما خَرَجَ هؤلاء القُبورِيُّون بِالسِّلاحِ على ساسَتِهم؛ ثُمَّ يَقولُ هذا الزاعِمُ أنَّه رُبَّما يَأْتِي جِيلٌ بَعْدَنا وَسْطَ ظُرُوفٍ أفْضَلَ مِن ظُرُوفِنا فَيَتَمَكَّنُ مِن إزالةِ هذه المُنْكَراتِ؛ فَهَلْ تَرَى أنَّ هذا الزَّعْمَ صَحِيحٌ؟.

 

عمرو: لا، هذا الزَّعْمُ ليس صَحِيحًا، وبَيَانُ ذلك في النِّقاطِ التالِيَةِ:

 

(1)هَلِ السَّجَّادُ الذي طالَبَ الشيخُ الألبانِيُّ بِرَفْعِه مِنَ المَسجِدِ -بِحَسَبِ ما مَرَّ ذِكْرُه- سيُثِيرُ القُبورِيِّين فيَخْرُجون بالسِّلاحِ على السَّاسَةِ؟!!! فَلِمَاذَا إِذَنْ لَمْ يُسْتَجَبْ لِمَا طَلَبَه الشيخُ؟!!!، وعلى كلِّ حالٍ لو رَجَعْتَ إلى كَلامِ الشيخِ الألبانِيِّ الذي مَرَّ بِنا في هذا الحِوارِ عنِ السَّجَّادِ المَذكورِ سَتَفْهَمُ السَّبَبَ الحَقِيقِيَّ في عَدَمِ التَّخَلُّصِ مِنَ المُنْكَراتِ التي ذكَرْتَها في سُؤالِكَ.

 

(2)الحَدِيثُ عن رَدَّاتِ فِعْلٍ مَظْنُونةٍ مِن قِبَلِ القُبورِيِّين -سَوَاءٌ كانوا رافِضةً أو أَفْرَاخَهم الصُّوفِيَّةَ- لا يَخْلُو مِن مُبالَغةٍ مَمْجُوجَةٍ، وَخَاصَّةً لو تَمَّ تَوجِيهُ المَجامِيعِ الفِقهِيَّةِ والهَيْئاتِ العِلمِيَّةِ المُنتَسِبةِ لِلسُّنَّةِ المنتَشِرةِ في شَتَّى أنحاءِ العَالَمِ إلى بَيَانِ الحُكْمِ الشَّرعِيِّ في هذه المُنْكَراتِ، وإلى إصدارِ تَوْصِيَّاتٍ بالقِيَامِ بِعَمَلِيَّة التَّغيِيرِ هذه، وَخَاصَّةً لو تَمَّ تَوجِيهُ جَمِيعِ وَسائلِ الإعلامِ إلى بَيَانِ الحُكْمِ الشَّرعِيِّ في هذه المُنْكَراتِ بِشَكْلٍ مُتَكَرِّرٍ يَضْمَنُ وُصُولَ البَيَانِ إلى جَمِيعِ الناسِ أو جُلِّهم.

 

(3)جِيلُ السَّاسَةِ الحالِيُّ هو الأَقْوَى شَوْكةً بين كُلِّ أجْيَالِ السَّاسَةِ التي حَكَمَتِ المَكَانِ، وليس بَعِيدًا عَنَّا وَأْدُ تَمَرُّدِ وتَمَدُّدِ الرافِضةِ في البحرين، واليمن، ومُحافَظة القطيف (ذاتِ الأَغْلَبِيَّةِ الشِّيعِيِّةِ)، وكذلك ليس بَعِيدًا عَنَّا إِعْدامُ المَرْجِعِ الشِّيعِيِّ نمر باقر النمر؛ ولذلك فإنَّ كُلَّ مُتَأَمِّلٍ لواقِعِ أيامِنا الحَالِيَّةِ يَعْلَمُ أنَّ سُلْطانَ الجِيلِ الحالِيِّ مِنَ السَّاسَةِ مُهَيْمِنٌ على المَكَانِ بِقُوَّةٍ، فَلَوْ تمَّ التَّخَلُصُ مِن هذه المُنْكَراتِ حَالِيًّا، رُبَّما لن يكونَ بِاستِطاعةِ أَيِّ أَحَدٍ مُجَرَّدُ الاحْتِجاجِ.

 

(4)مَقُولَةُ {إنَّ النَّاسَ سيُفْتَنُون}، مَتَى سَتَنْتَهِي؟!!!، الرسولُ صلى الله عليه وسلم نَهَى، ومُخالَفَةُ أَمْرِه هو عَيْنُ الفِتنةِ، وَهَا هُمُ النَّاسُ قَدْ فُتِنُوا، وجَعَلُوا هذه المُنْكَراتِ ذَرِيعةً في بِناءِ أَضْرِحَةِ وقِبابِ الشِّركِ!!!، وكُلَّما طالَ الوَقتُ عَظُمَتْ هذه البِدَعُ، وصارَ لها شَرْعِيَّةٌ أَكبَرُ في عُقولِ الناسِ، فَإِلَى مَتَى كُلُّ جِيلٍ يُلْقِي بِعِبْءِ إزالةِ هذه المُنْكَراتِ إلى الجِيلِ الذي بَعدَه؟!!!.

 

(5)عندما هَمَّ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِالْمَلِكِ بإدخالِ القُبورِ الثَّلاثةِ في المَسجِدِ لم يَخْشَ الفِتنةَ مع مُخالَفَتِه لِلعُلَماءِ وَقتَئذٍ!!! بينما إذا هَمَّ مَن بِأَيْدِيهِمُ الأمْرُ الآنَ بِتَصحِيحِ الوَضْعِ سيُبارِكُ فِعْلَهم كُلُّ العُلَماءِ المُنتَسِبِين لِلسُّنَّةِ في شَتَّى أنحاءِ العَالَمِ.

 

(6)لقد مَرَّ بنا في هذا الحِوارِ شَهاداتُ الشَّيخَين مُقْبِلٍ الوادِعِيِّ والألبانِيِّ والمَرْجِعِ الشِّيعِيِّ الإيرانيِّ جعفر السبحاني، عَمَّا يَحْصُل مِن مُخالَفاتٍ في المَسجِدِ النَّبَوِيِّ مِن جَرَّاءِ وُجُودِ القَبرِ بِداخِلِه، والتي منها ما هو شِرْكِيٌّ؛ فَأَيُّ فِتنةٍ بعدَ ذلك تَسْتَحِقُّ أنْ نَخْشَاها!!! أَلَيْسَ وُقوعُ الشِّركِ هو أعَظْمَ الفِتَنِ!!! أَلَيْسَ حِفْظُ الدِّينِ (مِن جانِبِ الوُجودِ ومِن جانِبِ العَدَمِ) هو أعلَى مَقاصِدِ الشَّرِيعةِ!!! أَلَيْسَ لِأجْلِ حِفْظِ الدِّينِ أَمَرَ اللهُ أنْ تُبْذَلَ الأَنْفُسُ والأموالُ!!!.

 

(7)مِنَ المَعلومِ أنَّ وَلَاءَ الرافِضةِ في جَمِيعِ دُوَلِ العالَمِ هو لِإيرَانَ التي تَسْعَى لِقِيَامِ إِمْبِرَاطُورِيَّةٍ عالَمِيَّةٍ رافِضِيَّةٍ، وَهُمْ في سَبِيلِهم لذلك لَا يَرْقُبُونَ فِي مُوَحِّدٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً، ويَوَدُّون أنْ يَتمكَّنوا مِن جَمِيعِ المُوَحِّدِين فيَمِيلُوا عَلَيهم مَّيْلَةً وَاحِدَةً، ولا يَدَّخِرون جُهْدًا في إيذاءِ واضطِهادِ المُوَحِّدِين في أيٍّ مِن مَناطِقِ نُفُوذِهم، سَوَاءً في إِيرَانَ أَوِ العراقِ أو بَعضِ المُحافَظاتِ اليَمَنِيَّةِ أو السُّورِيَّةِ، فإذَنْ هُمْ لا يَنتَظِرُون مَن يَقُومُ بِاستِفزازِهم لِيَقوموا بِإيذاءِ المُوَحِّدِين في مَناطِق نُفُوذِهم، أو في غيرِها (إنِ اِستَطاعوا)، فإذا كانَ الأَمْرُ كذلك فَمَا الذي يُخْشَى منهم إذا تَمَّ إزالةُ المُنْكَراتِ المَذكورةِ في السُّؤالِ؟!!!... أَخْشَى أنْ نَصِلَ إلى مُسْتَوى مِنَ الانْهِزامِيَّةِ والانْبِطاحِ إلى الدَّرَجَةِ التي يَأْتِي فيها يَومٌ نَسْمَعُ فيه مَن يَقولُ أنَّه على أهْلِ التَّوحِيدِ أنْ يَكُفُّوا عن تَوحِيدِهم سَدًّا لِذَرِيعَةِ اِسْتِفْزازِ الرافِضةِ وأَفْرَاخِهم الصُّوفِيَّةِ!!! بَلْ إنَّه مِن فِقْهِ المَرْحَلَةِ أنْ يَتَشَيَّعُوا لِيَحْظَوْا بِرِضاهم!!!.

 

 

المسألة الأربعون

 

زيد: ما المُرادُ بِقَولِهم "ما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلَّا بِه فَهُوَ واجِبٌ"؟.

 

عمرو: المُرادُ هو ما قاله الشيخ محمد حسن عبدالغفار في تيسير أصول الفقه للمبتدئين: أيّ شيءٍ واجبٍ عليك لا يُمْكِنُ أن تَصِلَ إليه إلا بأَمْرٍ آخر، فالأَمْرُ الآخرُ الذي سَيُوَصِّلُك إلى الواجبِ أيضًا واجبٌ، مثال ذلك، رجُلٌ يجِبُ عليه في الصلاة سَتْرُ العَوْرةِ، ومعه مالٌ وليس عنده ثِيابٌ، فيَجِبُ عليه شِراءُ الثَّوْبِ، فالأصلُ في شراءِ الثَّوْبِ أنه ليس بواجبٍ، لكن يجبُ هنا لِغيرِه، لِيَسْتُر عَوْرَتَه مِن أَجْلِ الصلاةِ. انتهى.

 

وقال الشيخ عبدالكريم الخضير في شرح الورقات: الأَمْر بإيجادِ الفِعْلِ أَمْرٌ به وبما لا يَتِمُّ الفِعْلُ إلا به، كالأَمْر بالصلاة أَمْرٌ بالطهارة، أَمْرٌ بالسُّتْرَةِ، أَمْرٌ بتحصيلِ الماءِ، أَمْرٌ بِقَصْدِ المسجدِ لأداءِ صلاةِ الجماعةِ، وهكذا... ثم قال: وإيجابُ الجماعة في المسجد إيجابٌ للذهابِ إليها، وإيجابُ أداءِ الشهادةِ إيجابٌ للذهاب إلى المحكمة وهكذا. انتهى.

 

وقال الشيخ عبدالله الغديان في شرح كتاب القواعد والفوائد الأصولية: مَجِيء الإنسان للمسجد لأداء الصلاة، فَمَشْيُه مِن بيته إلى المسجد هذا واجبٌ، لأن الصلاةَ واجِبةٌ وما لا يَتِمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ. انتهى.

 

وقالَ الشيخُ خالد المصلح (أستاذ الفقه في كلية الشريعة في جامعة القصيم) في هذا الرابط على موقعه: صلاة الجماعةِ على الراجِحِ مِن أقوالِ أهلِ العلمِ واجِبةٌ؛ فماذا نقولُ في حُكْمِ السَّعْيِ إلى صلاةِ الجماعةِ؟ الحُكمُ واجِبٌ. انتهى.

 

 

المسألة الحادية والأربعون

 

زيد: ما المُرادُ بِمَفْهُومِ المُوافَقَةِ؟.

 

عمرو: مَفْهُومُ المُوافَقَةِ -أو مَفْهُومُ الخِطَابِ أو التَّنْبِيهُ أو تَنْبِيهُ الخِطَابِ- هو أن يُفهَمَ حُكْمُ المَسْكُوتِ عنه مِن حُكْمِ المَنْطُوقِ به بِدَلَالَةِ سِيَاقِ الكلامِ، لاشْتِرَاكِهما في عِلَّةِ الحُكْمِ، وهذه العِلَّةُ تُدْرَكُ بِمُجَرَّدِ فَهْمِ اللُّغةِ، دون حاجَة إلى بحْثٍ وتَأَمُّلٍ واجتهادٍ؛ ولمفهوم المُوافَقَةِ صورتان، الصورة الأولى هي الصورة التي يكون فيها المَسْكُوتُ عنه أَوْلَى بالحُكْمِ مِن المنطوقِ به، ومثاله قول الله تعالى "فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ"، فإنه يُفهَمُ منه مِن بابٍ أَوْلَى النَّهيُ عن ضَرْبِهم أو شَتْمِهم، فَنَبَّهَ بِمَنْعِ الأدْنَى على مَنْعِ ما هو أوْلَى منه، وهو مَعنى يُدْرَكُ مِن غيرِ بحْثٍ ولا نَظَرٍ، وأمَّا الصورة الثانية فهي الصورة التي يكون فيها المسكوتُ عنه متساويا في الحُكْمِ مع المنطوقِ به، ومثاله قول الله تعالى "إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا" فقد دَلَّت الآيةُ بمنطوقها على تحريمِ أكْلِ أموال اليَتَامَى، ودَلَّتْ بمفهومها على تحريمِ إحراقها وإغراقها، وهذا هو المسكوتُ عنه، فَنَبَّهَ بالمَنْعِ مِن أكْلِ مال اليَتِيمِ على كل ما يُساوِيه في تَضْيِيعِ مال اليَتِيمِ. قلت: والصورة الأُولَى يُطْلَقُ عليها مفهومُ المُوافَقَةِ الأَوْلَوِيُّ وفَحْوَى الخِطَابِ وفَحْوَى اللفظِ، والصورة الثانية يُطْلَقُ عليها مفهومُ المُوافَقَةِ المُساوِي ولَحْنُ الخِطَابِ ولَحْنُ القولِ. قلتُ أيضًا: وقد يُعَبِّرُ البعضُ عن الصورة الأولى بِقِيَاسِ الأَوْلَى، والصورة الثانية بالقِيَاسِ المُساوِي.

 

 

المسألة الثانية والأربعون

 

زيد: أَسْكُنُ في قَرْيَةٍ صَغِيرةٍ نائِيَةٍ يَغْلِبُ على أهلِها الفَقْرُ الشَّدِيدُ، في هذه القَريَةِ كانَ يُوجَدُ رَجُلٌ ليس لَدَيْهِ أولادٌ ويَمْلِكُ بَيْتَيْن مُتَجاوِرَيْن، قامَ هذا الرَّجُلُ بِتَحوِيلِ أَحَدِ بَيْتَيْهِ إلى مَسجِدٍ، وبَعْدَ فَتْرَةٍ مِنَ الزَّمَنِ ماتَ هذا الرَّجُلُ داخِلَ بَيْتِه الذي يَعِيشُ فيه، فَدَفَنَه أقارِبُه -وكانَ غالِبِيَّتُهم مِنَ الْمُتَصَوِّفةِ- في قَبْرٍ داخِلَ الحُجْرَةِ التي ماتَ بِداخِلِها (وكانَتْ هذه الحُجرةُ صَغِيرةً وغَيْرَ مَسقوفةٍ وفي أحَدِ أركانِ المَنزِلِ)، ثم سَدُّوا مَوْضِعَيْ بابِ وشُبَّاكِ الحُجْرَةِ بالطُّوبِ، فَأصبَحَتِ الحُجْرَةُ بِدُونِ بابٍ أو شُبَّاكٍ، وبَعْدَ فَتْرَةٍ أُخرَى مِنَ الزَّمَنِ اِحتاجَ أهْلُ القَريَةِ إلى تَوْسِعةِ المَسجِدِ، لِأنَّ المَسجِدَ أصبَحَ لا يَسَعُ جَمِيعَ المُصَلِّين، فَطَلَبَ أهْلُ القَريَةِ مِنَ الدَّولةِ المُوافَقةَ على ضَمِّ جُزْءٍ مِنَ الطَّرِيقِ (الذي أمَامَ المَسجِدِ) إلى المَسجِدِ -حَيثُ أنَّ هذا الطَّرِيقَ كانَ واسِعًا جِدًّا فَوقَ الحاجَةِ- فرَفَضَتِ الدَّولةُ، فَحاوَلَ أهْلُ القَريَةِ شِراءَ البَيتِ الذي يَقَعُ خَلْفَ المَسجِدِ أو شِراءَ البَيْتِ المُجاوِرِ لِلمَسجِدِ مِن الجِهةِ المُقابِلَةِ لِلجِهةِ التي فيها البَيتُ الذي دُفِنَ فيه الرَّجُلُ، ولَكِنَّ أَهْلَ القَريَةِ لم يَستَطِيعوا جَمْعَ المالِ اللَّازِمِ لِشِراءِ أيٍّ مِن هَذَيْن البَيْتَيْن المَذكورَيْن، فَقامَ أقارِبُ المَيِّتِ بِالتَّدَخُّلِ في الأَمْرِ، فَعَرَضوا ضَمَّ البَيتِ الذي دُفِنَ المَيِّتُ في إحدَى حُجُراتِه إلى المَسجِدِ، وذلك بِشَرطِ القُبولِ بِضَمِّ البَيْتِ كامِلًا بِحَيْثُ تُصبِحُ الحُجْرَةُ التي فيها قَبْرُ الرَّجُلِ داخِلَ المَسجِدِ، فَاجتَمَعَ وُجَهاءُ القَريَةِ واجتَهَدوا الرَّأْيَ، فَأَخطَأُوا وقَبِلُوا، على الرَّغْمِ مِنِ اِعْتِراضِ أَهْلِ العِلْمِ في القَريَةِ على ذلك، فَأصبَحَتِ الحُجرةُ التي فيها القَبْرُ داخِلَ المَسجِدِ، فَبَنَوْا حَولَ جِدارِ الحُجرةِ جِدارًا ليس فيه بابٌ ولا شُبَّاكٌ ومَفتوحًا مِنَ الأعلَى (أَيْ ليس عليه سَقْفٌ) ومُرتَفِعًا بِقَدْرِ اِرتِفاعِ جِدارِ الحُجرةِ الذي يَقِلُّ عن مِترَين وجَعَلوا بَيْنَ هذا الجِدارِ وبَيْنَ جِدارِ الحُجرةِ فَضاءً بِمِقدارِ مِترَين مِن جَمِيعِ الاتِّجاهاتِ، ثم بَنَوْا حَولَ هذا الجِدارِ جِدارًا آخَرَ مِثْلَه مع تَركِ فَضاءٍ بينهما كالفَضاءِ السابِقِ ذِكْرُه، ثم أحاطوا هذا الجِدارَ الأخِيرَ بِجِدارٍ آخَرَ مِثْلِه مع تَركِ فَضاءٍ بينهما كالفَضاءِ السابِقِ ذِكْرُه، ثم أحاطوا هذا الجِدارَ الأخِيرَ بمَقصورةٍ مَفتوحةٍ مِنَ الأعلَى ومُرتَفِعةٍ بِقَدْرِ اِرتِفاعِ جِدارِ الحُجرةِ، والمَقصورةُ هذه عِبارةٌ عن سُورٍ حَدِيدِيٍّ يَبعُدُ عَنِ الجِدارِ الأخِيرِ بِمِقدارِ مِترَين مِن جَمِيعِ الاتِّجاهاتِ وفيه بابٌ واحِدٌ، فَأصبَحَ القَبْرُ مُحاطًا بِأربَعَةِ جُدرانٍ (ليس في أَيٍّ مِنْها بابٌ ولا شُبَّاكٌ) ومَقصُورةٍ فيها بابٌ واحِدٌ؛ والآنَ الوَضْعُ القائمُ داخِلَ المَسجِدِ هو وُجُودُ المَقصورةِ المَذكورةِ في أحَدِ أركانِ المَسجِدِ ولا يُمْكِنُ في الصَّلاةِ اِستِقبالُها أو الوُقوفُ عن يَمِينِها بَلْ فَقَطْ يُمْكِنُ اِستِدبارُها أو الوُقوفُ عن يَسارِها، كَما أنَّه لا يُسمَحُ لِأحَدٍ بِدُخولِ المَقصورةِ، وفي نَفْسِ الوَقتِ لم يَقُمْ أهلُ القَريَةِ بِعَمَلِ أَيِّ شَكْلٍ مِن أشكالِ الزَّخرَفةِ (سَوَاءٌ لِلمَسجِدِ أو لِلمَقبَرةِ)، ولم يَزِيدوا دَرَجاتِ مِنبَرِ المَسجِدِ فَوقَ ثَلاثِ دَرَجاتٍ، ولم يَصنَعوا مِحرابًا، ولم يَبنُوا مِئْذَنَةً، ولم يَبنُوا قُبَّةً (سَوَاءٌ في المَسجِدِ أو فَوقَ القَبرِ)، وفي نَفْسِ الوَقتِ فَإنَّ المُصَلِّين مِن أهلِ القَريَةِ مُتَفَهِّمون لِلأَمْرِ فلا يَحصُلُ منهم عند هذا القَبْرِ ما يَحصُلُ مِن مُخالَفاتٍ شَرعِيَّةٍ عند غَيْرِه مِنَ القُبورِ المَوجودةِ في المَساجِدِ الأُخرَى؛ والسُّؤالُ الآنَ هو ما حُكْمُ الصَّلاةِ في هذا المَسجِدِ الذي لا يُوجَدُ غَيْرُه في قَريَتِنا النائيَةِ الصَّغِيرةِ، عِلمًا بِأنِّي أعتَقِدُ صِحَّةَ مَذهَبِ الشَّيخَين اِبْنِ باز وسعد الخثلان مِن وُجُوبِ أداءِ الفَرِيضةِ في المَسجِدِ؟؛ وأرجو مِنكَ التَّرَيُّثَ قَبْلَ أنْ تُجِيبَ على سُؤالي هذا، وتَنَبَّهْ إلى أنَّكَ إذا مَنَعْتَ مِنَ الصَّلاةِ في هذا المَسجِدِ فَسَأُلْزِمُكَ بأنْ تَمْنَعَ مِنَ الصَّلاةِ في المَسجِدِ النَّبَوِيِّ مِن بابٍ أَوْلَى، وذلك لِلآتِي: (1)الرَّجُلُ المَذكورُ كان يَسْكُنُ في بَيْتِه المُلاصِقِ لِلمَسجِدِ، والرَّسولُ صلى الله عليه وسلم كَذَلِكَ. (2)الرَّجُلُ المَذكورُ دُفِنَ في بَيْتِه، والرَّسولُ صلى الله عليه وسلم كَذَلِكَ. (3)تَمَّ إدخالُ القَبرِ في مَسجِدِ القَريَةِ بِأَمْرٍ مِن وُجَهائها، واعْتَرَضَ على ذلك أهلُ العِلْمِ في القَريَةِ؛ وَكَذَلِكَ مَسجِدُ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم أُدْخِلَ فيه القَبرُ بِأَمْرٍ مِنَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِالْمَلِكِ، وقد اِعْتَرَضَ العُلَماءُ وَقْتَئِذٍ على ذلك. (4)الرَّجُلُ المَذكورُ دُفِنَ في حُجرَتِه التي ماتَ فيها والتي هي في المَسجِدِ الآنَ، والرَّسولُ صلى الله عليه وسلم كَذَلِكَ. (5)إذا كان أَخْطَأَ وُجَهاءُ القَريَةِ بإدخالِ قَبرِ الرَّجُلِ في مَسجِدِهم، فَكَذَلِكَ قَدْ أَخْطَأَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِالْمَلِكِ بإدخالِ القَبرِ النَّبَوِيِّ في المَسجِدِ وكانَ خَطَؤُه في أَحَدِ القُرونِ الخَيرِيَّةِ. (6)إذا كانَ إدخالُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِالْمَلِكِ لِلقَبرِ خَطَأً ولَكِنَّه قَدْ حَصَلَ، فَكَذَلِكَ كانَ إدخالُ وُجَهاءِ القَريَةِ لِلقَبرِ خَطَأً ولَكِنَّه قَدْ حَصَلَ. (7)وُجَهاءُ القَريَةِ لم يَتَمَكَّنوا مِن تَوْسِيعِ مَسجِدِهم بِدونِ إدخالِ قَبرِ الرَّجُلِ فيه، بَيْنَمَا الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِالْمَلِكِ كانَ بِإمكانِه تَوْسِيعُ المَسجِدِ بِدونِ إدخالِ القَبرِ النَّبَوِيِّ فيه وذلك بِأنْ يُوَسِّعَه مِن جَمِيعِ الجِهاتِ ما عَدَا الجِهةَ التي فيها القَبرُ. (8)القَبرُ في مَسجِدِ القَريَةِ مُحاطٌ بأربَعةِ جُدرانٍ ومَقصورةٍ، بَيْنَمَا القَبرُ في المَسجِدِ النَّبَوِيِّ مُحاطٌ بثَلاثةِ جُدرانٍ ومَقصورةٍ. (9)يُوجَدُ فَضاءٌ مِن جَمِيعِ الاتِّجاهاتِ بين كُلِّ جِدارٍ وآخَرَ مِنَ الجُدرانِ المَوجودةِ داخِلَ مَقصورةِ مَقبَرةِ مَسجِدِ القَريَةِ، بَيْنَمَا الجُدرانُ المَوجودةُ داخِلَ مَقصورةِ مَقبَرةِ المَسجِدِ النَّبَوِيِّ لا يُوجَدُ بينها فَضاءٌ إلَّا الفَضَاءَ الذي شَكْلُه مُثَلَّثٌ (والذي هو مَوجودٌ بين جِدارِ الحُجرةِ النَّبَوِيَّةِ والحائطِ المُخَمَّسِ). (10)مَسجِدُ القَريَةِ فيه قَبرٌ واحِدٌ، بَيْنَمَا المَسجِدُ النَّبَوِيُّ فيه ثَلاثةُ قُبورٍ. (11)لِأجْلِ مَقَامِ النُّبُوَّةِ ومَقامِ الصُّحبةِ، فإنَّ دَواعِيَ الافْتِتانِ بالْقُبُورِ الثَّلَاثَةِ أَشَدُّ مِن دَواعِي الافْتِتانِ بِقَبرِ الرَّجُلِ المَذكورِ. (12)كانَ ارْتِفَاعُ جِدَارِ الحُجرةِ التي دُفِنَ فيها الرَّجُلُ المَذكورُ يَقِلُّ عن مِترَين ولم يُزَدْ في اِرْتِفَاعِه بَعْدَ الدَّفنِ، وكانَ ارْتِفَاعُ جِدَارِ الحُجرةِ النَّبَوِيَّةِ يَقِلُّ أيضًا عن مِترَين ولَكِنْ في عَهْدِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِالْمَلِكِ تَمَّ هَدْمُ الجِدارِ وإعادةُ بِنَائِهِ بِارْتِفَاعِ "6.13 متر". (13)قَبرُ الرَّجُلِ المَذكورِ لا يَعْلُوه سَقْفٌ، بَيْنَمَا القَبرُ النَّبَوِيُّ مَبْنِيٌّ فَوقَه قُبَّتان فَوقَ بَعضِهما أعلاهُما ما يُعرَفُ بالقُبَّةِ الخَضراءِ. (14)مَسجِدُ القَريَةِ ليس بِهِ قُبَّةٌ، بَيْنَمَا المَسجِدُ النَّبَوِيُّ بِهِ مِائَةٌ وَسَبْعَةٌ وَتِسْعُونَ قُبَّةً. (15)مَسجِدُ القَريَةِ وَكَذَلِكَ المَقبَرةُ التي فيه لم يَتِمَّ زَخْرَفَتُهما، بَيْنَمَا كُلٌّ مِنَ المَسجِدِ النَّبَوِيِّ والمَقبَرةُ النَّبَوِيَّةُ تَمَّ زَخْرَفَتُهما على ما سَبَق نَقْلُه في هذا الحِوارِ عنِ الشَّيخِ مُقْبِلٍ الوادِعِيِّ. (16)مِنبَرُ مَسجِدِ القَريَةِ يَتَكَوَّنُ مِن ثَلاثِ دَرَجاتٍ مِثْلَمَا كانَ مِنبَرُ المَسجِدِ النَّبَوِيِّ على عَهدِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم وخُلَفائه الرَّاشِدِين، بَيْنَمَا مِنبَرُ المَسجِدِ النَّبَوِيِّ الآنَ يَتَكَوَّنُ مِنِ اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ دَرَجةً. (17)مَسجِدُ القَريَةِ ليس فيه مِحرابٌ، بَيْنَمَا المَسجِدُ النَّبَوِيُّ يَحتَوِي على سِتَّةِ مَحارِيبَ. (18)مَسجِدُ القَريَةِ ليس به مِئذَنةٌ، بَيْنَمَا المَسجِدُ النَّبَوِيُّ به عَشْرُ مَآذِنَ. (19)لا يُمْكِنُ اِستِقبالُ القَبرِ أثناءَ الصَّلاةِ في مَسجِدِ القَريَةِ، بَلْ فَقَطْ يُمْكِنُ اِستِدبارُه أوِ الوُقوفُ عن يَسارِه، بَيْنَمَا المَسجِدُ النَّبَوِيُّ يَحْصُلُ فيه أثناءَ الصَّلاةِ اِستِقبالٌ لِلقَبرِ على ما سَبَق نَقْلُه في هذا الحِوارِ عنِ الشُّيوخِ مُقْبِلٍ الوادِعِيِّ والألبانِيِّ ومحمد متولي الشعراوي الصُّوفِيِّ الأشعَرِيِّ. (20)مَسجِدُ القَريَةِ لا يَحْصُلُ فيه مِن جَرَّاءِ وُجُودِ القَبرِ بِداخِلِه مُخالَفاتٌ شَرعِيَّةٌ، بَيْنَمَا المَسجِدُ النَّبَوِيُّ يَحْصُلُ فيه مِن جَرَّاءِ وُجُودِ القَبرِ بِداخِلِه مُخالَفاتٌ منها ما هو شِرْكِيٌّ على ما سَبَق نَقْلُه في هذا الحِوارِ عنِ الشَّيخَين مُقْبِلٍ الوادِعِيِّ والألبانِيِّ والمَرْجِعِ الشِّيعِيِّ الإيرانِيِّ جعفر السبحاني. (21)إذا تَرَكْتُ أداءَ الفَرِيضةِ في مَسجِدِ القَريَةِ فَسَأَكُونُ قَدْ تَرَكْتُ واجِبًا لا مَندوبًا -وذلك حَسَبَ مَذهَبِي مِن وُجوبِ أداءِ الفَرِيضةِ في المَسجِدِ- لِأنَّه لَمَّا كانَ لا يُوجَدُ في هذه القَريَةِ مَسجِدٌ غَيرُ هذا المَسجِدِ، فيَكونُ تَوَجُّهِي لهذا المَسجِدِ بِعَيْنِه واجِبًا، لِأنَّ ما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلَّا به فهو واجِبٌ؛ بَيْنَمَا إذا تَرَكَ المُصَلِّي الصَّلاةَ في المَسجِدِ النَّبَوِيِّ (بِسَبَبِ وُجودِ القُبورِ الثَّلاثةِ بِداخِلِه) وصَلَّى في مَسجِدٍ آخَرَ فَلَنْ يَفُوتَه إلَّا فَضِيلةَ الصَّلاةِ في المَسجِدِ النَّبَوِيِّ، وهذه الفَضِيلةُ مَندوبةٌ (أَيْ مُستَحَبَّةٌ) لا واجِبةٌ، ويُمْكِنُ تَعْوِيضُها على ما سَبَقَ في هذا الحِوارِ مِن بَيَانِ أنَّ هناك في الشَّرِيعةِ الكَثِيرَ مِنَ الأعمالِ اليَسِيرةِ الجالِبةِ لأُجُورٍ كَبِيرةٍ؛ ومِنَ المَعلومِ أنَّ الواجِبَ أَعْلَى رُتْبَةً مِنَ المُستَحَبِّ، وقد مَرَّ بِنا قَوْلُ الشيخ محمد صالح المنجد {المَصلَحة الواجِبة مُقَدَّمةٌ على المَصلَحةِ المُستَحَبَّةِ}. والآنَ، ما رَدُّكَ يَا عَمْرُو علَى ما أَوْرَدْتُه عليك؟.

 

عمرو: أَمْهِلْني بَعضَ الوَقتِ لأُعاوِدَ مُراجَعَةَ المَسألةِ.

 

زيد: لَكَ ما أَرَدتَ.

 

 

وأخيرًا، أَسأَلُ اللهَ سبحانه وتعالى وجَلَّ في عُلَاه، أن يجعل كل عملي صالحًا، ولوجهه خالصًا، ولا يجعل لأحد مِن دونه في ذلك شيئًا، وصلي الله على محمد وآله وصحبه ومَن تَبِعَه بإحسان إلى يوم الدين، وآخر دعواي أن الحمد لله رَبِّ العالَمِين.

 

فَرَغْتُ مِن جَمعِه وتَرتِيبِه بِفَضلِ اللهِ تَعالَى وعَونِه

في الخامس عشر مِن ربيع الأوَّل سنة تسع وثلاثين وأربعمائة وألف

الفَقِيرُ إلى عَفْوِ رَبِّهِ

أَبُو ذَرٍّ التَّوحِيدِيُّ

AbuDharrAlTawhidi@protonmail.comانقر هنا للتواصل عبر البريد الإلكتروني

تابع الشيخ أبا سلمان الصومالي على:
فيسبوك
تويتر
يوتيوب
tgstat

 

 

تَنبِيهاتٌ مُهِمَّةٌ

 

(1)النُّسخةُ (docx) هي النُّسخةُ المُحَرَّرُ بها هذا الكِتابِ، وقد تَمَّ ذلك بِواسِطةِ استخدامِ البرنامجِ (Microsoft Office Professional Plus 2013).

 

(2)النُّسَخُ (doc وrtf وpdf وhtml وepub وmobi وazw3) هي نُسَخٌ مُنتَجةٌ آلِيًّا مِن خِلالِ النُّسخةِ (docx).

 

(3)تَتَمَيَّزُ النُّسخةُ (doc) عنِ النُّسخةِ (docx) مِن حيث أنَّها أسرَعُ بِكَثِيرٍ عند فَتحِها.

 

(4)إذا أَرَدتَ أنْ تُساهِمَ في نَشرِ هذا الكِتابَ، وفي نَفسِ الوَقتِ كُنتَ تُرِيدُ ألَّا يَتَعَرَّفَ أحَدٌ على هُوِيَّتِكَ، فَبِإمكانِك تَحقِيقُ ذلك، وذلك بِاستِخدامِ المُتَصَفِّحِ (Tor)، أو بِاستِخدامِ أحَدِ بَرَامِجِ الVPN المَجَّانِيَّةِ مِثلِ (hide.me أو psiphon3)، مع الأخذِ في الاعتِبارِ أنَّ (psiphon3) ليس بِمِثلِ قُوَّةِ المُتَصَفِّحِ (Tor) ولا بِمِثلِ قُوَّةِ (hide.me).

 

(5)إذا أَرَدتَ أنْ تُساهِمَ في نَشرِ هذا الكِتابَ وكانَ لَدَيْكَ عُضْوِيَّةٌ مَجَّانِيَّةٌ في مَوقِعِ أرشِيف (https://archive.org)، فَيُمكِنُك ذلك بِأنْ تَقومَ بِاستِنساخِ جَمِيعِ الهَيئَاتِ التي يُوجَدُ بها الكِتابُ، والتي هي تَتَمَثَّلُ في 98 مَلَفًّا مَوجودًا على هذا الرابط، ولا تَقتَصِرْ في نَسْخِكَ على المَلَفَّاتِ الثَّمَانِيَةِ التي يَحتَوِي كُلُّ مَلَفٍّ منها على نُسخةٍ كامِلةٍ مِنَ الكِتابِ، بَلِ اِحرِصْ على نَسْخِ ال98 مَلَفًّا، لِأنَّ المَلَفَّاتِ التي تَحْتَوِي على أجزاءٍ أو نُسَخٍ مُختَصَرةٍ تُساعِدُ على تَحسِينِ ظُهورِ مُحتَوَيَاتِ الكِتابِ في نَتائجِ مُحَرِّكاتِ البَحثِ؛ ثم بَعْدَ ذلك قُمْ بِرَفعِ ال98 مَلَفًّا بِجِوارِ مَلَفَّاتِكَ المُوجودةِ مُسبَقًا على مَوقِعِ أرشِيف.